العربي في نصف قرن.. العربي في عددها التاسع

العربي في نصف قرن.. العربي في عددها التاسع

أول جائزة لنجيب محفوظ

كان أول مبلغ كبير حصل عليه الأديب نجيب محفوظ في حياته، كما جاء في مقابلة معه في هذا العدد من «العربي»، أغسطس 1959، «هو ألف جنيه، منحته إياه الحكومة المصرية عام 1957، كجائزة للدولة في الأدب». غير أن الروائي محفوظ، والذي امتدت به الحياة حتى نال جائزة نوبل للآداب فيما بعد، لم يكن راضياً كل الرضا عن أوضاعه المالية التي لا تسعفها الجوائز. فكتب في مجلة «الآداب»، كما نقلت عنها «العربي»، يقول شاكياً:

«إن أغلى أمانيّ في الحياة أن تتاح لي فرصة الاستقرار والتفرغ للعمل الأدبي، ولكني لا أريد مع ذلك أن يأتي شهر أضطر فيه إلى اقتراض النقود، لذا، فأنا الآن موظف وكاتب سينمائي ثم أديب بعد ذلك، أي أن الأدب هو مهنتي الثالثة. ولو ضمنت لي الدولة مائة جنيه في الشهر لكان هذا تقديراً أفضل من جائزة الدولة، ولقدَّمتُ لها كل إنتاجي الأدبي لنشره وإعداده للمسرح والسينما دون مقابل. وأعتقد أنها لن تكون الخاسرة».

ياللصفقة الرابحة التي خسرتها حقاً الخزينة المصرية!! الأديب القاص فاجأ قراء العربي بعنوان جريء، «لا حياء في الأدب كما لا حياء في الدين!» وقد حمل رأيه آنذاك، روح تلك المرحلة الفتية من حياة الفكر العربي:

«إني أؤمن بالأدب الجيد، أعني الأدب العميق، الشامل، الإنساني، الذي يعالج مشاكله بجدية وإخلاص. والصراحة المكشوفة في هذا الأدب تكون كالصراحة في الطب والشريعة، من شأنها أن تحمل القارئ على التفكير والسمو لا الانحطاط والابتذال. وستجد أمثالاً لها في التوراة والقرآن. ولعل الخوف مما يسمى بالأدب المكشوف لا يجيء من كونه مكشوفاً بقدر ما يجيء من كونه تافها سطحياً لا همّ له إلا الإثارة والتجارة».

سألته «العربي»، ولا نعرف من الذي أجرى المقابلة: ماذا تكتب الآن؟ فأجاب: «سيناريو فيلم صلاح الدين الأيوبي. وقصتي المقبلة التي أسميها «أولاد حارتنا»!

هل كان يعرف آنذاك، أنه منهمك في عمل روائي سيحدث كل ما أحدث، ولايزال، من زوابع وضجيج؟ أم أن إجابته البسيطة كانت الهدوء والسكون الذي يسبق العاصفة؟!

كان آخر أسئلة «العربي» للروائي الكبير، عن سر تمسكه بناشر واحد، مع أنه قد يحصل على ربح أوفر لو أنه اتجه إلى ناشر آخر، فقال: «في سنة 1943 كان لديّ من المؤلفات الجاهزة: روادبيس وكفاح طيبة والقاهرة الجديدة، ولم يكن لدى ناشر واحد فضلاً عن أن جميع دور النشر رفضت النظر في مؤلفاتي. ثم أنشأ الصديق الأديب عبدالحميد جودة السحار لجنة النشر للجامعيين، واتفق معي على نشر جميع مؤلفاتي المخزونة، وقد كان.. ومن يومها لم أغيره».. وانتهى الحديث!

رحلة لليمن

قدم د. محمود السمرة في هذا العدد للقراء كتاباً بالإنجليزية عن اليمن The Yemen للرحالة «هانز هلفريتز»، Hans Helfritz. وقد طبع الكتاب بالألمانية عام 1956 ونقل إلى الإنجليزية عام 1958. وهو عن رحلة قام بها المؤلف إلى اليمن، من الشرق إلى الغرب، عبر «سَيْحوت» و«الربع الخالي»، و«تريم» و«شيبام» فصنعاء فالحُديِّدة. وهي «طريق غاية في الخطورة والصعوبة، فكان بهذا أول أوربي يعبر هذه المنطقة المجهولة». استوقفتني في الكتاب - كما قدمه د. السمرة - عدة نقاط، تتعلق بالموسيقى اليمنية والقهوة.. واليهود!

فعندما تقدم «هلفريتز» بطلب إلى الإمام طالباً السماح له بزيارة اليمن، يقول الناقد: ادعى أن همه الأول دراسة الموسيقى اليمنية، حتى يسهل قبول طلبه. ولكنه قام فعلاً بدراسة هذه الموسيقى، ورجع بعدد ضخم من التسجيلات لها يزيد عن المائة. وبهذا قدم للعالم الغربي لأول مرة وثائق لموسيقى بلاد العرب الجنوبية، وليس هذا فحسب،بل إن «ما يسترعي الانتباه في هذه التسجيلات التشابه الكبير بين موسيقى المناطق الجبلية اليمنية، وموسيقى البربر التي سجلها «لاخمان» و«هورنبوستيل». وقد استنتج «لاخمان» من هذا وجود علاقة وثيقة بين الشعبين تعود إلى ما قبل الإسلام. ومما قوى هذا الاعتقاد في نفسه أن الحركات التي تصاحب الموسيقى هي نفسها في كلتا المنطقتين. وليست الموسيقى وحدها هي التي تشير إلى هذا التقارب والتشابه، بل إن فن البناء نفسه في كلتيهما لدليل آخر. ففي جبل أطلس أبنية سامقة نجدُ نُسخاً منها بتفاصيلها ودقائقها في جبال العرب الجنوبية».

ونقف أخيراً عند ما ورد في مقال د. السمرة عن رحلة العالم الألماني «هلفريتز» إلى اليمن بخصوص اليهود: «كان لليهود في اليمن أحياء خاصة بهم، ولم يكن «الإمام» ليسمح لهم بمغادرة البلاد، أو الاتصال بالحركة الصهيونية، وعلى الرغم من هذا فإن كثيرين منهم استطاعوا الفرار والانضمام إلى اليهود في فلسطين. ولكن منذ قيام إسرائيل تغير الحال،فلم يبق في اليمن يهودي. إذ بعد الإمام يحيى تُرك الخيار لليهود أن يتركوا البلاد إذا أرادوا فتركوها بجمعهم إلى فلسطين المحتلة. ولقد رحبت إسرائيل بهم، وعملت على إحضارهم لأنها كانت في حاجة إلى الأيدي المهنية الماهرة، ويهود اليمن صاغة، وخياطون وصانعو أحذية وحدادون بارعون، اكتسبوا هذه الخبرة من تخصصهم فيها وتفرغهم لها أثناء وجودهم في اليمن».

ويقول المؤرخ أحمد أمين في «فجر الإسلام»، أشهر كتبه، إن اليهود اشتهروا في جزيرة العرب حيث حلوا «بمهارتهم في الزراعة، كما اشتهروا في يثرب أيضاً بصناعاتهم المعدنية كالحدادة والصياغة وصنع الأسلحة».

ليبيا الجميلة

لم يكن أغلبنا يعرف الكثير عن ليبيا عام 1959، باستثناء «الحركة السنوسية» و«الشهيد عمر المختار». فإذا بالعدد التاسع من العربي يضع صورة لفتاة ليبية، في مدرسة البنات الثانوية في طرابلس الغرب، أثناء دراستها للكرة الأرضية، على غلاف المجلة! وكم هو طريف وشائق، لو قامت «العربي» اليوم، بمقابلة بعض الفتيات اللواتي اختارتهن لأغلفتها الأولى، كما فعلت مع غلاف العدد الأول! حوى استطلاع العربي الملون عن ليبيا الكثير من الصور الجميلة عن مدينة طرابلس لأول مرة، وهي بعدسة المصور «أوسكار». ولعل أجمل هذه الصور «كورنيش طرابلس»، بأشجار النخيل على الجانبين.

وجاء في التعليق أسفل الصورة، أن «على جانبه الأيمن تقع أجمل فنادق المدينة. وهو يمتد من قلعة السراي إلى دوائر الحكومة الاتحادية».

وتحدث الاستطلاع عن أسواق طرابلس الشعبية، فذكر منها «سوق الصنائع اليدوية» و«سوق الربع» لبيع الأقمشة اليدوية، و«سوق الصاغة» و«سوق العطارين» و«سوق المشد» للحديد و«سوق الترك» وهو للحياكة، و«سوق الحرير». أما «سوق الحوت» فهو سوق السمك واللحم والخضار.

ونستغرب نحن، أهل المشرق، من تسمية السمك بالحوت، بينما تقول القواميس بأن «الحوت: السمكة، صغيرة كانت أم كبيرة»، والحوت كذلك «جنس من الحيونات الثديية من رتبة الحيتان، جمعها حيتان وأَحْوات».

ويضيف استطلاع «العربي»: «وهناك سوق آخر شهير، ولكنه يقع في ضواحي طرابلس وهو سوق الجمعة، وهذا السوق حي بأكمله، له مركز بوليس وحوله أربع مدارس وثلاثة جوامع وليس في سوق الجمعة أي نشاط إلا يوم الجمعة حيث يبدأ العمل من السادسة صباحاً. وفي هذا السوق لا يجتمع التجار للمساومة والتجارة فقط، بل كثيراً ما تدور فيه الأحاديث السياسية!» وفي هذه الأسواق، من أسواق الجمعة، «سوق الماشية»، ويباع فيه الخروف بمبلغ «يتراوح بين 3 - 6 جنيهات»، والبقرة «بين العشرين والخمسين جنيهاً»، والجمل «بين 35 - 70 جنيها»، ولا نعرف الأسعار السائدة لمثل هذه الدواب اليوم. وقد خص الاستطلاع سوق الجمعة وخرافه بصورتين جميلتين!

وتناولت «العربي» جانباً آخر من جوانب ثقافة وتاريخ شمال إفريقيا، إذ كتب المورخ العربي المعروف «د. نقولا زيادة» (1907 - 2006) مقالاً عن أشهر رحالة العرب «ابن بطوطة». وجاء ضمن عناوين المقال، أنه «كان عالماً وفقيهاً، بقدر ولعه بالأسفار» وأنه «كان يتزوج في كل بلد يقيم فيه»!

ويتصور البعض أن ابن بطولة تناول القلم بعد عودته من الأسفار، ليدون في القراطيس تفاصيل رحلاته. والواقع، كما يقول د. زيادة، إن الرحلة التي وصلت إلينا ما أملاه المؤلف على «ابن جزِّي» كاتب السلطان «أبي عنان»، من بني مرين ملوك مراكش (592 - 597 - 1369 - 1551). فقد نفذت إرادة أبي عنان إلى ابن بطولة، «بأن يملي ما شاهده في رحلته من الأمصار، وما علق بحفظه من نوادر الأخبار، ويذكر من لقيه من ملوك الأقطار وعلمائها الأخيار وأوليائها الأبرار».

ويبدو أن السلطان المغربي، يضيف د. زيادة، أعجبه ما سمعه من ابن بطولة فأراد أن يُحفظ، فخص الرحالة بكاتبه. وكان ابن بطوطة قد فقد أوراقه ولذلك كان كل ما أملاه من الذاكرة. وكان ذلك بين 755 و 770هـ (1354 - 1368م). ولكن الكاتب «ابن جزي» لم يكتف بما أملاه الرحالة، بل أضاف إلى الإملاء شواهد شعرية كثيرة، ثم نقل عن «ابن جبير» وغيره فصولاً ضمنها وصفه لدمشق وحلب وبغداد. ولهذا نجد صعوبة مسايرة ابن بطولة في أسفاره بسبب عدم تسلسل أخبارها. كما أن ابن بطوطة، «لم يكن يعنى بالجغرافية عناية خاصة. فهو لم يهتم بالأقطار إلا قليلاً. ووصفه للمدن يدل على أنه اعتبرها أماكن إقامة للناس، إذ كان هؤلاء موضع اهتمامه وعنايته. ولذلك، فنحن نفيد اجتماعياً وتاريخياً، أكثر مما نفيد جغرافياً من قراءتنا رحلة ابن بطوطة».

وكان لهذا أثره في تقييم الرحلة، إذ حملت هذه الأمور بعض المفكرين قدماء ومحدثين، على الشك في وصول ابن بطوطة إلى الصين مثلا. فقد شك في ذلك «ابن خلدون» و«ابن جزِّي» نفسه. وشك في ذلك من المحدثين العلامة «فران».

ويبدو أن المستشرق الذي يشير إليه د. زيادة هو الفرنسي G.Ferrand (1864 - 1935)، الذي «باشر نشر مكتبة الجغرافيين العرب»، كما يذكر نجيب العقيقي في موسوعته عن المستشرقين. (ج1 ص 233 - 234). ومع ذلك يدافع د. زيادة عن الرحالة الشهير ويقول إن «الكثرة ممن عكف على دراسة الرحالة ورحلته، تجمع على أن الرجل كان أميناً صادقاً في روايته، وأنه قد يكون أخطأ أو نسي بعض الشيء، أو أدخل في روايته قصصاً وأساطير، لكنه لم يتعمد اختلاقاً أو تلفيقاً أو غشاً».

القومية العربية

واصلت «العربي» بحوثها القومية في العدد التاسع. فنشرت مقالاً للدكتور «كلوفيس مقصود» بعنوان «القومية العربية انتماء + حركة وليست قومية عنصرية». القومية في الواقع العربي لها عند مقصود مدلولان: الأول انتمائي والثاني حركي. «ففي المدلول الأول يعتبر كل فرد من أبناء الشعب العربي قومياً عربياً لمجرد كونه أحد أبناء الأمة العربية، وهذه حقيقة راسخة لا تتغير ولا تتبدل.

أما المدلول الثاني للقومية العربية فهو حركي، وهذا يعني أن التسليم بكوننا قوميين عربيي الانتماء، يحتم علينا مسئوليات تجعل منا في مراحل معينة من تاريخ أمتنا قوميين عرباً - أي عاملين في حركة القومية العربية. فإذا كانت الأمة مجزأة إلى دويلات كما كان الحال في ألمانيا وإيطاليا في القرن الماضي، تحدد العمل القومي بتحقيق وحدة الأمة. أما إذا كان يسيطر على مقدرات الأمة دول أجنبية، توجه العمل القومي نحو تحرير الأمة من هذه السيطرة».

ومن أهم وأوضح وأخطر ما جاء في هذا المقال، ما قاله مقصود في توضيح العلاقة بين العنصرية والقومية العربية. فهو ينفي عن القومية العربية الصفة العنصرية، ولكنه يحذر الأقليات القومية الأخرى في العالم العربي من الالتفاف أكثر مما ينبغي حول اثنيتها وأعراقها القومية العربية، يقول مقصود: «تُفهم في بعض الأوساط وكأنها قومية عنصرية، وهذا المفهوم للقومية خاطئ وخطير، فالانتماء للقومية العربية يتحدد بكون الفرد في الوطن العربي قد ربط مصيره بمصير الأمة.. فبواسطة هذا التحديد يصبح الكردي في العراق، والأرمني في لبنان وسورية، والقبائل الزنجية في جنوب السودان، والبربر في المغرب العربي، عرباً بانتمائهم للدولة العربية دون أن يعني ذلك تذويب حقوقهم العنصرية، فالذي يحدد كون إنسان ما عربياً هو انتماؤه إلى الدولة العربية».

وبهذا يلغي «مقصود» مفهوم الدولة المتعددة القوميات، كما هو واقع الحال في دول كثيرة، ويعطي للانتماء القومي سلطة وتفوقاً على الانتماء الوطني، في مثل هذه الدول. فقد يكون بين هذه الأقليات القومية، يقول مقصود: «من يدعو لخلود الكيانات القائمة. أو يدعي انتماء إلى القومية المحددة عنصرياً بالنسبة له. عندئذ يكون الموقف القومي العربي السليم هو أن يعتبرهم مُضَلَّلين، وتكون مسئوليتنا توجيههم إلى فهم حقيقة القومية العربية وحقيقة الأهداف التي تسعى الحركة إلى تحقيقها. وهذا يفترض حتماً أن رجوع هؤلاء عن ضلالهم يؤدي بهم إلى العمل القومي العربي والسعي لتحقيق الوحدة للأمة وتحررها».

ويربط الأستاذ مقصود مثل هذه الميول القومية، وبطريقة غير مقنعة، بالاستيلاء الفرنسي على الجزائر واستيلاء الصهاينة على فلسطين، ثم يقول: «وهذا يؤدي بنا إلى تقرير أن استغلال العنصرية الانفصالية والتركز على بقاء الأوضاع الكيانية في الوطن العربي هما انعكاسات لموقف الرجعية العربية، ولذلك فهي مناوئة لثورية القومية ولتقدميتها وبالتالي لتطبيقها. فالنضال ضد العمل الانفصالي والمحافظ، هو نضال ضد تيار الجمود والتحجر والتضليل».

تحلية المياه في الكويت

وتحدث مقال لبقية أبناء العالم العربي عن شأن لم يكونوا على الأرجح سمعوا به كثيراً، ألا وهو تحلية مياه البحر أو تقطيره وعزل الملح عنه! «وبهذا تنتج مقطّرات الماء الموجودة الآن في مدينة الكويت نحو 4 ملايين جالون يومياً، وفي ميناء الأحمدي محطة تقطير تنتج نحو مليون جالون يومياً».

وجاء في المقال «إن عملية إنتاج البترول في الكويت تنتج عنها مقادير كبيرة من الغاز الطبيعي يُحرق في الهواء دون الإفادة منه. وهكذا توافرت لعملية تقطير المياه العذبة من البحر قوة لا تكلف شيئاً، وتكفي أيضاً لعملية توليد القوى الكهربائية».

وحدد المقال معدل استهلاك الفرد من الماء العذب في الكويت بعشرين جالوناً يومياً. أما المخزون الاحتياطي من الماء العذب فيبلغ 25 مليون جالون، «وهذه الكمية لا تكفي لأكثر من أربعة أيام».

احتوى الاستطلاع صورة خضراء مشرقة لقرية «الجهراء» الكويتية.

وجاء التعليق أسفل الصورة يقول: «بين أشجار النخيل، شعار أرضنا العربية، وفي سهل سندسي غني بالظل والخضرة والجمال، في قرية «الجهراء» في ضواحي الكويت، ينساب هذا الجدول هادئاً فياضاً، من إحدى العيون الطبيعية هناك في تربة غاية في الخصب، لم تكن لتكون لولا الماء».

ولا أدري كم بقي اليوم من ماء الجهراء وعيونها وخضرائها، والأشياء الأخرى!

وتضمن الاستطلاع كذلك صورة نادرة لما قد يعتبر أول حديقة حيوان في الكويت، وهي «حديقة سلوى». فهي الحديقة التي رأيت فيها للمرة الأولى في حياتي مجموعة من النمور والوحوش في أقفاصها!

واستغلّت إدارة المجلة، وهي في عددها أو «شهرها التاسع» لتتحدث عن ظروف إصدارها، حيث تمّ، عندما تبنى الفكرة رئيس دائرة المطبوعات والنشر بالكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح، سمو الأمير الحالي للبلاد، في عهد حاكم الكويت الراحل «الشيخ عبدالله السالم الصباح». وأوضحت أسرة «العربي» للقراء بهذه المناسبة، ما أشارت إليه مؤكدة مراراً فقالت: لما كان «العربي» لكل بلاد العرب، كان من بداءة الأشياء، أن يكون على حياد، فيما قد يقوم به أهل الوطن الواحد من اختلاف رأي، إلا أن تكون عروبة يُساء فهمها فيسارع إلى تصحيح الأفهام».

ومن حِكَم العدد التي لم نعرها آنذاك أي اهتمام، قول القائل، «آلة العيش صحة وشباب، فإذا وليا عن المرء.. ولى!».

وتأملتُ في الزاوية نفسها كذلك نادرة تاريخية، عما قد يفعله الوهم بالإنسان. فقد كانت مؤسسة مهنة التمريض بشكلها الحديث، الإنجليزية «فلورنس نايتنجيل» تتوهم أنها مريضة بالقلب. وفي عام 1856 سقطت تحت هذا الوهم وكتبت وصيتها.. ولكنها لم تمت إلا بعد 54 سنة من هذا الحادث، عام 1910، وكانت قد بلغت التسعين!

الواقع الأمريكي

ومن محتويات العدد ما يمكن اعتباره من الاقتباسات النادرة عن الواقع الأمريكي والمشكلة العنصرية في الولايات المتحدة، إذا وضعنا في الاعتبار الحدث التاريخي الذي عشناه منذ أشهر، والذي تمثل في انتخاب أول رئيس أمريكي من أصول أفريقية، وهو «باراك أوباما».

قدمت «العربي» في هذا العدد لقرائها تعريفاً بدين «الصابئة» أو «عبدة النجوم»، كما يدعوهم البعض. وقد أكد المقال أن هؤلاء «ليسوا المذكورين في القرآن الكريم»، و«أن اسمهم العلمي الصحيح هو «المانديون» وتعني هذه الكلمة بلغتهم «تلاميذ». وقالت «العربي» إن أتباع هذه الديانة في العراق كانوا في القرن السابع عشر حوالي العشرين ألف عائلة، ولكنهم اليوم لا يزيدون على الثلاثة آلاف نسمة، وهم يعيشون ما بين النهرين، وقليل منهم يعيش في بغداد، وتقطن أكثريتهم الساحقة قرب «سوق الشيوخ» في الجهة الجنوبية الغربية من العراق. ولا يبعدون عن المياه الجارية إذ إن تعاليمهم الدينية تحتم عليهم الاقتراب منها دوماً. «ويرجع سبب تناقص عددهم إلى اضطهادهم، وإلى منازعاتهم الداخلية، وإلى أن الكثيرات منهم يتزوجن بمسلمين، ولهذا هم ينقرضون بسرعة».

وذكر المقال أن «ديانتهم خليط عجيب من الوثنية البابلية القديمة، ومن الشريعة الموسوية، ومن النصرانية والإسلام وكتابهم المقدس يدعى «السدراربا».

ويقول كاتب المقال، والمقال مترجم عن الإنجليزية، «استطعتُ عام 1904، نظراً للصداقة التي كانت تربطني بكاهنهم الأعظم، شراء نسخة منه باثنتي عشرة ليرة تركية، على شرط ألا أبيعها ثانية، ولقد قامت في اليوم التالي لابتياعها مظاهرات صاخبة لإجباري على إرجاعها، ولكنها تترجم الآن في أمريكا».

ولعل الغريب في أمر هذا الكتاب أن نصف كل صفحة منه مكتوب بطريقة عكسية حتى يستطيع كاهنان متقابلان قراءته في آن واحد عند وضعه فوق مجرى صغير من الماء».

ويعدّ الصابئة آدم أعظم الأنبياء، وهم يعتقدون أن الأرض «محاطة بالماء من ثلاث جهات، وفي الجهة الرابعة جبل فيروزي ينتج انعكاس الضوء عليه زرقة السماء»! فما أجمل هذه الصورة، و«الصابئة لا يحلقون شعرهم أبداً.. وهم جميلو البنية، حتى أنهم يكادون يميزون من قدودهم. وقد جندهم الأتراك، ولكنهم أعفوا من الخدمة، لاستحالة تطبيق شعائرهم الدينية التي تلزمهم أن يكونوا دوماً قرب المياه الجارية».

ونقف أخيراً، مع نهاية العدد، عند بريد القراء، حيث استفسر أحدهم عن ماهية «الفلسفة الوجودية». فكان جواب الزاوية عن السؤال كما يلي: «الوجودية، كالشيوعية، من أشد «المجهولات» في الشرق العربي! وإذا كان معظم الذين بهرتهم الشيوعية عندنا يعرفون من أمرها أكثر مما توهموه من أنها توزيع للثروات بالعدل والقسطاس (!) وأنها بذلك خير موئل للمفلسين،كذلك الذين اعتنقوا الوجودية من شبابنا إنما خدعهم ما توهموه من أنها موئل لعشاق التحرر وطلاب المتعة حيثما تكون، ولو أدى ذلك إلى الخروج على كل عرف وقانون ودين.

 

 

خليل علي حيدر





 





 





 





كورنيش طرابلس الجميل، وأشجار النخيل على الجانبين (صورة التقطها مصور العربي عام 1959)