فأر المساء يوسف وقاص

فأر المساء

قصة بقلم الكاتب الإيطالي: إنيو فلايانو

سيدي، صـدقوني تلك المدينة تتعـرض لغزوات منتظمة من الفئران، الغزو الأخير الذي شهدته كان حتما أطوله، ولكن الناس يصنفـونها على أي حال اقل سطوة للسلوك الفريـد الـذي تكشف عنـه تلك الحيوانات القارضة، أحد الباحثين من تلك الحقبة ترك دراسة من مجلدين برسومات توضيحية جميلة خارج إطار النص وأراد أن يخصني بـالإهداء، المدافع الفـذ عن حقـوق الإنسان"، ولا يدهشك مثل هـذا الإطراء المؤجل، كنت أنـا الشخص الـذي حـال دون تـدمير المدينـة وإحـراقهـا، كـما خطـط الفئـران لخداع الرقابة. وذلك عندما راودتني فكرة إصدار جريدة لهم.
- أتريدون القول للفئران؟
- يا سيدي؟ هنالك كثير من الأحكام المسبقة بحق الفئران، ليست جميعها مشكورة، بأنهم ينقلون مرض الطاعون فهذا أمر مبرهن عليه تاريخيا، وبأنهم من القوارض التي لا مثيل لها، أمر لا يعترض عليـه أحد، ولكنهم يمتلكـون روحـا مشرعة للخير وعقلا يغص بالمعرفة.. آه ياللجدية التي كان يطالعون بها جريدتي، وكيف كـانوا يطـوونها إلى أربع ليدسوها في جيوبهم ويستزيدوا منها في البيت.

- ولكن لماذا اخترت إصدار جريدة؟

- في تلك المدينة، كانت الغزوات المنتظمة قد أوهنت رد الفعل لدى السكان، كان يستكينون أمام مشيئة الأحداث دون أن يعلنوا أبدا أي مقاومة، جالما كان عمال المراقبة يرصدون طلائع الفئران الأولى، كان الأشخاص المقتدرون يوضبون حقائبهم بسرعة ويسافرون إلى المنتجعات الجميلة على الشاطئ، أما الفقراء المجبرون على البقاء فكانت عقولهم تتفتق عن ابتكارات للتعايش مع الغزاة، عارضين عليهم بعض الخدمات البسيطة مقابل التسامح معهم. الفئران أكثر طيبة مما يشاع عنهم، وكثير منهم كانوا يحملون المواطنين ويحكمون في منازعاتهم، وغالبا ما كانوا يتبنون بعض اليتامى. في ذلك العام يا سيدي، موجة من القحط الشديد أطالت من إقامة الفئران الذين كانوا عادة ما يغادرون مع بداية موسم المطر. وهكذا حلت رتابة الخريف؟ وتحول الغزاة إلى بخلاء ونزقين وغير قانعين.

لم يكن يجدي أي لهو في تهدئتهم.

- وهكذا أصدرت الجريدة؟
- فلنذهب حسب الترتيب. أنا كنت اطبع سابقـا نشرة لقيادة الفئران، وهل كان بإمكاني الرفض؟ كنت أقـوم بذلك العمل رغما عن أنفي، كـانت النشرة تضم رصدا للأحوال الجوية وجدولا لأعمال القيادة، وبعض الأقوال المأثورة التي كنت أنتحلهـا من تقـويم قديم، بإمكانكم أن تتصوروا الاشمئزاز الذي كـان يـرافقني أثنـاء طبع تلك النشرات، ولكن هم أيضا يملكـون واجبات تجاه عائلاتهم، وأنا لم أكن أستطيع التراجع عن تلك المهـمة المخـزية دون أن يشك في أمري كمعاد للغزاة. أمضيت لحظات سيئة، جموع من الفئران كانوا يحضرون إلى مطبعتي عنـد المساء للتلصص، يتمرغون بالصمغ ويسقطون في أوعية الحبر وكمساعدة منهم كانـوا يحبكون ألف مشكلة. وكنت مضطرا أيضـا لتحمل مزاجهم اللطيـف وشقاواتهم البريئـة. عندما كنت أسحب الـورقة الأولى من الآلة الطابعة، كانوا يتحلقون حولي (يتسلقونني حتى الرأس والأكتاف) ليقرأوا ويعلقوا، وكان يدهشني في كثير من الأحيان علامات الـرضا والحنان في نظراتهم. ولكن الفئران طموحون ويفقدون بسهولة الإثارة نحو الأشياء، بعـد شهر بقي زوج واحـد منهم يحضران لمراقبتي في العمل، أما الآخرون فكان بإمكانكم العثور عليهم جميعا في مختلف دور الدعارة المنتشرة في المدينة.

- أرجوكم، فلنصل إلى موضوع الجريدة.
- حـالا. في تلك الأيام، كـان الضجر قد أخذ بهم أكثر من أي وقت مضى، لذا قرروا أن ينهبوا المدينـة ويتركوها للنيران. في الحقيقة يا سيـدي، الرتابة تقود إلى أكثر الحلول يأسا، عندئذ قررت أن أكافح ليس الفئران وإنما ضجرهم.
- بإصدار جريدة لهم؟
- جريدة حقيقية وجديدة، جهزت الكليشيهات سرا، وفي نهاية أحد الأيام وزعتها بآلاف النسخ، للأسف كان نجاحا هائلا.
- لماذا تقولون للأسف؟
- منذ ذلك اليـوم تحولت حياتي في جحيم، بقيت متعلقا إلى طاولة عملي كالغريق إلى طوق نجـاته، كان الفئران يطلبون باستمرار جريدة أكثر تنوعا وإثارة، وأنا كنت مرغما على إرضائهم، كنت قد أصبت ذوقهم في الصميم.
- حدثني عن الجريدة
- كانت بعنوان " فأر المساء الجديد".

يا سيدي، دع خيلاء المطبعي يزهر في نفسي قليلا: كانت جريدة متقنة الصنع، متقنـة جدا. من خلال تجربتي المتواضعة مع القـوارض، حظيت بـالمتعـة في مـراقبـة الفضول وأحاسيسهم الأكثر نموا. ولولا خشيتي من ابتعاث نظـرية خـاطئـة، لكنت تجرأت على الافتراض بأنهم يقضمون لمجـرد اكتشاف ما تخبئه الأشياء التي تثير اهتمامهم الآن. قررت أن أدعم هذا السلـوك الطبيعي للقوارض، مستعرضا الفضول الذي تحتويه عقولهم تجاه الحياة، ومن أحداث العالم، ومن مشاكلهم العاجلة.

- اضرب لي مثلا أدامك الله

- دعوني أتذكر.. عرضت مسألة القطط. متوخيا بالطبع الـدمار الشامل، مقالاتي خلقت الفوضى، وكثير من الفئران اعتادوا على حفظها غيبا، لم أكن أستطيع عبور الشارع دون أن يعترض طريقـي باحترام بعض الفئران المغتبطين، متأهبين لإسماعي مقاطع من نص المقال.

- ما هي الموضوعات الأخرى التي كانت تثير اهتمام الفئران؟

- الجبن يا سيدي .. اضطررت لكتـابة أعمدة برمتها حـول هـذا الموضوع، وفي النهـاية استعنت بناقد لـ"مشتقات الحليب" لسرد الجديد في هذا الحقل. يجب أن أقر بأن هذا الناقد استغل موقعـه القوي في الجريدة الذي يؤازره فيه القراء، لكي ينشر مقالا مطولا عن الأدب الهولنـدي من وجهة نظر خاصـة تتعلق بإنتاج مشتقات الحليب. أنتم تلاحظون إلى أي حـد يصل صلف المفكرين.
- أخبرني كيف تم إنقاذ المدينة؟
- أنا في طريقي لأخباركم، هاهى الخطة يا سيدي، كانت مقالاتي محفوفة هنا وهناك بعبارات مختصرة، تبين لهم بأن تدمير المدينة يمكن أن يـؤدي، أو بالأحرى أن يكون عديم الفائدة، لغزو في المستقبل، أو ربما الأجيال القـادمة سيجـدون ممتعـا الاختيال فـرق أطـلال "مفجعة" من الخراب، تذكـرت الضرر الذي لحق بروما بعـد دمار قرطاجة. مدحت خصائل الفئران أثناء الغزوات السابقة، كاحترامهم للتراث الفني، ولكنني لم أتطرق بكلمة واحدة للمرات التي التهموا فيها عددا من مجلدات المكتبة الوطنيـة. بالعكس أشرت إلى تعلقهم بالثقافة، وحظيت بتقريظ القـائد بعد مقال أشدت فيه بفن الخطابة لدى الفئران.

حققت نجاحا آخـر عنـدما أغنيت الجريـدة بالصور. الفئران في براءتهم المحببة، كانوا ينظرون إلى المقالات ويقرئون الصور.
- أي نوع من الصور؟
- الفئران لا يملكون أذواقا صعبة، يعشقـون مثلا الجمال في شكله الأكثر ألفة، تهللت أساريرهم عندما طبعت صورا لفأر بلباس غير محتشم، وحتى عاريـة أيضا. ولكنني اضطررت لاختيار الموديلات. آه .. بأي غنج كانوا يرفعون أقدامهم الأمامية ليكشفوا عن عوراتهم. كثير من الفئران امتهـنوا هذا العمل الفني ليتقربوا من الموديلات، أو ليحظوا ببعض الامتيازات وأنتم تعلمون بأن فأرا ما إذا ما امسك بريشة أو بقلم لا يسأم أبدا.
- اغتنيت على ما اعتقد.

- الفئران لا يبالون بالمادة معظمهم مارس المهنة لمجـرد التبـاهي فقط، أما الآخرون فقد سلب اهتمامهم الموضوعات الجادة. وهكذا حظيت الجريدة بإعجاب الجميع.
- ليس بـالضبط، الكثيرون منهم كانوا يحطون من شأنها. في الحقيقة كانوا يشترونها عـلى أي حال، ويقرئونها في الأماكن التي عادة ما تنكفئ فيه الفتيـات لقراءة رسـائل الحب الأولى، كان من بين. مسـاعدي بعض الفئران أيضا.
- هل كانوا بارعين في الكتابة؟
- يا سيدي، الفئران قبل كل شيء مخلوقات هادفة ينهجون نمط حياة تقودهم إلى فرملـة أجنحة الخيـال وبـؤس الإمعان، يملكون لغة لا تحتمل الالتباس، جعلتهم يعتادون على الأشياء الحقيقية في الوجود، ولم أجد صعوبة لأنهم مهيئون لذلك. أحيانا كانت تقلقهـم فكرة غزو محتمل للقطـط، وفكرة الموت أيضا، فلسفتي تولت البقية. والمدينة لم تمس بسوء.
- كان كل الفضل لكم.
- شكـرا يا سيدي. في الحقيقة، يجب أن أعترف بأن الفئران رحلوا مع بداية موسم المطر، ولكن لا أستطيع الإنكار بأن الذي حـال بينهم وبين شراسة الاعتداء المعهودة عنهم، هـو الجريدة المأذونـة التي كنت أديرها. العدد الأخير (بينما الفئران يتركون المدينة أفواجا) خرج بمقال رئيسي كـان بمثابة أنشودة للإخلاص وللشجاعة وللتفهم الإنساني للفئران. كأن يحمل عنوان "أعيدوا الزيارة " معظمهم رحلوا وهم يقرئون الجريدة، كالمتقاعدين المسنين، كانت عيونهم تفيض بالدمع، اقترح على قائدهم اللحاق بهم مع مطبعتي، ولكني تعذرت بالمرض.
- احتفلوا في المدينة بعد
- انسحاب الفئران؟
- أرادوا أن يمزقوني إربا: نجوت بمسـاعدة البحاثة المحليين، حيث أنهم بينـما أفضالي. أستطيع أن أقول إن أكثر من مواطن بكى فترة الغزو في الفترة اللاحقة.
- ولماذا تركت المدينة؟
- يا سيدي العـزيز، ماذا تريدونني أن أفعل؟ لما كنت في وضع يمكنني من احتمال مغامرة أخرى من هـذا الطراز. الفئران- بلا أدني شك - يمتلكون نوعية عالية، وبراءتهم تفيد في اختيارنا طريقا أكثر بساطـة في التأمل والركون إلى التواضع. تلك من صفات القديسين، ولكن أحيانا يتراءى لنـا أنه لا يوجد شيء أكثر رفاهية من الشخير الدافئ لقط يجلس فوق ركبتنا، هذا ما يفسر وجود هذا القط الـ "سورياني
Soriano" الضخم في بيتي. سيدي، أنا لا أطيقه.

 

يوسف وقاص

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات