قصص على الهواء

قصص على الهواء
        

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
-------------------------------------------

          تمثل القصص الست عشرة التي اختارتها «العربي» للفحص والمفاضلة دليلا واضحا على انشغال الكتاب الشباب بواقع اللحظة الراهنة في الوطن العربي، ومحاولتهم استجلاء تلك اللحظة والتعبير عنها من خلال لغة السرد والوصف والمجاز والخيال. وقد اخترت في النهاية ما يجمع متانة الأسلوب بالقدرة اللافتة على رسم الشخصيات ورواية الحدث، والطاقة الإيحائية المتميزة، وطَرق موضوعات جديدة لم تُبلها أقلام كتاب القصة السابقين. وقد رتبت هذه القصص وعلقت عليها حسب الأفضلية:

  • قصة «أسئلة الحواس الخمس» لوجيهة عبد الرحمن

          تضعنا الكاتبة في مواجهة الموت، ساردة مشاعر شخصية الميت وتأملها لعالم الأحياء الذي أصبح بعيدًا، تتساءل الشخصية القصصية، في شعور بالاستسلام العميق ليد الموت، وبرودة التابوت، عن أيامها الماضية وحياتها السابقة التي كانت تحفل بالحيوية والاحتفال بالعيش. لكننا نفاجأ في نهاية القصة بأن الميت حي يتخيل موته، وهو يستفيق من خيالاته على وقع طرقات تدق باب البيت. كأن الموت هنا رمزي متصل بفقدان طعم الحياة، وانقضاء متعها والرغبة فيها، وتحولها إلى موت منتظر يساعد الكائن على التخلص من ثقل العيش المؤلم. وقد عبرت الكاتبة عن هذه المشاعر بلغة سردية قلقة، وطاقة مجازية لا تخطئها العين، واستخدمت صورا واستعارات شعرية تدل على موهبة شعرية مضافة إلى موهبتها القصصية.

  • قصة «عودة الإضاءة» لفيحاء نابلسي

          تنطلق من فضاء الربيع العربي، وانكسار جدران الخوف، والمناداة بالحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وهي تحكي عن عذابات معلم يجد نفسه مختلفا مع النظام القمعي القائم الذي يعتمد القهر وسيلة لإخضاع الناس، ودفعهم بالقوة والتهديد والوعيد للإيمان بما يؤمن به. وبالرغم من أن الشخصية لا تجرؤ على التعبير عن شكوكها في مسلّمات النظام السياسي ورؤيته المهترئة للعالم، فإن هذه الشخصية تعثر على حريتها في ما كتبه الطلبة. ونحن نعثر في القصة على إحالات واقعية، وتحويرات لأسماء الأعلام والدول، لكن ذلك لا ينتقص من قيمة هذا النص القصصي الذي يجعل من واقع الظلم والاستبداد والقهر الفكري والجسدي مرادفا للظلام الذي تبدده حروف كلمة حرية، المكتوبة بخط طالب متردد خائف على حائط مدرسة.

  • قصة «صلاة سرية» لحجاج أحمد شعبان

          تأتي القصة -تعبيرًا عن راهن العرب المعاصرين ومعاناتهم من القهر والتسلط والطغيان، ورغبتهم العارمة في قول لا للسلطة الحاكمة. ونجد أن الشخصية المترددة، الخائفة من العقاب الجسدي، تختلق المعاذير المختلفة لكي لا تشارك في التظاهرة التي تتعرض لقمع الأمن العنيف، وصولًا إلى فقء عيني أحد المتظاهرين. لكن هذا التردد، والرغبة الملحة في التعبير عن الرفض والتضامن مع المتظاهرين، ينحل في نهاية خيوط القصة، حيث يصرخ الأطفال بعد عودة الأب المتردد الخائف إلى بيته بأنهم رأوه على شاشة التلفزيون وهو يشارك في التظاهرة. لقد تغلبت الشخصية على خوفها على غفلة منها، في تعبير رمزي عن حال الشعوب العربية التي اجتازت حاجز الخوف من القمع.

  • قصة «صندوق الضحايا» لمحمد عباس داود

          هي حكاية رمزية عن لعبة الصراع في هذا العالم. إنها تسعى للتعبير مجازيا عن الصراع من خلال ما يرويه حجر شطرنج عن دوره في اللعبة ـ المعركة التي شارك فيها، لينتهي أخيرًا قتيلًا يرقد بين الضحايا في صندوق اللعبة، بالرغم من أنه لعب دور الوزير. إنها قصة في غاية الذكاء والألمعية والقدرة على التعبير عن معنى كبير في كلمات قليلة. وهي تشبه سابقاتها من القصص التي تحدثنا عنها في دورانها حول الراهن وإضاءته من منظور السرد والحكاية.

  • قصة «الكرامة» لـ الوفاق لحسن.

          تختلف في موضوعها عن القصص السابقة لكنها تلتقي مع القصص السابقة في تركيزها على الكرامة بوصفها مفتاح شخصية الحيوان كما هي مفتاح شخصية الإنسان، فالكلب يهجر صاحبه لأن الأخير لم يدافع عن كرامة الكلب، وسمح لأقاربه من الأطفال بأن يعذبوا الحيوان المسكين. إنها قصة مكتوبة برهافة ولغة محلقة، تعرف كيف تبدأ سردها وكيف تغلقه على أحزان طفل يفقد كلبه. واللافت في نهاية القصة هو التعبير غير المباشر عن رحيل الكلب دون لغة عاطفية مفرطة. إن الطفل يقرأ رحيل الكلب في عيون أهله، ما يشير إلى خيال القاص الرحب الفسيح، ومعرفته بلغة السرد وتقنياته التي تختزن من التعبير والدلالة أكثر بكثير من الكلام والوصف المباشر.

----------------------------
أسئلة الحواس الخمس
وجيهة عبد الرحمن

          في الخارج يعبث الغبار بالرؤية، تلهمني ذرَّاته فأعود إلى الوراء، إلى ذاكرة البدء لأخفي وجهي بين أصابعي، أسترق النظر عبر بللور نافذتي إلى الكون المعجز، تتراءى لي أوهامي التي تحيط بها هالة من السواد، أنظر إلى الأفق البعيد، تسحبني هواجسي لئلا أنغمس في تصوراتٍ لا مثيل لها عن الموت.

          أيُّ موات ذاك الذي استلب مني تفكيري، لن أقضي في حادث أو أحترق في النار، لن يقضي عليَّ المرض الذي فتك بأحشائي لأني مازلت أقاومه.

          تمنيت دومًا موتًا هادئًا بلا ضجيج يسلبني هيبة الرحيل عن حياةٍ تنزَّهتُ بنزق في أروقتها الصمَّاء، بعثرت الأيام بفوضى النمل الذي يجتاح مخزن الحبوب.

          بعد لحظات سيضعونني في صندوق خشبيٍّ، سأسكنه إلى ما لا نهاية.

          تراهم سيلفون جسدي بالبياض، أم سيكتفون بتعطيري، ثمَّ سيغلقون باب مسكني الجديد عليَّ؟

          أراهم يمرُّون بي أرتالًا بيضاء، مريم لاتزال تضع يدها أسفل بطنها، خشية أن ينفتح جرحها الذي امتلأ صديدًا، وقد حفر لنفسه أخدودًا ينزُّ منه بانسياب، أرادت أن تختم هبة رحمها بوليد ثالث، لكنَّها الآن تمضي مع الرَّتل الأحادي، لم تلوح لي بيدها، ظلام دامس ما حولي لا أرى شيئا، لو أنَّهم زوَّدوني بقنديل أو شمعة ريثما أعتاد السواد.

          أقف بمحاذاة الرَّتل الذي يمرُّ بجانبي، أبحث عن مكان أحشر نفسي فيه فأمضي معهم، أمي التي شممت رائحة الخبز تفوح منها تمادت في تجاهلي، الظلام يلفني، كنت أحاسبهم إذا تركوا الإضاءة منارة في البيت، السواد كان دومًا يغريني، حتى فيما ارتديت، ربَّما لأنِّي كنت قادرة على الخروج إلى النور لحظة أشاء، الآن أنا رهينة الظلام الأبدي، أشعر بهم يحملونني على الأكتاف، منذ متى عرفوا قدري وأنِّي يجب أن أكرَّم وقد كانت مكرماتي هباءً، أذلك بعد أن رحلتْ الروح عن جسدٍ فانٍ وأصبحتُ لا أجيد الهرولة، أتراهم يذرفون دموعهم؟

          من بين الحشد تتراءى لي ابنتي، كم تمنيت لو أحيا طويلا لئلا أسمع صراخها، طالما تخيلتُ نفسي أرحل، فأتصوَّرها تطلق العنان لحنجرتها لتمزِّق أستار السماء، فتهبط النجوم بفوانيسها وتضيء لها وحشة المكان بعدي.

          مازلت على الأكتاف، إنَّهم يبالغون في تكريمي، فيجوبون الشوارع بجثماني المسجَّى في صندوق الرحيل، ليتهم يختصرون المسافة بيني وبين المقبرة، ليتهم يكفُّون عن الحديث عن حسناتي التي اكتشفوها الآن.

          الآن ربَّما بدأ الهدوء يسلب الضجيج هيبته، إذ إنهم سيوارونني في مستطيل بحجم جسدي المنهك من الانكسارات، ستنزل ذرَّات التراب عليَّ لآلئَ، ستحدث رنينًا عذبًا في أذني وهي تصطدم بالصندوق الذي أنا رهينته، بمقدورهم الآن أن يحصروا محيط أحلامي في مساحة صندوق أبله.

          انهالت الأسئلة بسياطها اللاذعة على مخيلتي الحيرى، ماذا سيكون من بعدي؟ هل ثمَّة من سيفتقدني سوى ولديَّ؟ أم أنني كالكثير من الأمور التي تتكفل بها مجلدات النسيان، سيغدو أمري منسيًا وسيمضي الكل بحياته قدمًا دوني، كأنِّي يومًا لم أكن أملأ بأحلامي ونزقي جيوب الحياة، ماذا بعد أن أظلَّ هنا وحيدة والظلمة دثاري.

          اختنقت أنفاسي ودبَّت القشعريرة في أوصالي، إذ أتخيَّل تشييع جثماني أمام عيني، رهبة الموت تملكتني، بينما أقف وراء بللور النافذة المغلقة على عالم الغبار، كنت أراقب بصمت ضياع البيوت بين ذرَّاته، حين هبط شيئا فشيئا بغلالة من السواد المستكين إلى البياض، حتى بدت الأشياء باهتة مأخوذا منها اللون، عالمٌ مليء بالغبار أمامي، ابتلع من البشر رغبتهم بالتجوال في شوارع المدينة.

          هاجس الموت لم ينفك يلاحقني منذ سنوات طويلة، خشيت فيها انتهاء مدة إقامتي في نُزُل الحياة.

          ليت الذي طرق الباب الآن، كان قد داهم أوهامي وتخيلاتي منذ لحظات، لم أكن سأشهد ذاتي ترحل بعيدًا وأشيِّعُ نفسي بنفسي بينما أنا معتقلة في صندوق الظلام إلى ما لا نهاية، إذ بات الغبار طلسما استحال عليَّ فكَّ رموزه.

          حين تنبَّهتُ إلى صوت الطَّرق على الباب، أدركت أنني مازلتُ هنا، أحصي ما تبقَّى لي من الوقت لأرفع الغبار عن أيقونتي التي في صدر الغرفة، لتبدو زاهية بلون الماء.

----------------------------
عودة الإضاءة
فيحاء نابلسي

          استيقظ الأستاذ نبيه كالمعتاد على الوقت, وكما اعتاد على مدى إحدى عشرة سنة, أسرع إلى المرآة ليتأمل وجهه.

          ظل دقيقة ينظر في مرآته.... ولكن لا جديد, مازال وجهه خاويا كصحراء مقفرة.

          حاجباه مستقيمان كمجدافين قديمين يتدليان على جانبي قارب متعب. عيناه ساكنتان كمستنقع راكد. وأنفه مستسلم يمتد منكسرا بلا أنفة مثل علامة تعجب في وسط وجهه. حتى شفتاه تنبسطان كخطين مستقيمين بدون أي انحناء أو تقوس هكذا استقامة خاوية من أي سخط او رضا.

          هزّ رأسه مرات عديدة ولكن لاشيء..... مازال يحمل فوق كتفيه صندوقا خاويا مثل خليّة مهجورة.

          لبس ثيابه ووضع قدميه في حذائه وبدأ ينقل قدميه على طريق المدرسة.

          في الطريق كان يرد التحية بايماءة من رأسه وحركة من يده دون أن يحرك شفتيه بأي كلام. لم يعد يذكر منذ متى بدأ يشعر أن الكلام تحول إلى أصوات خالية من أي معنى, أو أشكال لخطوط ميتة لا تحمل أي دلالة.

          في أيام الطفولة كانت الكلمات تخلق في رأسه دوائر مضيئة مثل المصابيح ترتسم فيها صور وأشكال وألوان وتبقى تتوهج في رأسه لمدة طويلة تسري منها إلى باقي جسمه موجات من الفرح أو الحزن أو الغضب.

          من زمن طويل كانت الكلمات تملؤه إحساسا حتى النخاع كما يقولون.

          وعندما كان طفلا كان كلما سمع عبارة يتخيلها في رأسه فيضحك في سره أو ينكمش مشمئزا. يتذكر تماما كيف كان يتخيل عمه عندما كانت جدته تنتقد بخله وتقول " كحتة.. ما يبول على إصبع مجروح ".

          آ آ آ ه كانت أمثال جدته رحمها الله تشعل في رأسه مهرجانات.

          هل من المعقول أنه حدث مثلما تنبأت فيروز في أغنيتها ويكون فعلا قد "خلص الحكي".

          زميله الأستاذ حسن خليل هو من أطفأ أول المصابيح في رأسه. ليس لأنه يجبر التلاميذ على الدروس الخصوصية ويسيء معاملة من لا يرضخ له, ليس لهذا أبدا فهذا خطأ وارد والإنسان خطاء. ليست هذه هي المشكلة. ولكن عندما كتب الأستاذ حسين في اجتماع النقابة السنوي على اللوح شعار الجلسة بالخط العريض "بالعلم والعمل نبني الوطن" ارتسمت في رأس الاستاذ نبيه دائرة مظلمة ملأته حيرة وتشويشا.

          عبارة أخرى أيضا كانت تفقده اتزانه. "الخيار الوحيد". كان يقلبها في رأسه كثيرا ويفكر بها. إذا كان وحيدا كيف يكون خيارا. وإذا كان خيارا فكيف يكون وحيدا !!!!!!!!!

          بعض العبارات تفجر في الرأس صمام الأمان أحيانا.

          عندما قال السيد الكبير في بداية مشواره إنه لا يملك عصا سحرية للإصلاح تفهم الأستاذ نبيه الأمر. من السهل استيعاب الحقائق. لا توجد في الحياة عصي سحرية. ولكنه لم يستطع أن يتفهم وجود عصي حديدية تحطم كل رأس يحلم بالإصلاح.

          مصابيح كثيرة انطفأت في رأسه مع كل عبارة انتحرت على شحمتي إذنيه ولم تقو على الوصول إلى داخل أذنه حتى.

          آخر المصابيح أطفأها الشيخ الجليل سعيد الصرمة. كيف استقام في تفكير الشيخ أن صراخ الضحية يزعج الجلاد ويسبب فتنة.

          على الرغم من أن كتب الشيخ سعيد كانت مثل بساط الريح لطالما حملت الأستاذ نبيه إلى آفاق واسعة وعوالم شاسعة، ولكن لا يدري كيف حدث أن قرر الشيخ فجأة أن يخرج كل الأسفار التي في رأسه و يحملها على ظهره. وتساءل في نفسه مرات هل بإمكانه يا ترى أن يجني الثمار ويخلي العود للحطب أم أن الثمار فقدت طعمها بعد أن نخر الدود العود.

          كيف توصل الشيخ الجليل إلى فتواه بتحريم الصراخ والألم تحت ضرب السياط, وكيف فهم أن سياط الجلاد هذه هي قدر الله المحتوم على عباده وأن الاعتراض عليه هو شق لعصا الطاعة ومفارقة للجماعة وأن على الضحية أن تتحمل الألم بصمت حتى لا تحدث فتنة وتهلك الأمة.

          هذا المصباح الأخير لم ينطفئ بل احترق احتراقا عنيفا جعله يجري ويلقي بنفسه في النهر حتى تطفئ الأمواج خيوط الدخان المتصاعد من أذنيه.

          أومأ برأسه مرة راداً التحية على زميل له وهو يدخل من باب المدرسة. وحالما رفع رأسه وأخفضه برق في رأسه شعاع. رفع رأسه من جديد ونظر حوله, كانت جدران المدرسة مليئة ببقع سوداء كبيرة من الدهان تتخايل من تحتها كلمات. بقع بأحجام مختلفة وغير متناسقة. اقترب قليلا من أحد الجدران وتأمل. استطاع أن يتبين من تحت الدهان آثار كلمات " حرية ".... " الشعب يريد..." خطوط طفولة غير متناسقة.

          عبارات كبيرة خلقت في رأسه رعودا و يروقا وأمطارا غزيرة هطلت من عينيه وسرت قشعريرة في جميع أوصاله.

          شاهد قرب أحد الجدران طفلا يخط كلمة. رسم الطفل حاء والصق بها راء ولكنه رمى القلم وفر هاربا عندما رأى الأستاذ نبيه ينظر إليه. كانت بداية الحرف الثالث مبتورة ولكن الأستاذ نبيه أكملها بعينيه وقرأها كاملة.

          في الحال ولدت داخل رأسه دائرة صغيرة ارتسمت فيها طيور تحلق في سماء فسيحة وفراشات تحوم فوق الزهور. أخذت الدائرة تتسع وتتسع وظهرت فيها أشجار تورق وأغصان تزهر, حتى أنه استطاع أن يشتم عبيرها ويسمع صوت تدفق جدول ربيعي خجول.

          اهتز رأسه نشوة وشعر بحاجبيه يتقوسان فوق عينيه, وعينيه تتسعان دهشة وفرحا, حتى أنفه انتصب شامخا بأنفة وعز وانفرجت شفتاه بابتسامة عريضة أضاءت وجهه وأشاعت فيه البشر والسرور.

          شعر أن هذه الدائرة تخرج من رأسه وتمتد حتى تملأ الأفق.

          لقد عادت الإضاءة من جديد. خرجت من بين شفتيه تنهيدة طويلة. كم كان يخشى أن تملأ الظلمة رأسه للأبد.

----------------------------
صلاة سرية
حجاج أحمد شعبان

          عزمت أن أسأل أحدًا عما يفعل هؤلاء، لكنني لم أتمكن من السؤال، إذ نهرني رجل، وقال لي بنبرة حادة: "إما أن تنضم إليهم في الجانب الآخر أو أن تذهب إلى حالك".

          آثرت أن أذهب إلى حالي، لكن عيني لم تفارق من كانوا يهتفون عند الجانب الآخر من الطريق، إذ رأيت العسس يصطادون الرجال والنساء، ويلقون بهم في عربات اعتقال.

          يا إلهي! لقد أمسكوا بشاب صغير، لكن المسكين لم ينعم برفاهية عربات الاعتقال! بل انهالوا عليه بعِصي غليظة، وأخذوا يكسرون عظامه، لقد فقأ المجانين عينيه، وسحلوه على الرصيف. كيف أتركه وحده؟ لابد أن أنقذه.

          لكنني لم أتحرك قيد أنملة، وأصابني شلل تام، إذ سمعت ضابطًا من العسس يأمر عصابته ويقول: "من يقف هنا، أمسكوا به!"

          تملكتني الحماسة، وعزمت أن أمسك بتلابيب هذا الضابط، فربما يفيق ويتوقف عن تعذيب أهل بلدته، لكني خشيت أن تُمسك بي عصابته، فاستأنفت المسير، وتركت المسكين يكسرون عظامه ويسفكون دماءه.

          أقنعت نفسي أني جوعان، وأن الجوع كافر، فهو الذي يحول بيني وبين شجاعة الرجال. علىّ أن آكل شيئًا أولاً، وبعدها سأستجمع طاقتي وشجاعتي، وأدافع عن المساكين. تحسست نقودي، فوجدت في جيبي بضعة جنيهات، لكني تحسست محفظتي، فلم أجدها!

          حمدًا لله الذي أرسل إليّ في هذا الزحام لصًا يسرق محفظتي حتى يخفف عني عذابي، أشعر الآن براحة من تأنيب الضمير، فقد ضاعت محفظتي وبطاقة هويتي، وهكذا فلي الآن أمام الله وأمام نفسي بدل العذر عذران. حسنًا! لن أُلقي بنفسي إلى التهلكة، فليس هذا من الدين أو العقل في شيء، لابد أن أنصرف عن هذا المكان. 

          ظهر فِتية صغار في صفوف منتظمة، أخذوا يهتفون ويرشقون العسس بالحجارة.

          إن هتافهم جميل، لابد أن أُجربه، لكني لن أكلف نفسي إلا وسعها، سأهتف في صمت، سأجعل هتافي صلاة سرية، ولن أجهر به، فربما يسمعني أحد من العسس أو المندسين بين صفوف الفتية، فأكون بذلك من الهالكين.

          أخذت أهتف في سري، ظللت أردد الكلمات بداخلي، ولم أتفوه بها، لكنها راودتني عن نفسي، استهوتني وأغوتني، فاستسلمت لها، فانتقلت من داخلي إلى لساني، فأخذت أتذوقها، وكلما تذوقتها، زادت حلاوتها، وتمكنت مني، فنسيت الدنيا وما فيها.

          فجأة انطلق العسس نحونا بسرعة البرق، هرعنا جميعًا وتفرقنا، اختلط الناس في طرفة عين، العسس والثوار والمتفرجون والمارة، أمسك العسس بأناس كان قدرهم أن يكونوا هناك في هذه اللحظة.

          أمسكوا ببائع الخبز المسكين، وأخذوا رجلاً من وسط زوجته وأولاده، بل لم يتركوا هذا الشحاذ الجائع!

          عندئذٍ أذن المؤذن لصلاة العصر بجامع الفتح. الحمد الله، لقد جاء وقت الصلاة في الوقت المناسب! الصلاة فرض! توضأت، وصليت، وقلت في نفسي: "لو خرج هذا الجمع من المصلين الآن لأنقذوا الفتيان المساكين، لكن ربما لم يستطيعوا أن يفعلوا أكثر مما فعلت، فأخذوا يهتفون سرًا من مبنى نقابة المحامين حتى وصلوا إلى جامع الفتح، وأنقذتهم صلاة العصر برهة من تأنيب الضمير!"

          خرجت من الجامع، فلم أجد أثرًا للفتيان، وانتشر العسس في أرجاء المكان، مررت من بين أيديهم، وقرأت في عيونهم نشوة النصر، وأيقنت أن جولة اليوم قد انتهت، تظاهرت أني أسير باطمئنان حتى وصلت إلى مترو الأنفاق.

          انتهى اليوم بسلام، ولم يكشف العسس أمري، وصلت إلى منزلي، طرقت الباب، ففتحت لي زوجتي، لمحت في عينيها علامات القلق، لكن أولادي تسابقوا إلىّ، وأخذوا يصيحون ويهللون: "أبي أبي لقد شاهدناك في التلفاز وأنت تهتف في الميدان!"

----------------------------
صندوق الضحايا
محمد عباس داود

          وسط زلزلة الصراع جاء خبر الترقية كنت فى خندقى ماأزال ، حاملاً ملامح دهشة ونبضات إصرار على مواصلة التقدم ، أرى خلفى من يساندنى ويحمى ظهرى ، يشير الىّ كلما توقفت بالتقدم غير آبه بعقبات أمامى أو ملاحقات تأتى من خلفى ، أرتدي ثوب الجسارة ، ولا أبالى بعيون هؤلاء الذين يرموننى بنظرات الإزدراء ، أولئك الكبار الذين يقبعون فى خنادقهم المحصنة وأوكارهم الدافئة البعيدة عن الخطر مكتفين بالنظر إلى من حولهم بازدراء. كأن الازدراء قد خلق ليتواصلوا به مع غيرهم ، خاصة نحن العامة أصحاب السراويل المهلهلة والوجوه المكسوة بغبار الحاجة. كنت كالعادة انتظر الأوامر حينما بدأت المعركة ، قابعاً فى الركن الأيسر من الساحة فى خندقى الصغير ، أتأمل من خلف الأسوار العالية تحركات الأسلحة المختلفة وصدامها مع أسلحة الأعداء ، الأحصنة وهى تتقدم ، تتبعها الأفيال ، وخلف الأفيال الطوابى الراسخة فى أماكنها يميناً ويساراً ، متربصة للبدء فى الدخول لمساندة باقى الأسلحة.. كالعادة بدأ الأمر بالجنود الذين زحفوا من مواقعهم خلف الأسوار متقدمين خطوة للأمام أو خطوتين ، وكلما احتدم الصراع أطيح بأحدهم بلا رحمة ، الى حيث يقبع هامداً فى صندوق الضحايا ، ذلك الصندوق الخشبى الحائل اللون المعد سلفاً لهذا ، تلا ذلك سقوط أسلحة مختلفة أحصنة وأفيال أو حتى بعض الطوابى. كل هذا وأنا بين جدران خندقى الأربعة ، اتطلع من خلفها واجفاً وانا أرى الحرب سجالا بيننا وبين المعسكر الآخر ، أخشى أن تنقلب الدفة علينا ونخسر المعركة ، وفى ذات الوقت أحفز نفسى للدخول الى المعركة فى أى لحظة. جاء الأمر بالتحرك ، تحركت وأنا أعرف جيداً أننى بتلك الحركة أضع نفسى موضع هجوم ، وأننى قد يطاح بى خارجاً. أتتنى إشارة من الطابية بعد أن أخذت مكانى الجديد:

          - لا تقلق ، أنت تحت الحماية.

          فردت صدرى راضياً ، وقفت غير مبال بنظرات العداء والمقت المحاصرة لى ، تلك النظرات المتربصة التى تنتظر غفلة من الطابية لتنال منى.  أنظر حولى بثقة وأبادل الكبار من الجيش الآخر التحدى ، واثقاً أنهم لن ينالوا منى طالما أنا فى مجال حماية الطابية فى الخلف ، تلك التى تقف راسخة فى مكانها تدير أعينها حولها فى ثقة ، وتستطيع التحرك فى أى اتجاه من الاتجاهات الأربعة مدافعة عن بقية أفراد الجيش بقوة ودون أى خوف. جاءنى الأمر بالتحرك خطوة جديدة ، قفزت فوراً من فوق أسوار خندقى الى آخر متقدم وسط جنود الأعداء، لم أبال بأسلحتهم المختلفة ولا وجوههم المكفهرة ، وإن كنت من وقت لآخر أنظر بجانب عينى ناحية الطابية ، طلباً لاستمرار انتباهها لى حتى لا أفاجأ بضربة من هنا أو من هناك. استمر تقدمى من خطوة لآخرى حتى رأيتنى وليس بينى وبين صف الأعداء الأول الا خطوة واحدة. لحظتها جاءتنى الأنباء مبشرة أنه نظراً لشجاعتى وصمودى المبهر فقد تم ترقيتى فوراً الى درجة وزير!! فى البداية كان الخبر أكبر من أن استوعبه ، وقفت محملقاً فى وجه محدثى ، مكرراً كالببغاء ما يقول ، حتى اذا بدأت أعي قليلا الأمر جاءنى الأمر بالتقدم من جديد ، اندفعت غير وجل ولا هياب للأمام مقتحماً الصف الأول ، صارخاً بأهازيج النصر ، فارداً جناحى ثقة بنفسى، وشموخاً بوظيفتى الجديدة كوزير لايهاب أحداً، وبخاصة أن الطابية فى الخلف كانت ماتزال ترصد تحركاتى. غير أننى وسط نشوتى هذه وتأجج مشاعرى وعلامات الظفر التى تربعت على ملامحى ، وسط هذا كله وجدت من يحملنى بلا رحمة و يطيح بى خارجاً الى صندوق الضحايا حائل اللون ، بينما يحل محلى وزير كان منذ قليل يئن من الألم فى ذات الصندوق ، بنبض المفاجأة وألم التحول الذى لم أتخيل وقوعه رفعت صوتى معترضاً ، لم يتنبه لى أحد ، إذ كان الوزير يتحدث فى تلك الأثناء عن براعة خططه وبطولته التى أدت الى محاصرة الأعداء فى عقر دارهم!

----------------------------
الكرامة
الوفاق لحسن

          ما إن يراني، حتى ينطلق، أتوقف عن السير، أتابع تقدمه السريع نحوي، يلف حولي، بتشمم ثيابي، يقف على قائمتيه الخلفيتين محاولا وضع قائمتيه الأماميتين على صدري، أصده براحة يدي، أطالبه بالهدوء، ينبطح أمامي ماسحا بمؤخرة ذيله أرضية الممر المكسوة بخضرة الربيع.

***

          يحدث هذا يوميا، وبالتحديد يحدث كل مساء أثناء عودتي راجلا من المدرسة التي تبعد عن البيت بثلاث كيلومترات، والتي أذهب إليها قبل طلوع الشمس حاملا محفظتي ومعها زادي، ولا أعود منها إلا في آخر المساء.

          عندما أصل قمة الهضبة، وأطل على البيت من بين سنابل القمح التي تعلو قامتي، ألمحه يسرع نحوي مستقبلا إياي بذات الشغف، ونفس الترحاب. استفسرت كبار عائلتي عن شغفه الدائم للقائي، تبادلوا نظرات مشفرة، وتمايلوا على الوسادات، وفي أيديهم أكواب الشاي. انسحبت من جلسة الشاي تلك، وغموض نظراتهم يلفني.

          في حصة الأخلاق، تجرأت وطرحت السؤال على مدرسي الذي أعاد إلي علامة الاستفهام كما طرحتها وأضاف :

          - عوض أن تشغل نفسك بمصاحبة الكلاب، اشغل وقتك بمراجعة مادة الحساب.

          اخترقت كلماته مركز إحساسي، أغمضت عيني من فرط الإهانة، ولما فتحتهما، بدت لي علامة الاستفهام برأسها المعقوف أكثر انحناء من راسي، وأكثر تواضعا من مدرسي، ومن كبار عائلتي.

***

          ما إن يراني، حتى ينطلق نحوي، فينطلق معه نفس السؤال الذي أقام حواجز جفاء بيني وبين مدرسي، وجعلني احتفظ بأفكاري لنفسي، بدلا من مناقشتها مع أفراد عائلتي.

          أكثر من هذا وذاك، أصبحت أخص صديقي بالقسط الأهم من وقتي. أسابقه، فيسابقني. أرمي له بكرة طاولة، يسرع خلفها، يلتقطها، فيعيدها إلي.

          أسأله، وأجيب نيابة عنه نفسي، مستخدما مفردات من قاموس الطفولة الذي استغنت عنه فيما بعد ذاكرتي.

          كنت أقارن علاقتي معه بعلاقات الأتراب من حولي. كانوا غالبا ما يخاصمون أصدقاءهم الذين سبق أن انتقوهم، واختاروهم من بين كافة الزملاء.

          في حالتي لم اختره، ولم يخترني. كنت ارغب في اقتناء جرو من فصيلة كلاب الشيخ. طرحت الفكرة على والدي الذي انتظرت موافقته، فأقلقني انتظاري. قد يقبر صمته حلمي، وقد يجنح به التفكير إلى اتخاذ قرار لا يوافق رغبتي.

          حاولت الفوز بموافقته في أكثر من فرصة. في المحاولة الأخيرة، نبهته بان الإسطبل -على الخصوص- في حاجة إلى حارس أمين. أومأ برأسه، فقفزت فرحا بموافقته.

***

          نفس الإلحاح اعتمدته مع ابن الشيخ التهامي الذي وافق على طلبي، وتركني عالقا بخيط انتظار طويل، ومع توالي الأسابيع، أضحى يتحاشى لقائي، وأصبحت بدوري أتجنب لقاءه، وإذا ما حصل، أحييه دون أن اذكره بوعده لي، وكأني استلمت الجرو، وكبر تحت إشرافي، وعاش دورة حياة كاملة، ثم مات، فماتت معه رغبتي.

***

          في مساء جد عادي، رأيت السيارة التي تقل التهامي إلى مدرسته، متوقفة قرب المدرسة. لوح لي بيده، تقدمت. أشار لي بفتح الباب، فتحته. كان يشغل الجانب الأيسر من المقعد الخلفي، وإلى يمينه علبة كرتون صغيرة. وضعت راحة يدي على حافة المقعد، وانحنيت. أمعنت النظر في محتواها، ركزت نظراتي على لون فروته، على شكل أذنيه، وعلى عينيه.

          لم انتبه إلى ما ذكره التهامي. كل ما فهمته أن "حدوم" الكلبة قد وضعته إلى جانب جراء أخرى، لا اذكر عددها.

          شلت المفاجأة لساني، أسعفتني ملامحي، في التعبير له عن شكري. حملت العلبة. مشيت وكأني أركض.

***

          فكرت في إعطائه اسما مميزا، اسما نادرا، اسما غير مسبوق. تهت، و كأني ابحث عن بيت في مدينة عتيقة أمحت معالمها.

          في النهاية استمالني منظر كلب تتصدر صورته صفحة أول حرف أبجدي (1) تلقنته في حياتي.

          قبل الذهاب إلى المدرسة، أملأ له صفيحة حليب ثاني بقرة تحلبها أمي، وفي المساء أسرع الخطى يقينا مني انه ينتظرني، كنت وقتها في الصف الثالث أساسي، وكان الجرو في شهره الثاني.

          بعد سنتين، أصبح كلبا شرسا يخشاه زوارنا، أجانب وأقارب.

***

          لما علم والدي بان أقاربنا ينوون قضاء عطلة الربيع معنا في المزرعة، عمل على شد عنقه إلى الرسن، حرصا منه على سلامة صغار أقاربي الذين كانوا يقومون بجولات صباحية في المزرعة، يعودون منها بعيدان يابسة، يستخدمونها في إيذاء الحيوان الذي كان يكشر عن أنيابه الناصعة البياض، وفي حالات يغرزها بين حلقات الرسن، عوضا عن غرزها في ساق، أو فخذ، أو ذراع أحدهم. كنت أحاول ثنيهم عن إيذائه، أفهمتهم في أكثر من مرة، انه مخلوق يحس ويتألم كما يحسون ويتألمون. وبمجرد ما أنهي كلامي، يرددون بعضا من جملي، مقلدين صوتي، وحركاتي. ثم يستأنفون لعبة التمتع بتعذيبه.

          كنت أعتقد أن الشيطان يسكنهم، ويخرج قهقهاته من أعماقهم، وفي أقصى حالات الغضب كنت اشكوهم لنفسي، و أعد بأصابعي الأيام التي انقضت، والأيام التي ظلت من أيام العطلة.

          مر الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، بقي الخميس، الجمعة، والسبت. هان الأمر.

          غابت شمس الخميس، بقي الجمعة و السبت. يوم الأحد يعودون إلى المدينة.

***

          مساء الأحد، سارع الأطفال إلى أخذ أماكنهم داخل السيارة. تواعد الكبار، وتوادعوا. صفقت الأبواب، وانطلقت السيارة. تابعتها إلى أن اختفت وراء الهضبة، ثم هرعت إلى داخل البيت. جمعت ما فضل من الكسكس، قدمته إلى صديقي بعد أن حررت رقبته من الرسن، وعدت إلى البيت، فالشمس أوشكت على المغيب، وعلي أن امسح زجاجة مصباح الغاز، وأتفقد محفظتي استعدادا لاستئناف الدراسة صباح الغد.

***

          بعد أن وصلت قمة الهضبة في اليوم الموالي، وشرعت في النزول، انتابتني حالة استغراب استثنائية. لم أتعود أن أعود من المدرسة دون أن أجده في استقبالي.

          قصدت "عشته"، لم أجده. رميت محفظتي، ورجعت مسرعا إلى قمة الهضبة.

          وضعت يدي على شكل بوق حول شفتي، وناديته بأعلى صوتي. لم ألمحه يقفز فوق الحشائش فرحا بعودتي. لم أره يسابق لهفته للقائي. فتشت بجنون، فتشت في أي مكان توقعت أن أجده فيه، وانتهى بي البحث إلى حيث رميت محفظتي. ألقيت نظرة على الكسكس الذي تركه على حاله، وإلى الرسن الذي طوق عنقه لمدة عشرة أيام، فتذكرت. تذكرت فصل الشتاء الأخير، لما أجبرني الفيضان على تغيير مساري. كان يرافقني، وفي ذات الوقت يحميني من كلاب البيوت التي كنت أمر بها، ولا يعود إلى البيت إلا بعد أن أصل الطريق الرئيسية.

          تذكرت، أجل تذكرت، عدد المرات التي عنفته فيها، ولم يرد علي بعنفه، الأشد من عنفي.

          تذكرت، آه، تذكرت، أول نظرة ألقيت عليه داخل علبة الكارتون، وأخر نظرة خصني بها، وهو يعذب على مرأى مني.

***

          حملت محفظتي مطأطأ الرأس، وتوجهت رأسا إلى البيت. كانوا جميعا متجمعين في فنائه، والدتي، وإخوتي، وأبناء عمتي. تسمرت في مكاني، محاولا تفسير نظراتهم المصوبة نحوي، حملقت في عيونهم، فأبصرته يبتعد، راميا بعلاقتي خلف قوائمه. تابعت ابتعاده إلى أن اختفى وراء الشفق.

          كانوا مهيئين للتحدث إلي عن تفاصيل بحثهم عنه، لم ارغب في الاستماع إلى احد منهم، ومن أين لي القدرة على الإصغاء، وكل شيء من حولي، قد أنبأني سلفا، برحيل لم أقو على تحمله.
----------------------------
* كاتب من الأردن.

 

فخري صالح*