أدباء مصريون في فرنسا إبراهيم عبدالمجيد

أدباء مصريون في فرنسا

عشرة من الأدباء العـرب من مصر، نصفهم على الأقل يذهب إلى باريس للمـرة الأولى والوقت المخصص لهم قليل، عشرة أيام، وسينتقلون من باريس إلى أكثر من مدينة في وقت يشتد فيه التحامل على العرب والمسلمين، فكيف يا ترى سيكـون الأمر، ولماذا يذهب هؤلاء الكتاب إلى فرنسا؟

لم ينقطع الاتصال بين مصر وفرنسا منذ تلك اللحظة التاريخية القصـيرة أثناء الحملة الفرنسية. بل وبدا في كل وقت أنه اتصال أبدي برغم ما يبدو فيه أحيانا من أوقات ظلام. كانت نهضة محمد علي بالبلاد في جانبها الأكبر فرنسية، سواء بالبعثات التي أرسلها أو بالسان سيمونيين الذين وفدوا على مصر بأحلامهم في البناء والعمران، أو بالجيش العظيم الذي وضع أصوله ورعاه سليمان بـاشـا الفرالفر نساويس التـاريخ يقـول - بعد وفاة محمد علي وإبراهيم - أن فرديناند ديليسبس قد خـدع الخديو سعيد وحصل منه على امتيازات كبيرة لحفر قناة السويس، وأن القناة كانت وبالاً على مصر، ونفس التاريخ يقـول أن القناة كانت ولا تزال نعمة اقتصادية ومحورا من محاور الوطنية المصرية.

إن أكبر النقط المظلمة في تاريخ العلاقة مع فرنسا هي العدوان الثلاثي (1956 م) وتمويلهـا للمفاعل الـذري الإسرائيلي في وقت مبكـر. لكن ذلك العـدوان الذي لم يمتد شهوراً سرعان ما يختفي أمام ذكرى وأعمال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومصطفى كـامل ومحمد عبده والأفغاني ورواد التنـوير بعد ثـورة 1919، طه حسين ومحمد حسين هيكل والسنهوري بـاشا وتوفيق الحكيم إلى يوسف شاهين في زماننا. أما إسرائيل فلم تعد عدواً!!.

باختصار كان احتـلال مصر إنجليزيا منذ الربع الأخير للقـرن الماضي حتى نهاية النصف الأول من هذا القرن، وطوال هـذه الفترة بالتحديد كـان الأثر الحضاري، المادي والمعنوي، في مصر فرنسياً خالصاً. إن المثقفين المصريين منذ رفـاعـة الطهطـاوي لم ينقلوا الروح الفرنسية في الثقافة فقط، بل منهم من عمل على نقلهـا إلى الحضـارة المادية أيضا إلى البناء، مثل علي باشا مبارك، فمعظم ميادين القاهرة الحديثة قد صممت على شكل ميـاديـن باريسيـة. كما ان شـارعي محمـد علي وكلوت بك هما نموذجان لشارع ريفولي في باريس - الريفولي لا يزال قـويا جميلا بديعا بـالليل والنهار بينما تحول كلوت بك فى خرائب تامة، ومحمد علي في طريقه للانهيار- يكفي في النهاية ان أقول لك ان الـذي بنى قناطر محمـد علي هم المهنـدسون السـان سيمونيـون الفرنسيـون. وفي عهد عبـدالناصر بنى مبني الإذاعة والتليفزيـون مهندسون فـرنسيون أيضا في منطقة ماسبيرو، ذلك الاسم الفرنسي الذي لعله أكبر الأسماء الأجنبية في عالم الآثار المصرية.

فرنسا إذن تحتل مساحة كبيرة في بنية العقل المصري الحديث. من منـا لا يطرب قلبـه حـين يسمع اسم باريس التي اسماها طه حسين ببلـد الجن والملائكة!! الرحلـة إلى فرنسـا إذن ليست شيئـا عاديا. والذين سيقومون بالرحلة هـذه المرة جماعة من الأدباء يزورنها لأول مرة أو لثاني مرة على أحسن تقدير.

الجميلات الأجنبيات

صفة أطلقها أحد شعراء القرن الماضي على الأعمال الأجنبية التي يتابعها القارئ الفرنسي، المقصود بها إذن أعمال الكتاب وليس الكتاب أنفسهم، وهي صفة مثيرة قمينة بلفـت الانتباه وإثارة الذهن، وفيها معنى الفتنة والغواية والخيانة أيضا. فيها كل ما يغري على المعرفة. هذه الصفة أصبحت عنوانا على برنامج ثقافي كبير تنفذه وزارة الثقـافـة الفـرنسيـة، "إدارة الكتـاب والإدارة الفرانكـوفونية" كل عام ومنـذ سنوات، بالتحديـد منذ عام 1987 حيث كـانت البرازيل الـدولة الأولى التي ابتدأ بها البرنامج، وتبعتها ألمانيا الديمقراطية - ذلك الـوقت - فـالدانمارك والأرجنتين وإسبانيا والصين والبرتغال وفنلندا أو المجر وإيرلندا واليونان وأستراليا وبولونيا والمكسيك والنمسا وشيلي وإفريقيا الجنوبية وتركيا وإسرائيل!... إلخ.

وهكذا كما ترى غالبية هـذه الدول ليست معروفة للقارئ الفرنسي كما ان البرنامج قد يتكرر وأكثر من مرة فى العام الواحـد لأكثر من دولة، ومصر هي الدولة الثالثـة والعشرون في البرنـامج الذي بـدأ منذ سبع سنوات. خصص البرنامج هذا العام - 1994 - لمصر إذن، وتم الترتيب له - منذ عامين هكذا عرفنا. ومنذ منتصف عام 1994 وأخبار البرنامج تخرج من (المركز العلمي الفـرنسي) قسم الترجمة، من القـاهـرة إلى الصحف. وفي هـذا المركـز يشرف المستشرق الكبير ريشار جاكمون على ترجمة عيون الأدب والفكر الفرنسي إلى اللغـة العربيـة ويختـار ويـدعم أيضا ترجمة الأعمال المصريـة إلى الفـرنسيـة. وحـين يتـم التاريخ الدقيق للعلاقات الثقافية المصرية الفرنسية سيقال أنه كما افتتح هذا القرن - العشرون - بأعمال الأثريين الفرنسيين الكبار، فإنه سينتهي بعمل ثقافي كبير للمستشرق ريشـار جـاكمون ألا وهو دعم ترجمة مـائة كتاب فرنسي من أحدث الإصدارات في شتى المجالات إلى اللغة العربية، تجاوزت الترجمة الستين كتابـا حتى الآن وخلال خمس سنوات، إلى جانب اختياره لبعض النصوص المصرية والعربية لترجمتها إلى الفرنسيـة. فهو نفسـه قد ترجم لمجيـد طوبيا ونبيل نعـوم وصنع الله إبراهيم، وهو الذي اختار روايتي "البلدة الأخرى" للترجمة وخصص لها منحة للمستشرقة الجديدة كاترين تسييه وفعل نفس الشيء مع روايـة بهاء طاهر"خـالتى صفيـة والديـر"، وأثار اختيـار الأسماء بعض اللغط بـين الكتـاب، وهذا طبيعي جـدا في بلد مثـل مصر يزخر بالمبدعين. لقد استقرت الأسماء على اثني عشر كاتبا هم: ادوار الخراط - إبراهيم عبدالمجيـد - إبراهيم أصلان - بهاء طاهر - لطيفة الزيات - سلوى بكر- نبيل نعوم - محمد البساطي - جمال الغيطاني - أحمد عبدالمعطي حجازي - محمد عفيفي مطر - عبدالمنعم رمضان. وكان نصيب كتاب القصـة والرواية هو الأعظم (تسعـة كتاب أمام ثلاثة شعراء) مما يـؤكـد على ثقل الإبداع القصصي - هـذه حقيقة لا تشين الشعر والشعراء - ولا شك أنه لا يزال فى مصر أسماء من كتاب القصة، فضـلا عن الشعراء، لها أهميتها، ولها إنجازها الفـائق. إذن الأدباء الذين تم اختيـارهم ليس المقصـود بهم الأفضل وإنما هم ممثلون لحالة الأدب العربي في مصر لا أكثر.

قبل السفر - يوم الوصول

في أكتوبر 1994 وصلت القاهرة المستشرقة "آن منكـوفسكي" مستشـارة وزارة الثقافـة الفرنسيـة وهي المعروفة جيدا في الأوساط العربية الأدبية ومعها ميشل مريام أحد المشرفين على البرنامج من قبل وزارة الثقـافة الفرنسيـة والتقيا بالكتـاب المختارين للسفـر. في لقائي معهما أطلعاني على تفاصيل البرنـامج، وفعـلا ذلك بـالطبع مـع الجميع عرفنا أنه سيتـم طبع كتيب أنيق للتعريف بنا يكتب فيه عـدد من خيرة النقاد المصريين والفرنسيين، كما سيتم عمل فيلـم تسجيلي قبل السفر. كما أننا سننتقل من باريس إلى أكثر من مدينة فـرنسية. بعد هذه اللقاءات وصل المخرج التونسي الـذي سيقوم على إخراج الفيلم التسجيلي، أمضى في مصر حـوالي أسبوعين انتقل فيها مع الكتاب إلى قراهم ومدنهم خارج القاهرة. اصطحبته آنا إلى الإسكندرية حيث ولدت وعشت طفولتي وصباي ومطلع شبـابي والتي عنها ما زلت اكتب، لم اكتب عن القاهرة بعد غير قصة قصيرة يتيمة بـرغم أنه قد مضـى على وجودي بالقاهرة عشرون سنة، في الإسكندرية تعرضنا لمواقف تستحق التسجيل أجملها كلها في دهشـة الجماهير من أمرنا، وغضبها أكثر من مرة، حيث كنا نقوم بالتصوير في أمكنة مفتـوحة وشعبية. كانت محطـة الـ "سى إن إن" الأمريكية قبل ذلك بأسابيع قد أذاعت حفل ختان الفتاة المصرية، وكان ضمن طاقم التصوير فتى وفتاة فرنسيـان، وهكـذا تصـور الجميع أننا جواسيس، فساقونا إلى أقسام البوليس أكثر من مرة، وفي كل مرة كـان البـوليس هو الذي يسـاعدنا على الانتهاء من التصوير،!! انتهى المخرج من تصوير ما يريـد من الكتاب وأكثر مما يريد، وعاد إلى باريس حيث يعمل ويعيش، وقبل السفر بأسبوعين سافر المستشرق ريشار جاكمون أيضا إلى باريس ليكون وسـط الاستعدادات وفي استقبالنا بعـد ذلك. كانت الرحلة من القاهرة إلى باريس سهلـة. دائما هي سهلة الرحلة من القاهرة إلى أي مكـان آخر، بالنسبة لي على الأقل، ولجيلي الـذي يحب هذا الوطن إلى درجة الرغبة في الفرار! حقيقة وطن يحتضر بين يديك وتحبه وتعجـز عن شفائه. حقيقة، وطن تحبه ولا يبادلك الحب إلا بعدم الاكتراث، وطن تفر منه وتأخذه معك، تحمله على ظهرك أينما هربت، أجل مـا معنى ان تكـون مشهورا في أي مكـان آخـر في العالم بينما أنت غريب في الوطن؟ ثم ان الشهرة في أو مكان آخـر في العالم ليست سهلة. العالم الآن قد تم تقسيمه إلى دول سـائدة ودول بائدة. وللدول البائدة خط احمر لا تتجاوزه. تريد ان تدخل إلى العالم الواسع. لا بد لك ان تعمل وفق قوانين العالم الواسع. وأول تلك القـوانين ان تتخلى عن الوطن! فهـل يمكن؟ على ان الرحلة كـانت سهلـة لأننا ذاهـبون إلى باريس، بعد الاستقبال في المطـار، وفي الفندق، تسلمنا أوراقنا التي. كان أبرزها الكتيب عنا نحن الكتاب. أي زحـام هذا الذي قابلنا في الأوبرا. كانت المصادفة قـد جعلت اليونسكـو تقيم في نفس الليلة أمسية شعرية لمحمود درويش بمناسبة صدور ديـوانه الجديد ولفـوزه بجائزة اليـونسكـو للإبداع. انقسمت بـاريس بيننا وبين درويش. ذهب معظم الأخوة العـرب إلى درويش. وجـاءنا العدد الأكبر من الفـرنسيين. اضطرت إدارة الأوبرا فى تغيير القاعة التي خصصت من قبل لافتتاح البرنامج. كانت قـاعة صغيرة يشغلها ثلاثمائة مقعـد القاعـة الجديـدة تسع خمسمائة مقعـد. وظل أكثر من مائتي شخص بالأبواب لم يستطيعوا الدخول فانصرفوا، وأظلمت القاعة وبدأ تشغيل الفيلم التسجيلي الذي كان المخرج التونسي "مصطفى حسناوي" قد جاء لمصر من قبل لتصـويره. استغـرق الفيلم نصف ساعة. وبرغم قصر الفيلم فلقـد بدا واضحـا اهتمام المخـرج بتأكيد الفروق الأدبية والشخصية بيننا وهذا وحـده يكفي ليحسب للفيلم. كان ممن قابلناهم ليلة الافتتاح المفكـر الكبير سيد ياسين رئيس مركـز الدراسات السياسية بجـريدة الأهرام. وجـدت ابتسامة كبيرة على وجهه وسعادة حقيقية. انتقلت هذه السعادة إلينا. مشهد الجمهور الغفير يخيف الكتاب أمثالي. نحن كتاب القصة والرواية مساكين مع الجمهور. لقد تعودنا على الحكـاية، والحكـاية غالبا تكـون في ركن صغير لعدد قليـل من الأولاد أو الأحفاد أو الأصدقاء. ليس لكتاب القصـة طاقـة على الجمهور الواسع. ذلك أمر ينجح فيه الشعراء معظم الأسئلة أو كلها. كـانت سياسية ذلك اليوم، تبتعد وتقترب من الإرهاب الفكري والإرهاب الـديني وغير ذلك من الظـواهر السلبية في مجتمعاتنا العربية. انبرى للإجابة عن الأسئلة حجازي ومطر ولطيفة الزيات والغيطاني وبهاء طاهـر، ولما جاء سؤال يتيم عن السينما أخذته آنا، لكني بدأت أفكر بالأسئلة السابقة وأدرك الفكـرة العامة السائدة عن العرب في أوروبا اليوم، وهذا أمر يستحق الوقوف عنده بعض الوقت.

السؤال المحلِّق

"تسليمـة نسرين" الطبيبة البنغلادشية الهاربة إلى فرنسا هي بطلة الشرق الإسلامي بلا منازع الآن. فهي المرأة التي كتبت عن ظلـم المسلمين لغر المسلمين في بلادها وعن ظلم المسلمين للمرأة المسلمة فخـرجت المظاهرات تطـالب برأسهـا بعد صدور فتوى من أحد الشيوخ باستحلال أراق دمها. السـؤال هو إذن عن التطرف والإرهاب الإسلاميين. يتردد هذا السـؤال في كل الندوات وبأكثر من صيغة وفي كل الأحوال تلمس في السؤال تطابقا في الرؤية بين الإسلام والإرهاب. وهكذا ببساطة تستطيـع ان تعرف وضع العرب في أوروبا، خاصة في رسائل الإعلام. كل الذين أجابوا عن السؤال منا أشاروا إلى مشاكل الواقع الاجتماعيـة والسياسيـة التي أدت إلى إفراز هذه الحركات المتطرفة، وكيف أن الإسلام هو الجواد الباقي في الساحة السياسية فركبته هذه الحركات التي لا علاقة لها بالإسلام الحقيقي لكن السؤال دائما يعـود بصيغة أخرى حتى اضطررت أكثر من مرة ان أتحدث عن دور الغرب في تغذية هذه الحركات المتطرفة، وقلت بالحرف الواحد ان إسرائيل مثلا رفضت كل مشروعات السلام العادلة فكان طبيعيا جـدا أن تظهر "حماس"، كرد متطرف على العنصرية الإسرائيلية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تؤوي معظم قيادات التطـرف من الجزائر، كما تـؤوي مفتي الجهـاد عمر عبدالرحمن، وفي لقاء لنا مع وزير الثقافة الفرنسي جاك توبو وجه إليه بهاء طاهر سؤالا مباشرا عن الطريقة التي تعامل بها تسليمة نسرين كبطلة ضد التخلف الإسلامي وهل هي الطريقة الصحيحة في مثل هذه الأمور، وهل يؤدي ذلك إلى تعضيـد مفكري الاستنارة في بلاد الشرق أم يزعزع من مواقفهم؟ الواضح أنه يضر بهم لان موضوع تسليمة نسرين لم يكن يستحق كل هذا العداء الواضح للإسلام أو المسلمين. كان رد الوزير ان هذا الكلام فيه جانب كبير من الصحة، لكن هكذا تطورت الأمر من إنقاذ كاتبة إلى ما تراه، وأن كل مثقف حقيقي يعرف سماحة الإسلام. لقد كـان لقاء الوزير كله تقريبا مكرسا للحديث عن الفرانكـوفونتة وكيف أنها في أحد جوانبها الكبيرة مواجهة للغزو الأمريكي الثقافي - بالمناسبـة الأفلام الأمريكية تملا السينمات الفرنسيـة والمسلسلات والأغاني الأمريكية تملأ التليفزيون الفرنسي - ونحن بدورنا سألناه تدعيم الجوانب الثقافية في مصر خاصة السينما والفنون حيث يقع ريشار جاكمون بتدعيم الوجود الفكري والأدبي بمشروعه الكبير لترجمة المائة كتاب من عيون الفكـر والأدب الفرنسي، والحقيقة أننا طلبنا تدعيم الوجود الفني الفرنسي ليس من باب مواجهة الغزو الأمريكي، ولا من باب فرنكوفوني، ولكن لما للثقافة الفنية الفرنسية من تقاليد وجرأة على التجديد وأثر دائم على مثقفينا وفنانينا. على ان السؤال عن التطرف والإرهاب كان - كما قلت - يعود بصور أخرى في ندوة عن حرية التعبير، أما ان الدول العربية تصادر حرية التعبير فهذا أمر لا مناقشة فيه، فأخبار الكتب المصادرة والأفلام الممنوعة تصل هناك قبل أي شيء آخر. وموقف مجلس الشعب المصري من بعض دواويـن الشعر معروف هنـاك، والقضية التي رفعها أحد المحـامين للتفريق بين الدكتور نصر حامـد أبوزيد وزوجته، والقضية الجديدة التي رفعها أحد المحامين في مصر ضد فيلم المهاجر ليوسف شاهين، هذه وتلك وغيرها أمور معروفـة في الأوساط الثقـافية الفـرنسية، القريبـة من هموم الشرق. هناك تسليم بتـدخل جهاز الدولة في كل البلاد العربية في حرية الكاتب، رغم أننا أوضحنا بعض الحقائق المتعلقة بمصادرة الكتب في مصر، وكيف ان جميعها حتى الآن، ومنذ عام 1980 لم يصدر بها أي قرار إداري أو حكم محكمـة، إنما هي اجتهادات لبعض المسئـولين من الأزهر الشريف، يلبيها بعض المسئولين عن النشر دون أي قرار مكتوب. عند هذه النقطة ينتقل السؤال إلى مدى ما تثيره الحركـات الإسلامية المتطرفة من ضغوط على المثقف لتقييد حريته في التعبير، وهو سؤال له وجاهته خاصة ان عددا من المثقفين ترتعش الأقلام في أيديهم الآن بعـد مسلسل الاغتيالات في الجزائر، وبعد العدوان الأثيم على نجيب محفوظ. لقد أوضحنا الموقف الشجاع لغالبيـة المثقفين المصريين أمام الإرهاب، لكن المثير في الأسئلة كلهـا أنها كانت تـوجه إلينا وفيها روح الإدانة لنا كأننا المسئـولون عما آلت إليه الحال. ربما هذا الإحساس الذي تحمله الأسئلة هو ما حمل بهاء طاهر في إحدى الندوات إلى ان يتحدث عن حقوق الإنسان الضائعة ليس في البلاد العربية وحدها ولكن في الغرب أيضا، ان الجنود الصرب مثـلا أضاعوا كل مظاهـر حقوق الإنسان لشعب البوسنة، وفي الندوة نفسها التي حملت عنوان حرية التعبير، والتي حضرها جيل كيبيل، وهو من جيل المستعربين الجدد، وله كتاب عن اغتيال السادات اسمه "النبي والفرعون" كما حضرها جاك لاكوتير مندوب اللوموند في مصر في الخمسينيـات والستينيـات، وصاحب كتاب عنها أيضا في ذلك الوقت. في تلك الندوة قلت أنه بالإضافة إلى دور أمريكا المؤسف فى تغذية الحركـات الإسلامية، فإنها تساهم بشكل أو بآخر في تقييد حرية التعبير للشعب العربي. ان لعبة التوازنات السياسية، هي التي جعلتها تبقي على صدام حسين بعد حرب الخليج، وهي تعرف مدى إهداره حرية وحقوق شعب العراق. الحقيقة ان العالم تحكمه المصالح وليس هناك مكان واحد به حقوق المواطنة كـاملة، إنما هي تفاوت في نسب الحقوق. كم نظاما ديمقراطيا تسانده الولايات المتحدة الأمريكية؟ لم نكن نريد في إجاباتنا ان نزايد علي الجمهور السائل، ولا ان نخفي الحقائق، أو نجمل صـورة مجتمعاتنا، بقدر ما كنا نريـد ان نوضح ان بعض النظم الغربية ليست بريئة مـائة في المائة مما يحدث في الشرق الاستبدادي!

لقد حققـت مبيعات تسليمة نسرين حوالي نصف مليـون نسخة في فرنسا وحـدها والمدهش أنها صارت سجينة للإعلام الغربي أكثر مما هي سجينة للفتوى الغبية بقتلها، ولقد صرحت أخيرا أنها تريد أن تغير بعض آيات القران الكـريم، وهكذا انزلقت السيدة تسليمة نسرين تحت ضغط الإعلام، فبعد ان كـانت كـاتبة تنادي بالمسـاواة بين الناس في كل الأديان وفي الدين الواحـد صارت تناطح الدين نفسه، وهذه هي المأساة. وهكذا يستمر التطرف موجودا، بنفس الدرجة التي يساعـد بها الفساد السياسي والاجتماعي في البلاد الإسلامية على وجوده. وهكذا بدا لي أنه لا نهاية لهذه الحلقة الجهنمية. الفساد السياسي في الأرض الإسلامية ينتج التطرف.

ترجمة الأدب العربي

هناك إجماع بين المتخصصين على أن الترجمات فرنسية للآداب العربية هي أفضل واهم الترجمات لأوربية. أولا لدقتها، ثانيا لوجود قارئ لها أكبر بكثير ما هو في اللغات الأخرى. ولا شك ان نصيب الأدب المصري من الترجمة الفرنسية لا بأس به حتى الآن ويزداد يوما بعد يوم سواء من عدد الكتاب أو من عدد النسخ المطبوعة أو المبيعة حيث تحقق بعض الكتـب أكثر من طبعـة للكتاب الـواحـد وهذا أمر جـديد ومشجع. لاشك ان لفوز نجيب محفوظ بجائزة نـوبل أثرا كبيرا و تسليط الضوء أكثر على الآداب العربية وليس نرجسية من أي نوع القول بـان في الرواية العربية الآن كشوفات وإنجازات لا تقل، ان لم تتفـوق أحيانا عن الـروايـة الأوربية والعالمية عمـوما، وفي الشعر العـرب لدينا أصوات ذات حس إنساني رائع يمكـن ان يقـرأهـا القارئ الأوربي بنفس المتعـة التي يقرأ بها شعـراءه. المسألـة ان الترجمة من العربيـة عملية شـاقة ومكلفـة، ودور النشر في أوروبا دور خـاصة يهمها في النهاية ان تربح. دور النشر الأوربية ليست ملك الدولة، ليست كـما كان يحدث في الاتحاد السـوفيتي زمان، والحمد لله أنها ليست كـذلك وإلا لاختارت كـما كـان الاتحاد السـوفيتي يختار!! ففـي عام 1994 أصدرت دار نشر. فرنسيـة هي "اكت سـود" كتبا لكل عن صنـع الله إبراهيم، محمـود درويش، نبيل نعـوم، وإبراهيم عبدالمجيد، كـما نشرت دار "سوى" لجمال الغيطاني كتابه الثالث...

لكن هـناك من يضع بعض التحفظـات على مسألة الترجمة، ويقول ان دور النشر، أو المستشرقين عموما، يختارون ما يرونه مـلائما للفكرة السـائدة في الغرب عن الشرق المستبد المستحل للنساء إلخ.. والسؤال هو إذا كـان الأمـر كـذلك فلماذا لا نحاول نحن دعم عمليـة الترجمة بالأموال العربية وهي كثيرة؟ لماذا لا ننظر للأمر من زاوية أخرى أكثر حقيقية أيضا وهي ان المستعرب الذي يقوم بالترجمة إنما يقوم بعمل صعب حيث يعرف سلفا ان العائد المادي من المبيعات لـن يكون مجزيا فهو إذن يخاطر بوقته وقوته أيضا. هذا المستعرب الذي يضحى بالوقت والجهد يحتاج إلى دعم المنظمات الثقافية العربية (اليونسكو العربية مثلا) ان الترجمة إلى الفرنسية هي أوسع وأدق الترجمات للأدب العربي حتى الآن لأن الدولـة الفرنسيـة تـدعم عادة أو في الأغلـب هـذه الترجمات. ثم أنه مع افتراض صحة وجهة النظر القائلة بان الاختيـار يتم وفقا لمنظور الغرب إلى الشرق ألا يؤدي ذلك إلى ترجمات أخرى فيما بعد تخرج عن هذا المنظور.؟ أضف إلى ذلك ان قبيلـة الكتاب لم تكتب أبدا للترجمة حتى الآن. لم تكن سلـوى بكر أو حنان الشيخ تعرف وهي تكتب أنها ستترجم إلى الإنجليزية أو الألمانيـة وكذلك محمود درويش والغيطاني وصنع الله إبراهيم والمخزنجـي وغيرهم. أنني مضطر إلى هذا الكلام لان اللغط فيه كثير. وكثيرا ما يخلط البعض الأوراق فيبدو الكاتب كأنما كتب أعماله من اجل ان تترجم إلى لغات أخرى. إن كتابة من هذا النوع لا تترجم، المشكلة أننا نحن العرب وحكوماتنـا الرشيدة لا نلتفت إلى أهمية الترجمة، إن تأمين اجر المترجم فقط من قبل (اليونسكو العـربية) سيشجع دور النشر الأوربية على الـدخول الواسع إلى أدبنا العربي لكن حكوماتنا الرشيدة تتصور ان قراءة أوربا لآدابنا ستعطيها فكرة سيئـة عنا - كأن هناك فكرة طيبة - لا يفهـم أحد ان قراءة رواية أو ديوان شعر يتيح الفرصة للآخر ان يعـرف "العربي" كحالة إنسانية حقيقية أكثر مما يعرفه كحالة سياسية أو كحالة سياحية كـما هو حادث الآن.

خارج باريس

في المدن الفرنسية كانت هـناك ندوات مختلفـة لنا. في بوردو ومونبلييـه كانت هـناك أكثر من ندوة لاصلان والغيطاني قال أصلان عنها أنها كانت بعيدة عن الأسئلة السياسية داخلة أكثر في الأسئلة الأدبية، وحدثني جمال الغيطـاني عن أهم الأسئلة التي وجهت إليه، ومنها سؤال عن الزمن كـما يفهم من أعماله التي تتأسس على التراث، وحـديثه عن رؤيته للزمن في حـالـة صيرورة دائمة ينتقل في نفس اللحظـة إلى الماضي، إلى التاريخ. وسؤال كبير عن اللغة العربية الفصحى - بعد سؤال عن العاميـة والفصحى. وسؤال كبير عن اللغة العربية. الفصحى في تجلياتها المختلقة بين المشرق العربي والمغرب العربي، بل وبين مصر وأقطار العرب الأخرى، المغربية على الخصوص. والسؤال وجيه يغرى بالبحـث، وقد يوقع في الضلال، ومن إجابة الغيطاني أشار إلى ان هناك نصا كبيرا مهيمنا هو القرآن الكريم، هذا النص يتجاوز القسمة القطرية أو الجغرافية من ناحية. ومن نـاحية أخرى فإن محاولة إعادة ما جري للغة اللاتينية على اللغة العربية الفصحى لن تنجح بسبب النص الأكبر الموجود من جهة، ومن ناحية أخرى فإن ما جرى للغة اللاتينية لم يكن جيـدا في كل الأحوال، وبـالتأكيد كـان حـال الآداب والثقافة الأوربية سيكـون أفضل لو ظلت اللغة اللاتينية لغة أغلبية الشعوب الأوربية. على الأقل كان ذلك سيوفر المجهود الكبر في الترجمة الذي يحدث الآن من لغة إلى أخرى. على أي حال هذا السؤال المهم يتردد على استحياء الآن لكنه يمكن ان يتردد فيما بعـد بقـوة بسبب التغيرات الشديدة التي تشهدها اللغة العربية في المغرب الأقصى بالـذات أو المؤثـرات الأجنبية التي تتسلل إليها وذلك يـدعـو العلماء والمترجمين في الـوطن العربي إلى محاولة الوصول إلى نص واحد ومصطلح واحد واعتقد ان هذه هي القضية الغائبة عن المجامع اللغوية العربية منذ نشأتها.

إلى "أكسى آن بـروفـانس" و" مارسيليا" سـافـرت سلوى بكر وبهاء طاهر ولحقت بهما، من ليون، وسلوى بكـر على طول الرحلة مفعمة بالحيـوية والصراحـة، حيوية في استقبـال أسئلة الجمهور وصراحة في الإجابة إلى حد مثير، وهي الآن في أوربا كاتبة معروفة ترجمت لها أعمال كثيرة فى الإنجليزية والألمانية رفي الطريق ترجمة فرنسيـة لروايتهـا "العربـة الذهبيـة لا تصعد إلى السماء قبل ليون كنت ذهبت مع محمـد عفيفي مطر إلى بلدة صغيرة تسمى "بلوا" إلى الغرب من باريـس على مبعدة حـوالي ثلثمائة كيلومتر حيث أقيمت لنـا نـدوة بإحدى المكتبات. قبل الندوة زرنا "قصر بلوا" وهو أربعة قصور ملكيـة بنيت في أربعة عصور متعـاقبة منـذ العصر الإقطاعي "القرن الثالـث عشر" حتى بدايـة العصـور الحديثـة "لقـرن السابع عشر" نلمس فيها أربعة طرز معماريـة: الفن القوطي، ثم المزيج من الفن القوطي وبدايـات عصر النهضـة، ثم روح عصر النهضـة ثم المرحلة الكلاسيكيـة التي شملت القرن السابع عشر. هذا القصر هو أكبر قصـور المدينة الصغيرة التي وتمتلئ بقصور الأمراء والملوك قبل الثورة الفرنسية. لقد احتل جنود الثـورة الفرنسيـة جوانب هـذا القصر وجعلوا من جناح الملكة كاترين دى مـدتيش مكانا للنوم وللخيل، ولما لاحظت ان جدران الجنـاح الخشبية لاتـزال سليمة النقش حدثتني السيدة التي تشرح لنا معالم القصر بأن أحد الأمراء أدرك خطر الثورة على هذا المكان فقـام بدهان هذه الجدران الخشبيـة ذات النقـوش الدقيقـة بالجبس، وفي القرن الماضي وفي زيارة لبلزاك الكـاتب المشهـور للقصر اكتشف هذه الحقيقة وهو يمـر على الحوائط بـالمصادفـة وقـاما بإزالة الجص لتظهر هـذه النقوش البديعة.

في "بلوا" الصغيرة هذه التي تحمل اسمها من كلمة لاتينية تعني "الذئب" تحدث عفيفي مطر باستفـاضة عن تقصير الغـرب في معرفة وفهم الشرق وعن النظرة المتعاليـة للغربي إلى الشرق وضرورة ان تتغير، وتحدثت عن الإسكندرية وعن روايتي البلدة الأخرى. دائما كان هنـاك حـديث عن روايتي لأن النـدوات كـانت في المكتبات حيث تبـاع الرواية وأقوم بالتوقيع على النسخ المبيعـة للجمهور. كـانت هـذه أول مرة في حياتي افعل فيهـا ذلك. كنت كثيرا ما ارتبك لأني أوقـع لناس لم ألقهم من قبل وعلى في كل الأحوال كتابة كلمة رقيقة. وهي في أوربا مسألة طبيعية لترويج الكتاب. على أي حال في المرة الثـالثة صـار الأمر سهلا وأذكر أني وقعت على حوالي عشرين نسخة في مكتبة كـرونيك في ضاحية كريتاي خارج باريس وحدها.

في ليون لم يكن الأمر على ما يـرام برغم ان ليون أقدم عـلاقة بالشرق من باريس وغيرها! بدا ان مستقبلينا ينفذون الـبرنامج على مضض. كـانت سلوى بكر وبهاء طاهر قد سبقاني إليها. وجدت سلوى مصابة بعد ان انزلقت على ظهرها أمام الفنـدق بطريقة جعلتها عاجزة عن حمل متاعها بالإضافة إلى الفندق المخيف الذي كان فى الأصل ديرا. كـان تعليق "لوك باربوليسكـو" الذي صحبني ليتحدث عني ويترجم حديثـي ان هذه مدينة دخلناها بالليل وتركناها في الصباح الباكـر فهذه رحلة غامضـة وأمر صعب على النفس، وكـان محقا، لكن خفف عنا الجمهـور الذي احتشد لنـا والأسئلة التي وجهت لنـا ولي شخصيـا عـن اللغـة والأسلوب في روايتي. شخصان فقط لم يغادرا باريس هما أحمد عبد المعطى حجازي ومحمد البساطي، كانت لهما ندوة في بروكسل في بلجيكا مع الأدباء البلجيكيين الذين يكتبون بالفرنسية ولكن منظمي المهـرجان نسوا الحصول على فيزا لـدخول بلجيكـا لأي منهما وكـان تعليق البسـاطي: الحمد لله أنها ألغيت لان معلوماتي عن الأدب البلجيكي المكتـوب بالفرنسية قليلة وبهذا الكـلام عن البساطة ننتقل لآخـر محطاتنا، نلقي نظرة على باريس وسلوكنا فيها.

موجز عن التجوال

لقد سبق لي زيارة باريس منذ عامين بدعوة كريمة من معهد العالم العربي لنـدوة عن الرواية المصرية، لكن لا يعني هذا أني اعرف باريس، وأني لن اندهش في زيارتي الثانيـة دهشتي الأولى، لكن حـالي بالتأكيـد يختلف عن حالي البساطة ومطر وعبدالمنعم رمضـان الـذين يزورونها لأول مرة. جمال الغيطاني وأحمد عبد المعطي حجـازي هما أكثرنا معرفة ببـاريس (أقام فيهـا حجازي خمسـة عشر عاما وزارها الغيطاني خمس عشرة مرة) كان طبيعيا ان ننقسم صباح وصولنا ثلاثة أقسام.

آنا واصلان والبساطى مع الغيطاني، ومطر ورمضان مع حجـازي ود. لطيفة الزيات مع د. سـامية محرز أما سلوى بكر فذهبت في مهب الريح. لسلوى صداقات عـديـدة فهي لم تتـوقف عن الحركـة مع ضيوفهـا أو استقبـالهم بـدءا من مترجمات أوربيات إلى زوجات الملحقين العسكـريين والسيـاسيين والثقـافيين إلخ. كـانت كل يوم تحمل في يدها دعـوى لنا إلى غداء آو عشاء في بيت سفير أو ملحق من مصر أو البلاد العربية وكلها لم نلبها لازدحام البرنامج باستثناء سهرة قصيرة في بيت الملحق العسكري المصري. في جـولتنـا الأولى، أسلمنـا، نحن القصاصين، قيادنا فى جمال الغيطاني الذي قطع بنا جولة كبيرة من المون برناس حيث نسكن إلى السان جيرمان وأزقته المليئة بالجاليريهات الفنية إلى السان ميشيل حيث الكتب والمكتبات إلى المون برناس مرة أخرى مخترقين حـدائق اللوكسمبورج الجميلـة. خرجنا في العـاشرة صباحاً من الفندق وعدنا في الرابعة عصرا بلا تعب مع أننا لم نركب أي مواصلة. في باريس يتحفز جسمك للمشى والحركة، يرفض النوم. يرفض التعب. هواء بـاريس يفتح مسـام الجسم، والجسم نفسه يصبح طيعا للعقل والروح. وأمام كنيسـة سان جيرمـان لا بـد ان نـدخل إلى مقهى "دايجون" هذه سياحه باريسية ففي هذا المقهى كـان يجلس سارتر وسيمـون دي بوفوار وهيمنجواي وغيرهم، وقـد وضع صـاحب المقهى أسماءهم على أماكنهم. هذه عادة باريسية ذكيـة وجميلة. في الفندق الذي نزلنـا فيه أيضا، فنـدق "راسباي" وضع صاحب الفندق أسماء أكثر الفنانين والأدباء الذين نزلوا بالغرف يوما ما. وإذا كان الفنان تشكيليا تجد في الغرفة لوحة له غالبا أصلية يكون قد أهداها إلى الفندق. على مقـاعد الكتاب المشاهير نفسها كان يجلس كتاب آخـرون. كان أحدهم لا يكف عن الحركـة وهو جـالس يكتب بسرعة فـائقـة بحيث يرعبك إذا فكرت في الجلـوس جـواره أو النظر إليه ابتسمت حـين رايته لأنه ذكرني بصـورة الفنان كما كانت تقدمه أفلامنا القديمة. برغم ازدحام البرنامج وجدنا يوما لزيارة اللوفر، لم أزره في زيارتي السابقة لباريس، ذهبت آنا والبساطي و عفيفي مطر. يوم واحد لا يكفي لزيارة متحف اللـوفر لذلك قررنا ان نركز على جناح أو جناحين، وفي وقت واحد قررت آنا والبساطى ان نـركز على فنون عصر النهضة لكن عفيفي أضاف ضرورة زيارة الجنـاح الإسلامي. خفنـا ان نقول إنـه في مصر يزخر المتحف الإسلامي بما هو أكثر من اللوفر، فعفيفي كـان سيتهمنا ضـاحكـا بالعمالة للغرب مع أنه يعرف أننا لم نعد ندرك مع تقدم العمر والأهوال الغرب من الشرق. وافقنا فقط لقطع شهوة عفيفي في الملاحاة والحوار أمضينا وقتـا ممتعا مع رسـوم عصر النهضة ونحتها. كـان عفيفي مطر يدور في إعجاب حول تمثال متبتلا "العبدثائرا" لميكائيل انجلـو، ويتأمل التمثـال من أعلى ومن أسفل، والبساطي يتأمل عفيفي في دهشـة ويبتسم. الحقيقة ان تمثال انجلو فائق الروعة يكاد ينطلق من مكـانه تحررا و يكـاد يصرخ صرخـة الحريـة لكن البسـاطي يحب التصوير أكثر مما يحب النحت ولا يصدق ان مطر يحب النحت! أمام الموناليزا كـانت وقفتنا الكـبرى، مثل كل زوار اللوفر. ما الموناليزا؟ سؤال حلق فوقي وفي جنبات روحـي وأنا أقف متبتلا أمامها. طفل صغير يتيم يغتصب نظرة حب منك! من الطفل الصغير اليتيم؟ هو أنا، أنا المشاهد. المرناليزا تجعلك تشعر بفداحة الظلم الواقع على الإنسان في العـالم، باغتراب الإنسان ووحدته وعزلته. يا للبساطة المتناهية. يا للسخرية العجيبة. ما معنى ان توجد في هذا الكون الفسيح، وتشعر بعد كل هذه المعارك الدامية للإنسان بالعدم؟ هذا ما إشاعته في روحي الموناليزا وليس جمالها ولا ابتسامتهـا التي تدور معـك ولا كونها كانت حبيبة ليوناردو دافنشي، ولا كونها لوحـة لم تكتمل، ولا كون دافنشي كان مخترعا أكثر منه رساماً. أمام أي لوحة تجد تفسيراً. أمام الجورنيكا أشهر لوحات بيكاسو - موجودة في إسبانيا- تجد تفسيرا. هذه الصرخة التي تشمل كل شيء. هذا الفرع من الفاشية. لكن الموناليزا تحملك إلى الأثر، إلى السديم الأبيض، إلى اللحظـة التي سبقت خلق الإنسان، إلى البرزخ بين الجنـة والأرض. يـا للموناليزا...

ولم يكن بالطبع يمكن لنا مفارقة اللوفر دون تحقيق رغبة عفيفي في مشاهدة القسم الإسلامي الذي من فرط تعبنا ضللتا طريقنا إليه لم يفلح اتباعنا للإرشادات ولم تفلح أسئلتنا لموظفي اللوفر. بدا ان هناك رغبـة قدرية صفو شاعرنا الكبير. في النهاية اضطررنا للخروج، وقبل آخر باب سيفضي بنا إلى الخارج وجدنا ما يشير إلى القسم الإسلامي مباشرة وبسهولة ضحكنا ودخلنـا، لكن عفيفي لم يعجب بمعروضات القسم، رآها فقيرة وليست كـما توقع.

لا أحب ان أنهي هذا الحديث دون الإشارة إلى روح الدعابة التي شملت بعضنا في لقائه مع الجمهـور، شاركني في ذلك الشاعر عبدالمنعم رمضان وكان ذلك مفاجأة لنا. وفي أحد الندوات المهمة جدا، ندوة حرية التعبـير التي أشرت إليها من قبل، وكـان قـد حضرها السفير المصري والملحق الثقافي المصري وعدد كبـير من الجالية العربية لمحت مخرجة سينمائية مصرية تسجيلية معروفة بصلاتها بإسرائيل تعيش في باريس منذ سنوات وليس لها من عمل منـذ سنوات غير تشويه السلطة المصرية في علاقتها بالمثقفين. في هذه الندوة التي شاركتني فيها الدكتورة لطيفة الزيات وبهاء طاهر تعمدت تخفيف التـوتر القـائم وقلت أننا في مصر لا نتأخر عن إصدار أو بيان لمناصرة أي مثقف يتم عليه الاعتداء في أي مكان. أننا نصدر البيانات إلى درجة ان هناك عددا من أصدقائنا صار يتولى مهمة إصدار البيانات وتوقيعها فـور الاتصال بالتليفون. وقلت أنني في شبابي كنت اخرج في كل مظاهرة ضـد أمريكا وتوقفت أخيرا لان أمريكا انتصرت على الدنيا كلها ويخيل لي ان خروجي في المظاهرات كان سبب هذا الانتصار! وتحدث بهاء طاهر عن رقابة الإعلام على المسلسلات التلفزيونية لأنها تصدر وتوزع إلى دول بالخليج لديها محاذير كثيرة تصل إلى حد منع تصوير رجل وزوجته في غرفة النـوم، فقلت آنا أنه يمكن تصوير رجل وزوجته في غرفة النوم بشرط أن يكون معهما محرم! باختصـار خرجنا بالدعابة من النـدوة الصعبة، ولم نكـذب ولم نغازل المستمعين.. لكن لاحظنا ان الترجمة لا تستطيع نقل روح الدعابة المصريـة. لم يشعر بها إلا من زاروا مصر أو يعرفون شيئاً من العربيـة مثل جاك لاكـوتير الذي كان تعليقـه أنه من زمان لم يزر مصر، وأنه يشعر تلك الليلة كما لو كان يجلس بين أصدقائه في مقهى مصري حميم. بالطبع هنـاك مواقف وفصول طريفـة لاتهم القارئ كثيرا لكن لاحظت ان وجوها بعينها من الجمهور كـانت تتابعنا في كـل ندواتنا، وكـانت تحيطنا بالألفة والمحبة. كـانت في معظمها وجـوه نساء مصريات و عربيات اشتقت للـوجوه المصريـة وللروح المصرية. وكـان لافتاً للنظر ان معظم الكتـاب العرب المقيمين في باريـس لم يهتموا كثيراً بالاتصـال بنا أو متابعتنا إلا في الليلة الأخيرة حين أقام معهد العالم العربي ندوة كبيرة لنا حضرها عدد كبير من الكتـاب والشعراء منهم محمود درويش وهدى بركـات وكاظم جهاد وآخرون. لقد أدار هذه الندوة الناقد المعـروف فاروق مردم بك. وكـانت الندوة لمدة ساعتين احتجت عليهما بعض الحاضرات من الجمهور وطالبت ان تمتد الندوة لأربع ساعات لكن ذلك لم يكن ممكنا. بعدها أدخلنا المعهد بهمة بهجت بدر الدين عرودكي إلى جو عربي عريق بعشاء غزير أمتد إلى منتصف الليل.

بعد ان بدا ابتعادنا كثيرا عن الأجواء العربية من فرط كثافة البرنامج المعد لنا ومن فرط كثافة الوجود اليهودي لفرنسي في النـدوات، خاصة اليهـود ذوي الأصول العربية، المصرية على وجه الخصوص الـذين كثيرا ما يحدث بعضهم عن الحنين إلى مصر لكنهم بوجه عام لم يتحدثوا عن إسرائيل، إذا ببرنامج إذاعي فرنسي موجه عنوانه "شالوم" يحاول الاتصال بنا لكـن لا أحد وافق على الحديث فيه. مذيعـة في برنامـج بانوراما فـرنسية الإذاعي سألتني صراحـة بعـد مـا أثبت على روايتي " البلدة الأخرى" ما إذا كنت أحب ان أزور إسرائيل؟ قلت: لا. أذاعت البرنامج وتحدثت حديثاً جميلا عن رواية وعني ثم قالت: لكنه مع الأسف لا يريد زيارة إسرائيل.. كانت ليلتنا الأخيرة عربية صرفا إذن. كما كانت ليلتنا الأولى فرنسية تماما، وهكذا حلت فينا المسرة في الذهاب والإياب.

 

إبراهيم عبدالمجيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




في باحة اللوفر عبدالمجيد يتوسط البساطي ومطر





في احدى المكتبات الباريسية نبيل نعوم وجمال الغيطاني وريشار جاكمون





واجهة قصر بوا الذي عقدت فيه بعض ندوات الأدباء العرب من مصر





غلاف الكتاب الذي صدر بمناسبة الزيارة ويحتوي نبذة عن حياة الكتاب المصريين وأعمالهم الأدبية