القدس حضور ناقص في أدبنا الحديث

القدس حضور ناقص في أدبنا الحديث

لا تحضر القدس في أدبنا الحديث على النحو المطلوب. لهذا الأمر أسباب يمكن تذليلها بما يفضي إلى كتابة تمتد إلى آفاق أكثر انتشاراً، وبما يسهم على نحو أفضل في فضح هجمة التهويد التي تتعرض لها المدينة المقدسة الآن.

علي أن أشير إلى أنني قمت أخيراً برصد حضور المكان في اثنتي عشرة مجموعة قصصية لكاتبات وكتاب فلسطينيين، ظهرت مجموعاتهم القصصية في السنوات العشر الماضية، واشتملت على 258 قصة قصيرة. فوجدت أن مائة قصة من هذه القصص تتخذ من المدينة مكاناً لأحداثها، ولم أجد القدس إلا في عدد قليل جداً من هذه القصص، ربما بسبب عدم وجود كاتبة أو كاتب مقدسي بين الكتاب الاثني عشر، وربما بسبب عدم التنبه إلى أهمية الكتابة عن القدس وضرورتها الملحة.

ومن دون شك، فثمة أسباب كثيرة تستدعي التنبه إلى ذلك، من أهمها:

1 - المكانة التاريخية والدينية للقدس، باعتبارها مدينة عربية فلسطينية إسلامية ذات امتدادات مسيحية، ولها عراقتها في الماضي وفي الحاضر.

2 - ضعف الحضور العربي الإسلامي للقدس في العالم، بسبب قوة الدعاية الإسرائيلية المستندة إلى دعاية المنظمات الصهيونية واليهودية في بلدان كثيرة، وبالذات في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا، حيث تنتشر هناك الدعاية المتأثرة بالتوراة وما فيها من ذكر متواتر للقدس، دون أن يعني ذلك، كما بينت الحفريات الأثرية وبعض الدراسات المنبثقة عن هذه الحفريات، أن ما ورد في التوراة حول القدس هو حقائق تاريخية ثابتة. فقد أصبح من شبه المؤكد أن هذا، إنما يندرج في باب الأخيولات الأدبية والأساطير، التي لا يمكن اعتبارها مادة تاريخية معتمدة.

3 - تكريس القدس في الأدب العبري الحديث، باعتبارها مدينة يهودية، وتعمد ذكرها في شكل مبالغ فيه في الأعمال الأدبية، ومثال ذلك، ما فعله الروائي الإسرائيلي أ. ب. يهوشواع، في قصة له موسومة بـ «ثلاثة أيام وطفل» جاءت في خمس وسبعين صفحة من القطع المتوسط، وورد اسم القدس فيها اثنتين وخمسين مرة، حيث يسهب المؤلف في وصف المقدسيين الإسرائيليين، مثلاً: «في بعض الأحيان، حينما يأتيهم المزاج، ينظرون نحو الشمس، الريح، والسماء الممتدة فوق مدينتهم باعتبارها رموزاً تتطلب الدراسة»، ويسهب في وصف أحياء القدس وشوارعها وأشجارها وطقسها: «ينبعث هواء بارد من جبال القدس، يحيط بنا ويداعب خدودنا»، وفي موقع آخر من القصة يقول: «والآن تهب الريح الصحراوية بثبات على القدس» وفي موقع آخر أيضاً: «هذا القمر الأبله يتدلى فوق القدس مثل حجر أصفر»، وغير هذا كثير.

هذا يعني أن ثمة تكريساً مقصوداً لحضور القدس في الأدب العبري، وثمة في الوقت نفسه محاولات دائبة لطمس الوجود العربي الإسلامي في المدينة، أو تقليصه إلى أبعد الحدود، بحيث يبدو هذا الوجود كما لو أنه مجرد حدث عابر في تاريخ المدينة. فمن يذهب إلى متحف القلعة الواقع في منطقة باب الخليل من البلدة القديمة في القدس، يمكنه أن يرى بأم عينيه، كيف يجري تقزيم التاريخ العربي الفلسطيني في المدينة، وتقسيمه إلى حقب منفصلة مجزأة، أيوبية ومملوكية وعثمانية وانتدابية وعربية، وذلك لغاية في نفس يعقوب، بحيث يبدو تاريخ اليهود في المدينة، كأنه الحقيقة الكبرى التي توضع القدس في سياقها، وبحيث يبدو للسائح الأجنبي الزائر لهذا المتحف، كما لو أن القدس مدينة يهودية في الماضي وفي الحاضر (وهو الأمر المشكوك في دقته وفي أصل وجوده من حيث الأساس، بحسب كتاب الباحث العربي السوري فراس السواح، الموسوم بـ «تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود» الصادر في طبعة ثالثة العام 2003 عن دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة/ دمشق).

ولعل هذا الجهد الدعائي الإسرائيلي الذي يتخذ أشكالاً متنوعة، يفسر ما يحدث في كثير من الحالات، حين يفاجئك بعض الناس أثناء السفر إلى أوربا أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بالسؤال: من أين أنت؟ فتجيب: من القدس! وهنا تقع المفارقة، عندما يقول السائل على الفور: آه! إذن أنت يهودي! هذا الأمر سبق للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان أن تعرضت له أثناء زيارة لها إلى لندن، وقد عبرت عنه في قصيدة لها كتبتها قبل سنوات بعيدة. والأمر نفسه وقع ويقع لكتاب آخرين ولأناس من محبي السفر.

لهذه الأسباب وغيرها، تبدو الكتابة عن القدس ووضعها في مكان الصدارة بالنسبة للأدب الفلسطيني والعربي الحديث، أمراً لا يحتمل التأجيل، وبخاصة في هذه المرحلة الراهنة التي يتزايد فيها الخوف على مقدساتها الإسلامية، وبالذات مسجدها الأقصى، من خطر التدمير، بسبب ما يجري تحته من حفريات إسرائيلية، وبسبب المحاولات المتكررة للجماعات الصهيونية المتطرفة، لاقتحامه ولإحراقه حيناً، ولإقامة الشعائر الدينية اليهودية فيه أو من حوله حيناً آخر، بحجة أنه مشيد على ما كان يسمى هيكل سليمان!

حينما نبحث عن حضور القدس في أدبنا الحديث، فسوف نجد لها حضوراً في الشعر. فالمدينة حاضرة في قصائد شعراء فلسطينيين وعرب، عبروا عن رؤيتهم للمدينة بطرائق مختلفة. ولعل الراحل محمود درويش يكون من أبرز الشعراء الذي كتبوا عدداً من القصائد عن القدس، علاوة على شعراء آخرين من بينهم: نزار قباني، راشد حسين، ومظفر النواب.

وإذا كان حضور القدس في النصوص السردية الطويلة أقل من حضورها في الشعر، وأقل بكثير من حضورها في النصوص السردية العبرية الحديثة، فهذا لا ينفي وجود عدد من كاتبات وكتاب الرواية الذين ظهرت القدس في رواياتهم. وأشير هنا، على سبيل التمثيل لا الحصر، إلى رواية العراقي علي بدر: «مصابيح أورشليم»، وكذلك إلى روايات: سحر خليفة «عباد الشمس»، ليانة بدر «نجوم أريحا»، عيسى بلاطة «عائد إلى القدس»، وديمة السمان «برج اللقلق»، وأشير إلى كتب السيرة التي نشرها: إدوارد سعيد «خارج المكان»، سيرين الحسيني شهيد «ذكريات من القدس»، محمود شقير «ظل آخر للمدينة»، وإلى كتاب «القدس مدينتي» الذي صدر باللغة الإنجليزية وحررته د.سلمى الخضراء الجيوسي، واشتمل على نصوص لكتاب عرب وأجانب حول المدينة المقدسة.

وللقدس أيضاً حضور في المجموعات القصصية التي كتبها كتاب فلسطينيون من أجيال مختلفة، ومن بينهم: أكرم هنية، خليل السواحري، وجمال القواسمي.

ولعل اضطلاع مؤسسة الدراسات المقدسية، بنشر اليوميات التي ترصد الحياة اليومية في المدينة المقدسة خلال العقود الأولى من القرن العشرين، يشكل رداً على المقولة الصهيونية المضللة عن «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ورداً على الرؤية الاستشراقية التي كانت تتجاهل أهل البلاد الأصليين، وذلك استجابة لنصوص التوراة، وللوهم القائل إن فلسطين أرض غير مأهولة بالسكان. أصدرت المؤسسة حتى الآن، ستة مجلدات من يوميات المربي المقدسي خليل السكاكيني، ويوميات الموسيقي المقدسي واصف جوهرية التي جاءت في كتابين هما: «القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية» و«القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية»، وكذلك يوميات الجندي المقدسي إحسان الترجمان الذي خدم في الجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، وهي الموسومة بـ «عام الجراد»، التي كتب لها د.سليم تماري مقدمة مطولة. يضاف إلى ذلك الكتب والبحوث التي نشرها د.تماري، بالتعاون مع باحثين آخرين، ومن أهمها كتابه: «القدس 1948».

ومع ذلك فثمة حقيقة مؤكدة، وهي أن القدس تتعرض الآن لعمليات تهويد منهجية، علاوة على ما تتعرض له من غزو ثقافي إسرائيلي يتخذ أشكالاً متعددة، لطمس الهوية الثقافية لمواطني القدس الفلسطينيين، أو لتمييع هذه الهوية وتحييدها في أحسن الأحوال، ما يتطلب جهوداً مثابرة على كل صعيد، لحماية القدس من التهويد ومن الغزو الثقافي سواء بسواء.

-----------------------------------

يا أيادي
إرفعي عن أرضي الخضرَاء ظلّ السلسله
واحصِدي من حقل شعبي سُنبله
فأنا لم أحضن الخبزَ ومن قمحِ بلادي
منذ أن هبّت رياح مثقلات بالجراد
نهشت أرض بلادي
منذ أن شدّوا لي اللقمةَ في ساقِ غزال
وعدا ملء الرمال
وهمو قد غصبوا قوسِي وسهمِي ونصالِي
وهمو قد قطفوا زهر دمائِي
غير أنّي في نماء
فجذوري تتحدّى الفأس في أرضِ بلادي
وهي خضراءُ تنادي:
يا أيادي
«إرفعي عن أرضي الخضراءِ أغلالَ الجراد
وحصادي، لي حصادي»

معين بسيسو

 

 

 

محمود شقير