سقط سهوا فاطمة يوسف العلي

سقط سهوا

جذبت السماعة من عنقها...دفعت بها...تكاد تقذفها على الطاولة الزجاجية، كأنها تنزع قيدا من عنقها، أطلقت نفسا حبيسا، هتفت بضيق:

- سيلفيا

أقبلت بردائها الأبيض، استأنفت:

- كم حالة في الاستراحة؟

- ثلاث أو أربع.

جثم العدد كالجبل على صدرها، أربع حالات، كل حالة بشكوى وسخونة وألم وإسهال ودموع أمهات، لم تعد بها قدرة، قالت للممرضة: يكفي اليوم، لم أعد أستطيع، لست آمن في إجراء الكشف على طفل لا يملك التعبير عن نفسه.

مالت سيلفيا مواسية:

- سلامتك يا دكتورة، لو اتصلت بالدكتور ليكمل العمل،.انطلقت الآه الحبيسة، أفلتت من رقابة الوعي، قالت: وأين هو، إذا عرفت أخبريني.

لم تلحظ الابتسامة الحزينة لأنها كانت قد استدارت لتعتذر لأهل الأطفال المرضى بحجة أن الدكتورة طيبة بعد عشرة كشوفات أحست بأنها متعبة ولا تستطيع الاستمرار، بعد لحظات كانت في سيارتها، وفي وجدانها شيء واحد، أن تعود إلى البيت وتحمل ثيابها وترحل، إلى أين؟ لا يهم، لماذا؟ لم تعد تدري، فقد تداخلت الأسباب والمشكلات بدرجة تجعلها مثل التائهة في الغابة، لا يعرف لها بداية من نهاية، من يصدق حين التقيا في الطائرة لأولى مرة ولد الحب فوق السحاب، تفاءلت، أحسّت أن الحياة تضحك لها، فها هو القلب يرقص بجاذبيته الخاصة، متحديا جاذبية الأرض، ويرقص على ألحان الأثير رافضا إيقاعات الحياة اليومية، حين ربطت الحزام، فتحت المجلة، حين ربط الحزام أطفأ السيجارة، قال لها:

- غريب أن نذهب لدراسة طب الأطفال فنركب طائرة واحدة في كرسيين متجاورين، فقالت له:

- ولماذا نهمل الأصول العلمية، ونحن أبناء المنهج العلمي، درسنا في كلية واحدة، وتخرجنا معا، وتطلعنا في استكمال تخصصنا؟ شع بريق غريب في عينيه، وكأن خطواتنا المتفقة على طريق واحد، لم تكن تلفت انتباهه، تذكرت في هذه اللحظة المشهد الأول في أي مسرحية حين يرفع الستار على ممثلين واقفين، في انتظار لحظة النطق بالكلمة الأولى، قلت له:

- هل تعتقد أن المسرح يختلف عن مسرح الحياة؟ ظهرت الدهشة على وجهه، تنبهت إلى أن تفكيري شطح بعيدا، بينت قصدي، قال:

- معك حق، حين نتلقى حوادث الحياة، جزءا بعد جزء قد لا ننتبه في ارتباط بعضها ببعض.قلت، والآن؟. رمق لافتة ممنوع التدخين وهي تنطفئ فأخرج سيجارة جديدة ونفخ النفس الأول ثم تطلع نحوي، شعرت أنه يحدق في عيني، ربما رأى لونها البني الغامق الآن لأول مرة.

بعد عامين من هذه اللحظة صارحني بذلك قال في لحظة غزل منذ سبحت في العينين البنيتين لم أفكر في الصعود إلى الشاطئ، السباحة في عينيك أكثر أمانا ودفئا، وأنا لا أعرف التمرد، رضيت بقدري، في ذلك اليوم البعيد قلت له وأنا حين أعطيت تفويضا لأبي أن يزوجني لك كنت قررت مصيري، أنا متمردة بطبعي، ولكني أحترم المواثيق.

حين هبطا إلى الأرض، كان لا بد من التنسيق بحكم الغربة، في معهد طب الأطفال بمدينة إسكتلندية صغيرة، قضيا عامين للحصول على الدبلوم، في نهايات الأسابيع التقيا كثيرا، ذهبا في رحلات إلى منطقة البحيرات وغيرها، كان الثلج تحت الأقدام واللهيب في القلوب وصدى اللهيب في العيون، أصبحت تفكر فيه كثيرا، وتفكر به كثيرا، حتى أنها خشيت أن تسبقه في درجات النجاح فتخدش كبرياء الرجل الشرقي في أعماقه، لأول مرة حمدت الله كثيرا أنه تفوق عليها.

حين رجع إلى الكويت، اتصل بها، تحولت إلى طفلة، في إسكتلندا هي وليّة أمرها، في الوطن لها أب وأخ وأعمام وأخوال، وعليه أن يخاطبهم، حين خاطبهم قالوا له أنت في إسكتلندا ولي أمرك، وفي الكويت أنت جزء من عائلة، وعشيرة، ولا بد أن يحضروا إلينا ليخطبها دكتورتنا العزيزة!!

الاعتراض منطقي والأسباب الاجتماعية الموجبة موضع احترام، ولكنها تعرف أن أسرته شديدة الاعتداد بنفسها، لدرجة أنه ذات مرة في إسكتلندا قضى ليلة كاملة في استراحة الطلبة يحدثها عن أمجاد أسرته.

صبرت عليه طويلا حتى يصل للنهاية، لكن سؤالا لعينا قفز إلى طرف لسانها لم تستطع كبح جماحه، قالت له مداعبة وهي تريد كل ما في السؤال من تحد: - هل أسرتك من نسل نابليون؟

اعتبرها نكتة، انفجر ضاحكا، سايرته في ضحكه. الآن يتذكر هذا ويحوله في خصومة ويقول لها:

- لم تشعري أبدا بأهمية أن تنتمي لأسرتنا وأن تنجبي ألاودا يحملون اسمها.

ناضل من أجلها، غطرسة تلك الأسرة المتحجرة قدرت فيه هذا النضال، لعب على كل الحبال، يخاطب والدها بأنه ليس من المهم أن يحضر أبوه وأخوته لخطبة طيبة، المهم أن قلبه يرحب بها، وأنه سيستجيب لكل طلباتها، ويخاطب أسرته بأن الدرجة العلمية التي تحملها طيبة أرقى من درجاته هو، وأنها تستطيع أن تحصل على زوج خير منه. المهم انتهت المفاوضات المكوكية بإعلان الزواج، انتقلت طيبة إلى شقة تحمل اسم الدكتور علي منسوبا في أسرته العريقة، أما هي فقد دخلت تحت عباءته، لم تضع لافتة باسمها على باب الشقة تعلقت كل أحلامها بفتح عيادة تمارس فيها معالجة الأطفال، اتجه هو في العمل الحكومي، ومنذ اليوم الأول، ركز عينيه على كرسي المدير، لم تشعر هي أبدا بأن تكون مديرة، إن لمستها السحرية على جسد طفل موجوع تنشر الشفاء في بدنه تساوي عندها كل كراسي العالم، لم تشعر بالذنب، نادرا ما أحست بأن هذا الزوج نفسه قد عجز عن أن يمنحها طفلا، هي التي تعالج أطفال الآخرين، حاولت أن تتسامى بمشاعرها، وتعتبر كل زبائن العيادة أطفالها، أليست هي التي منحتهم الشفاء؟!

لم يمض زمن طويل حتى أصبحت اسماً مشهورا، ولم تشعر بغرابة أن يعرض عليها أن يشاركها ممارسة العلاج في عيادتها، بالعكس رحبت جدا، وجاء ترحيبها حذرا من احتمالات الخلط بين البيت والعيادة، قالت مازحة، هل ترى من الطبيعي أن نغادر غرفة النوم إلى السيارة إلى العيادة فيرى فينا أهل المرضى الصغار علاقة زوجية تعبث بالطب أو تتسلى به. لكنه وضع لافتة على مدخل العيادة لاحظت أن مساحة اللافتة أكبر من تلك التي تحمل اسمها، لم تهتم، لكنها أحست بشيء من القلق الغامض. حين أخذ موضعه في الغرفة المجاورة، ظلت حالات المرض تتجه إلى غرفتها، وتسأل عن اسمها، وبقي هو في غرفته وحيداً.

تذرع طويلا بالصبر، لكن الصبر طال، وهو حبيس غرفته المغلقة يقضي وقته في التدخين و تقليب صفحات الكتب الطبية، وغير الطبية، أحست أن بيتها في خطر، ولكنها لم تجد طريقا لإنقاذ السفينة المندفعة نحو الصخور، فكرت من أجله، قالت له:

- سأقترح عليك، وهذا في صالحنا معا، أن تكون وحدك في العيادة يوماً، وأنا أكون وحدي في اليوم التالي. أدرك مغزى الإشارة، إنها تلقي إليه بحبل النجاة، تنقذ سمعته في سرق العمل الحر، قبل على مضض، بعد أن ألحت عليه وأقسمت له أنها تفعل هذا حرصا على راحتها هي وليس كما يظن لتضمن له عدداً من الزبائن.

المفاجأة كانت في أن المترددين على العيادة من أهل الأطفال المرضى رتبوا أمورهم على أن يكونوا في اليوم الذي تكون فيه الدكتورة طيبة....مرّة أخرى وجد الدكتور علي نفسه وحيداً في العيادة في غرفة مفتوحة الأبواب وبين يديه المجلات لا غير.

لم تكن حالته تخفى عليها، سجل المرضى ظل خاليا في أيامه إلا أسماء متباعدة، لكن الضربة جاءت إليها في بيتها من حيث لا تتوقع، اتصلت إحدى الأمهات بها في البيت، وطلبت أن تحادثها في أمر، ردت عليها بالطريقة المعهودة: من فضلك كل ما يتعلق بالعيادة مكانه تليفون العيادة فقط. ولكن الأم قالت: المعلومة التي أريد توصيلها إليك لا يمكن التحدث عنها في العيادة، زميلك في العيادة لم يهتم بمرض طفلي بقدر ما اهتم بتسريحة شعري ولون عيني. قالت هذا ووضعت السماعة دون أن تسمح بامتداد الحوار أو تسمع الشهقة على الجانب الآخر من الخط، فكرت في هذا طويلا، لم تصدق، لماذا لا تكون وقيعة رخيصة، أو يمكن أن تكون لحظة ضعف سببها الفراغ الطويل الذي يعيشه والعيادة الخالية، اقترحت عليه أن يعود للنظام القديم، لكل واحد منهما غرفته بحيث يذهبان ويعودان معاً كل يوم.

قال بخشونة جديدة عليه:

- عندي حل آخر.

- ليتني أعرف.

- تعودين إلى البيت مثل كل السيدات وتتركين العيادة لمن يصبر على متاعبها.

- ومن هذا الصابر، وهل تفكر في بيعها.

- ولماذا لا؟ سأشتريها لنفسي.

لم تكن تلك المرأة المجهولة التي اتصلت بالتليفون ذات ليلة مدعية أو صانعة فتنة، إن زوجي بدأ يحول عجزه في العمل إلى ثورة منزلية. بلغ التحدي مداه بأن يتحدث من تليفون العيادة مع أصدقاء وصديقات لم تعرفهم، يطول الحديث همساً وينقطع حين تظهر، اعتقدت أن هذه موجة لا بد أن تتراجع، وبالفعل تراجعت لتخلفها موجة أشد قسوة، يفقد صبره فجأة لبكاء طفل أو صفعة باب أو سقوط إناء، لا يبقي أحدا، الممرضة والأطفال، وأهل الأطفال، انعكس هذا على العيادة وسمعتها، قلت أعداد المراجعين في غرفتها، وانقطع القليل الذي كان يتردد عليه.

فكرت بعقل، رأت أن الابتعاد بعض الوقت قد ينفع علاجا للحساسية والقلق، استأذنته في السفر مع والديها لقضاء شهر من الصيف بعيدا عن الكويت.

ذهبت.رجعت. وجدت اللافتة باسمها منزوعة عن مدخل العيادة، ولافتته تحتل المكان بمساحة مزدوجة.

دارت الأرض بها، الموجة عالية، غمرتها بالبرودة، أفقدتها الرؤية، تعرف هل تقبل التحدي، فكرت أن تنزع اللافتة، أن تكسر الباب، أن تستدعي أسرتها، أن تتصل بجمعية الأطباء وتحتج. لم تفعل شيئا من ذلك، كان أمامها صورة واحدة ضاغطة، وذكرى عزيزة قديمة، حين تحدث إليها في الطائرة عن لون عينيها، حين ربط لها حزام العربة المجنونة في مدينة الملاهي ذات يوم وتذكرت أنه يوم جاء يخطبها، ولم يكن معه أحد من أهله، قال لوالدها، سترى أنها في عيني، وأنني أكفيها عن كل أهلي، وسيثبت الزمن أنني معها الأقوى.

لم يفكر فيما يجري الآن، وإلا ما نزع لافتتها، ولم تفكر هي بأن ما يجري الآن كان محتملا، وإلا ما وقفت عاجزة لا تجد حلا. عادت تقلب الاحتمالات: أهلي. أهله. جمعية الأطباء. وكلها حلول عاجزة، كان الحل الوحيد أن تلقاه.

في بيت أمه كان مستقرا، لم يسارع للحضور، حين أخبرته بعودتها من سفرها، سمعت أصواتا عائلية وكأنهم جميعا يترقبون كيف يكون المصير أحست أن هناك الشماتة بها وبه، ألم يتزوجها برغم إرادتهم، ألم تتزوجه لأنها أرادت ذلك دون أن تهتم بحضورهم؟ إنها تستطيع أن تثور الآن، أن تسترد العيادة والاسم، وأن تعيده إليهم وحيدا كسيرا ولكن من سيكون المنتصر في هذه اللحظة؟

قالت له أعط السماعة لخالتي، أريد أن أسلم عليها قالت الخالة ببرود: أهلا. ولم تزد.

حبست أنفاسها، قالت بصوت محايد، خالتي مشتاقة والله، على اشتقت إليه كثيرا، شهر ونحن بعيدان عن بعضنا، مر على كأنه سنة، فرحت جدا أنه عندكم، وأنه سيقوم بأمر العيادة وحده، أحضرت معي جهاز تسجيل، يصلح لتخزين حالات المرضى، الجهاز على اسمه، أرجو إلا يتأخر كثيراً في فتح العيادة.

قبل أن تسمع الإجابة، وضعت السماعة، أغلقت الطريق على الشماتة، تنفست بقوة، تساءل بحيرة: الشماتة بمن!! به، أم بي؟ سالت دمعة دافئة على الخد، لم تعرف أبدا هل كانت ترثي زمانها الماضي، أم حزن اللحظة الغارقة في مشاعر الانكسار والانتصار.

 

فاطمة يوسف العلي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات