زائر سماوي من النار والثلج

زائر سماوي من النار والثلج

وستتمكن التلسكوبات العاملة في نصف الكرة الجنوبي من رصد مذنب هال بوب وتتبعه حتى نهاية هذا العام 1998. وبعدها سيكون قد ذهب بعيدا عن كوكبنا وعالمنا متجها نحو أطراف مجموعتنا الشمسية, حيث يقبع عالمه, وحيث يوجد منبت رأسه.

من المدهش حقاً أن نعرف أن المذنب يمثل كرة هائلة من الثلج. إنها مخزن ضخم لقدر كبير من ثلج الماء. وياله من أمر عجيب, كيف لكرة من الثلج أن تدور حول الشمس بهذه الطريقة إنه صنع الله الذي أتقن كل شيء. يتكون المذنب من رأس لامع مستدير تقريبا وذيل طويل يخرج من الرأس ويمتد في الفضاء خلف الرأس, والنواة والتي تعتبر أهم جزء في المذنب تقع النواة ـ وهي صلبة التكوين ـ داخل الرأس ويصعب التعرف عليها لضخامة الرأس من حولها, فالنواة تقع في أعماق رأس المذنب. تلك الرأس التي تبلغ في حجم الأرض أو حتى في حجم كوكب المشتري.

يعتبر مذنب هال بوب من أكبر المذنبات التي زارت مجموعتنا الشمسية حتى الآن. يصل قطر نواته إلى حوالي 40 كيلومتر وهي أكبر من نواة مذنب هالي التي بلغت 10 كيلومترات فقط. ورأس هال بوب تضخمت إلى حجم المشتري مما يؤكد كبر ذلك المذنب العملاق, أما ذيله فيمتد إلى مسافة مماثلة لتلك المسافة التي بين الأرض والشمس. وهو غني بالغازات والغبار مما يعطيه لمعانا شديداً.

لقد جذب مذنب هال بوب بلمعانه وبريقه أنظار وعقول الكثيرين من أبناء كوكبنا, فهو ضيف جاء من أطراف مجموعتنا الشمسية كمذنب لامع كبير. لقد سافر مذنب هال بوب مسافة هائلة تزيد على 36 ألف وحدة فلكية أو ما يزيد على 500 مليون كيلومتر. هذا مع العلم أن أبعد مسافة لكوكب بلوتو آخر كواكب المجموعة الشمسية لا تزيد على 50 وحدة فلكية, فالمذنب هال بوب قد وصل إلينا بعد عناء سفر طويل.

وتدل الأبحاث على أنه تخرج من نواة المذنب هال بوب من 6 إلى 8 أحزمة من الغاز والغبار من ثلاث أو أربع نقاط ساخنة في نواته, فهو مذنب نشط بشكل واضح, كما أن مادته غنية بالغبار, لذا فإن الغازات والغبار التي تبخرت من رأس المذنب تكون ذيلا طويلاً ولامعاً في نفس الوقت ونراه كمروحة من المادة تنبعث من رأس المذنب, وتشير كل الدلائل إلى أن مذنب هال بوب يتصرف كمذنب عادي, وأن ذيله بما فيه من غازات وغبار سيظل قويا ولامعا لفترة طويلة مما يؤكد نشاطه الواضح. منذ أوائل عام 1997 بدأ معدل ظهور البقع الشمسية على سطح الشمس في التزايد, حيث تكون الشمس قد أنهت دورة للبقع الشمسية وتبدأ دورة جديدة فتبدأ أنشطة الشمس المختلفة في التزايد المستمر. لذا فإن الاضطرابات التي تحدثها الرياح الشمسية في الوسط ما بين الكواكب يزداد بمعدل واضح مع زيادة نشاط الشمس مما يتيح لنا فرصة أن نشاهد تعانق تلك الرياح الشمسية وما يصحبها من مجال مغناطيسي مع ذيل الأيونات لمذنب هال بوب, مما يشير إلى أنه سيحدث اضطراب في ذيل الأيونات تبعا لحدوث اضطرابات في الرياح الشمسية.

تدور الأرض حول الشمس في مستوى سميناه بدائرة البروج, وتدور أغلب الكواكب حول الشمس في مدارات تميل بزوايا صغيرة جدا على مستوى دائرة البروج, مما يجعلنا نقول إن الكواكب تدور حول الشمس في مستوى واحد تقريبا. أما المذنبات فتدور حول الشمس في مستويات مختلفة. ومذنب هال بوب يدور حول الشمس في مستوى عمودي تقريبا على دائرة البروج (89.4 درجة), ومقدار استطالة (إهليجية) مداره يصل إلى 0.995.

ومما تخبرنا به الحسابات الفلكية أن أي مذنب نشط يفقد ما قد يصل إلى مليون طن من مادته كل يوم عند أقرب نقطة له في مساره من الشمس, مما يعني أنه يفقد عشر وزنه مع كل دورة حول الشمس. وعلى هذا فقد يختفي المذنب قطعيا وتذوب كل مادته في غضون آلاف السنين, هذا إذا سارت حياته بشكل عادي. ولا نعرف بالضبط هل تتبخر كل مادة المذنب? أم يبقى منها شيء? فمما نعتقده أنه قد يتبقى جزء صغير يتحول من عالم المذنبات إلى عالم الشهب.

من سجل الزيارات

منذ عام 1801 وحتى الآن فقد ظهر في سمائنا أكثر من عشرين مذنبا كبيرا من بين مئات المذنبات التي شاهدناها في قبة السماء فوقنا. وفيما يلي نتحرك في جولة سريعة بين تلك المذنبات الكبيرة, نتعرف عليها عن قرب, ونعرف بعضا من أسرارها. وأول هذه المذنبات مذنب عام 1811 الكبير, والذي شوهد قبل أن يصل لألمع وضع له. وعندما أصبح المذنب على مسافة وحدة فلكية كان يتحرك في دائرة قريبة من النجم القطبي, لذا فإنه ظل واضحا طيلة الليل. وفي شهري سبتمبر وأكتوبر وصل لمعانه لما يقارب لمعان أسطع نجوم السماء. ولقد ظهر المذنب بذيلين أحدهما للغبار والآخر للأيونات وكانت رأسه كبيرة للغاية, حيث قدر قطر رأسه بحوالي مليوني كيلومتر. ولقد ظل المذنب واضحا في السماء لمدة كبيرة تقدر بحوالي تسعة أشهر.

وفي سبتمبر من عام 1882 ظهر مذنب كبير له قصة مثيرة. فقد توفرت في ذلك المذنب شتى الظروف التي تؤدي إلى ظهور مذنب عملاق. ولم يكتشف إلا قبل أيام قليلة من وصوله لأقرب نقطة له من الشمس. اقترب المذنب من الشمس لدرجة أنه دخل في عمق طبقة الكورونا حيث وصل لعمق يبعد فقط 430 ألف كيلومتر من سطح الشمس, لذا فإن لمعانه قد تزايد عشر مرات في أيام قليلة. وفي 16 و17 من سبتمبر أصبح المذنب واضحا للعين المجردة قريبا من قرص الشمس. ومن المفترض أن لمعانه حينها كان قد وصل لقدر مقداره- 18 , أي ألمع من القمر بكثير. وفي ذلك الوقت أكلت الشمس جزءا من المذنب كما يأكل أحدنا كرة من الأيس كريم, وتكسرت نواته إلى خمس قطع شوهدت في شهر أكتوبر من نفس العام وهي تتحرك على خط مستقيم, نعتقد أن ما يأتي منها بعد ذلك سيأتي كمذنب صغير جذبته الشمس ثانية نحوها. حقا إن شمسنا جبارة ترغم المذنبات على أن تتحرك حولها كما تفعل الكواكب ولكن نتيجة صغر نواة المذنب فقد تتقاذفه قوى الجاذبية للكواكب وللشمس مما يضعه في ظروف قاسية كأن يقترب من الشمس حتى تأكله أو تبتلع جزءا منه كما فعلت مع مذنب 1882, حيث أكلت جزءا من مادته وكسرت بقيته إلى أشلاء مبعثرة قد تضمحل وتنتهي وهي في طريق عودتها أو قد يستطيع بعض هذه الأشلاء من لم شمله وتجديد قوته وحجمه ليعود في دورة جديدة حول الشمس, ولكنها ستكون بكل تأكيد أقصر من دورته السابقة والتي أتمها ووصل فيها لأقرب نقطة من الشمس في عام 1882 حين تحرك كمذنب عملاق. لقد خدع ذلك المذنب في قوته فأقترب من الشمس فكوته بنارها وشدة حرارتها فخر صريعا وتحول في التو إلى أشلاء شوهدت بعد أقل من شهرين من وقت اقترابه من الشمس.

وفي عام 1910 ظهر مذنب جديد عرف فيما بعد بمذنب النهار. قد شاهده الناس القاطنون في نصف الكرة الجنوبي, في جنوب إفريقيا. وقد كان المذنب وقتها ذا بريق عال يصل لقدر-2 أي ألمع من أسطع نجوم السماء. وعندما أصبح في أقرب مسافة له من الشمس على بعد 18 مليون كيلومتر من الشمس ازداد لمعانه إلى قدر-5 أي ألمع من كوكب الزهرة. ولكن المذنب تحرك سريعا نحو النصف الشمال وبدأ يظهر للقاطنين بالقرب من مدار السرطان, في أواخر يناير برأسه اللامعة وبألوانها الرائعة ما بين البرتقالي والأصفر. وبعد مذنب النهار بعدة أشهر ظهر مذنب هالي والذي كان أقل في لمعانه وبريقه من مذنب النهار. لقد أخذ مذنب هالي شهرة أكثر من مذنب النهار ربما لعودته أي مذنب هالي إلى الظهور مرات عديدة وكان آخرها في عام 1985 / 1986.

وفي أول نوفمبر من عام 1948 كان الناس ينظرون إلى الشمس وهي تدخل في كسوف كلي. ومع حدوث الكسوف الكلي للشمس ظهر مذنب جديد في السماء عرف بعدها بمذنب الكسوف. لقد كان مذنبا كبيرا وذيله طويلا. مرت ثلاثة أيام بعد كسوف الشمس حتى رئي هذا المذنب مرة أخرى برأس لامعة وذيل طويل يمتد لمسافة كبيرة في السماء. وقد تضاربت الأقوال حول لمعانه ما بين القدر الأول إلى لمعان كوكب الزهرة. على كل حال, لم يدم مكث هذا المذنب طويلا في وضوحه في السماء. ففي نهاية نوفمبر اختفى تماما حيث كان يبتعد عن الأرض والشمس.

أما مذنب ويست والذي شوهد في عام 1975 فله قصة عجيبة الشأن. فمن وقت اكتشافه وحتى قبل أسبوع واحد من وصوله لأقرب نقطة من الشمس, كان المذنب خافتا مما جعل الفلكيين ينظرون إليه كمذنب صغير. ولكن النظرة إليه تغيرت عندما أظهرت الصور مدى لمعانه وهو في أقرب نقطة من الشمس في الخامس والعشرين من فبراير, حيث وصل لمعانه لقدر-2 أي أكثر من ألمع نجوم السماء. وتمكنت التلسكوبات من رصده في أثناء النهار, علاوة على وضوحه في الليل. ومن رأسه ذات اللون الأصفر خرج ذيله الضخم والمعقد في نفس الوقت. فقد ظهر ذيل الغازات متعدد الأشعة, ولكن حقيقة الأمر أن ذيل الغبار كان عريضا وكان يظهر بلون فيه حمرة. وقد كشفت التلسكوبات عن وجود نواتين, ثم سريعا أصبحا أربع نويات منفصلة عن بعضها البعض. وتفسير ذلك يكمن في الضغط الشديد الذي تعرضت له نواة المذنب من جراء حركته السريعة بالقرب من الشمس على بعد 30 مليون كيلومتر من الشمس الجبارة. فلم تتحمل النواة ذلك فذاب جزء كبير من الثلج وتكسرت النواة إلى أربعة أجزاء ظهرت كقطع صغيرة من المجوهرات وانفصلت وتباعدت تدريجيا عن بعضها في خلال أسابيع, ثم اختفت إحدى تلك الأنوية نهائيا. ومع تباعد مذنب ويست بدأ يخفت شيئا فشيئا, ولكنه ظل مرئيا حتى نهاية شهر مارس.

وفي يوليو من عام 1995 شوهد مذنب هال بوب من مسافة بعيدة عن الأرض, وقبل أن يصل لأقرب نقطة من الشمس بعام ونصف. وقد أسهبنا في الكلام عليه في جزء خاص به.

في بداية عام 1996 لم يظن أحد أن المذنب الذي ظهر بالقدر العاشر والذي اكتشفه هياكوتيك في صباح آخر يوم من يناير عام 1996, سوى مذنب عادي جاءنا من سلة المذنبات القابعة هناك في أطراف منظومتنا الشمسية. ولكن الحسابات الفلكية لمداره بينت أنه واحد من تلك المذنبات الكبيرة اللامعة, وأنه سيقترب من الأرض إلى حد كبير. فرغم أنه رصد عندما كان على بعد 1.8 وحدة فلكية منا إلا أنه كان في طريقه نحو كوكبنا وعالمنا, حيث وصل إلى مسافة 15 مليون كيلومتر من الأرض. اقترب المذنب من الأرض قبل أن يصل لأقرب نقطة له من الشمس, لذا كان من المتوقع أن نراه حينما يكون قريبا من الأرض كسحابة براقة في السماء. ولكن مع حلول منتصف شهر مارس ظهر المذنب بالقدر الرابع بلون أزرق وذيل قصير. وفي خلال الأيام القليلة التالية زاد لمعانه بمعدل سريع كما لو كان المذنب قد تفجر. ومع حلول يوم عشرين من مارس أصبح المذنب بلمعان النجم القطبي, وكان ذيله خافتا حتى ذلك الوقت. وحدث تطور سريع في الأيام من الرابع والعشرين وحتى السادس والعشرين من مارس, حيث أصبح المذنب لامعا وتحرك من مجموعة الدب الأكبر متوجها نحو النجم القطبي واستقر هناك ليصبح مرئيا طوال الليل في قبة السماء. وحينها كان المذنب ألمع جسم في السماء, وقد أصبح ذيله المنحني يمتد مسافة كبيرة في جهة الجنوب. لقد أصبح الذيل طويلا لدرجة أن طوله قدر بضعف المسافة بين الأرض والشمس. ثم ابلتع القمر بضوئه ذيل المذنب في يوم 29 من مارس. ولقد ظل المذنب مرئيا حتى أواخر أبريل حيث اختفى بعد ذلك سريعا.

شوماكر يلقى حتفه

قصة هذا المذنب تعد من إحدى أعجب القصص التي حدثت لأحد المذنبات. فقد كان المذنب ليفي شوماكر في طريقه ليقترب من الشمس ويدور حولها كما هو حال جميع المذنبات.

ولكن قدره ساقه ليتحرك بالقرب من كوكب المشتري. وقبل أن نحكي تفاصيل ما حدث لذلك المذنب نبين أولا واحدة من النعم التي أنعم الله بها على الكواكب, إذا حاول أي عدو متطفل أن يدخل في تلك المنطقة فإن قوى جذب الكوكب المختلفة تتحرك لتجذب ذلك الجسم الغريب في اتجاهات مختلفة فتمزقه إربا. وبالطبع فإن كوكبنا توجد له تلك الحماية العظيمة والرعاية الإلهية, فلا يستطيع أي جرم سماوي أن يدخل في منطقة الأمان هذه وإلا تمزق إربا وأشلاء. وهذه واحدة من النعم العظيمة التي تكفل الله بها لحماية الحياة الآمنة لنا على كوكبنا المضياف. ولقد كانت تلك الحادثة التي وقعت على كوكب المشتري هي أول اختبار عملي لصحة تلك الفكرة عن حزام الأمان حول الكواكب وما يحدث لأي جسم غريب يدخل في تلك المنطقة. ففي الثامن من يوليو سنة 1992 دخل المذنب ليفي شوماكر إلى منطقة تأثير جاذبية كوكب المشتري فأرغمه الكوكب على أن يدور حوله بدلا من أن يدور حول الشمس. وأخذ يتحرك في مدار تميزه الفوضى والهلوسة.

ومن وقتها ظل الفلكيون يترقبون المذنب والمصير الصعب الذي ينتظره بين فكي المشتري, ذلك الكوكب العملاق. لقد اكتشف المذنب في الخامس والعشرين من مارس سنة 1993 في فيلم أخذ بواسطة أويجن وكارولاين شوماكر ودافيد ليفي وفيليب بيندوجويا, وقد كانت الصورة تنبئ عن منظر غريب. قضيب من ضوء مذنب تحيطه سلسلة من الأذيال وجناح من الغبار وهما يمتدان من طرفي القضيب. لقد أثبتت التلسكوبات الكبيرة أن ما نراه هو قطع نواة المذنب بعد أن مزقتها قوى الجاذبية للمشتري إربا إلى 21 قطعة. لم يكن أمر دوران المذنب حول المشتري غريبا فقد دارت مذنبات أخرى حول المشتري. كما أن تكسر المذنب إلى قطع صغيرة قد شوهد كذلك في العديد من المذنبات مثل المذنب بـ برووك 2 والذي اكتشف سنة 1889 فقد انشطر إلى ثماني قطع. ولكن الشيء المثير في أمر المذنب ليفي شوماكر هو أن قطعه التي انشطرت عن نواته الأصلية اتضح أنها ستصطدم بالمشتري واحدة بعد الأخرى في شهر يوليو من عام 1994. ومن خلال رصد المذنب في ديسمبر من عام 1993 تأكد لنا أن قطع المذنب ستسقط واحدة بعد الأخرى في غلاف المشتري كما لو كانت مركبات فضائية تدخل في أعماق الكوكب. أوضحت الحسابات الفلكية أن قطع المذنب سترتطم بالمشتري وهي تتحرك بسرعة 60 كيلومترا في الثانية مما يعني أننا سنشاهد حدثا ضخما وانفجارا مدويا. فلو تصورنا أن قطر كل قطعة كان في حدود 1كم فإن كمية الطاقة الناتجة ستكون موازية لحوالي 500 طن من المتفجرات. ومن هنا برز سؤال مهم: وهو ما هو مدى قوة التأثير على كوكب المشتري نفسه? لقد كان هناك وقت كاف لعمل الاستعدادات اللازمة لرصد تلك الظاهرة الغريبة, والتي لن تتكرر إلا بشكل نادر. فمن هنا تم وضع الترتيبات الكافية حتى يتم رصد عملية الاصطدام بجميع التلسكوبات سواء العاملة على الأرض أو تلك التي تحوم في الفضاء. ولقد كانت الظروف مناسبة كي يتم رصد ذلك الحدث المهم من خلال مركبتي فويجر 2 وجاليليو, بالإضافة لجماهير التلسكوبات الموجودة على الأرض والمترقبة لذلك الحدث الفريد. لقد أعطيت لقطع المذنب رموز مختلفة: A, B,C... ولقد كانت القطعة Q من أكبر الأجزاء المنفصلة عن المذنب, ولكنها انشطرت إلى نصفين كما انشطرت أجزاء أخرى إلى نصفين منها H,K كما اتضح من أرصاد تلسكوب هابل أن بعض قطع المذنب التي انشطرت قد اختفت تماما في الفترة ما بين مايو ويوليو, أي قبل ارتطامها بالمشتري, مما يؤكد تبخرها بالكامل قبل أن يرتطم أي منها بالمشتري وهي تحديدا H,R,S,U,V,W. لقد ذابت تلك القطع من فرط خوفها من هول الارتطام مع المشتري, ذلك الكوكب الجبار.

ومع ارتطام أول قطعة من نواة المذنب مع المشتري شاهد الفلكيون منظراً فريداً لاحتراق تلك القطعة في غلاف المشتري. للمشتري غلاف جوي عميق يصل إلى ألف كيلو متر مما يؤكد أن جميع قطع المذنب ستحترق تماما في غلافه ولن يصل منها شيء إلى أعماق الكوكب. نعم المشتري كوكب عملاق ولديه القدرة العالية في ابتلاع جميع أجزاء المذنب في جوفه دون أن يلحقه ضرر يذكر. وقد ينظر البعض بجانب من الشفقة لما سيعانيه المشتري من وقع اصطدام قطع المذنب به, ولكنني أشعر بالشفقة نحو ذلك المذنب التعيس الذي مزقته قوى الجاذبية للمشتري إربا ثم أخذ الكوكب بعد ذلك في التهام قطعه واحدة بعد الأخرى. لقد دخلت كل قطع المذنب في منطقة ضيقة من الكوكب وكأنه قد شدها جميعا في صف واحد نحو جوفه العميق وفي غلافه الجبار. وقد شاهدنا احتراق القطع الواحدة تلو الأخرى كل 7 ساعات تقريبا. وقد وصلت القطعة F بعد E بحوالي 4 و9 ساعة أي بعد يوم كامل من أيام المشتري, لذا فإننا لم نستطع أن نميز مكاني احتراق كل منهما على حدة. كما أن القطعتين الصغيرتين D وS فقدتا هويتهما, حيث ارتطمتا بمكان قريب من موضع احتراق القطعة G. والقطعة W احترقت في نفس مكان القطعة k. كما شوهدت عملية احتراق بعض النويات في شكل دائري ككريات من اللهب تغوص في أعماق غلاف المشتري. فالقطعة الكبيرة G والتي كانت تتميز بقطر مقداره 3 ـ 4 كيلومتر, تركت كرة من اللهب بقطر ثلاثة آلاف كيلومتر, وعين سوداء من كثافة اللهب والدخان في غلاف المشتري, نصف قطر تلك المنطقة السوداء كأن ضعف قطر أرضنا وعالمنا كله. ويفترض أحد الفلكيين المتخصصين أن حجم الطاقة الناتجة من ارتطام النواة G بغلاف المشتري يكافىء 6 تريليون طن من المتفجرات!! أى أكبر بمئات المرات من الترسانة النووية الموجودة في جميع أنحاء العالم. إن الطاقات التي تفجرت من مأساة ذلك المذنب كانت جبارة للغاية.

وبهذه الطريقة المأساوية لقي المذنب ليفي شوماكر نهاية حياته. لقد كانت هذه أول مرة نعايش فيها موت مذنب بتلك الطريقة, وكانت أول مرة نختبر فيها نظرياتنا عن منطقة الأمان التي تحيط بكل كوكب, وكيف أن أي جسم خارجي يحاول أن يخترق ذلك الحرم الآمن حول أي كوكب فإنه يتعرض للتمزيق, ويكون نصيبه الموت والفناء بشكل مأساوي, كما حدث للمذنب ليفي شوماكر. سيظل هذا المذنب وما تعرض له من أحداث جسام قابعا هناك في ذاكرتنا وفي دفاتر التاريخ الذي سطرته معارفنا العلمية. وهي آية عظيمة أراد المولى عز وجل أن يتيح لنا نحن البشر أن نرى بأنفسنا قصة مثيرة من قصص عالم المذنبات.

ماذا لو اصطدمت بالأرض ?

والسؤال الذي قد يطرحه البعض: ما هو الوضع الذي ستكون عليه أرضنا إذا قدر لها أن يرتطم بها مذنب? وهل يمكننا أن نتعامل معه كعدو يريد أن يكدر صفو حياتنا? بالطبع الإجابة الفورية أن هذا شر مستطير يصعب علينا أن نتغلب عليه بإمكاناتنا حتى وقتنا الحالي, ولكن علينا والأجيال القادمة أن نترقب المذنبات في عالمها نستخبرها عن مدى رغبتها في إرهابنا رغم برودتها وتجمدها. ولكننا وقبل كل شيء نستظل برحمة المولى عز وجل فمناط رجائنا أن يكفل أرضنا وحياتنا برحمته ويكلأنا برعايته.

غريب عالم المذنبات, وضعيفة هي حياتنا وقوتنا أمام كريات الثلج تلك التي تأتينا من أطراف مجموعتنا الشمسية تتجول بين النجوم في سمائنا وكأنها أضياف تسافر مسافات بعيدة قد يصيبها الإرهاق والتعب فتتخبط في سيرها وتقع ميتة صريعة في ركن من أركان منظومتنا الشمسية الواسعة الأطراف والمزينة بما تحتويه من كواكب وأقمار ومذنبات وكويكبات. ينظر البعض إلى ما قد تمثله المذنبات من مصدر قد يهدد أرضنا وحياتنا, ولكنني أرى فيها آية من آيات الله بثها في مجموعتنا الشمسية وكأنها من أخوات كوكبنا, ضعيفة الجناح والمكونات تتجول في سمائنا بين الفينة والأخرى لترينا شيئا من روائع خلق الله في كونه, وبعضا من آياته البديعة في صنعتها وحقيقة أمرها. هذا علاوة على أن المذنبات في أصلها تحتوي على كميات هائلة من ثلج الماء, فمع تبخرها كأنها تسكب في أنحاء مجموعتنا الشمسية ما لديها من الماء, وكأنها تروي أرض مجموعتنا الشمسية بذلك الماء الذي يرتبط به سر الحياة على كوكبنا وأرضنا.

 

محمد صالح النواوي

 
  




مذنب هال بوب في سماء كاليفورنيا- صورة أخذت في 97/3/8





احتراق اجزاء المذنب شوماكر في اجواء كوكب المشترى





مذنب ايكياسيكي في صورة التقطت في 18/ 9/ 1965