أبحاث الوراثة تتسع ولكل إنسان دواؤه! محمد رءوف حامد

أبحاث الوراثة تتسع ولكل إنسان دواؤه!

توضح الاكتشافات العلمية في حقل الوراثة يوما بعد يوم أن العلاقات الوراثية تتخطى وراثة الأراضي والعقارات والأسهم والحسابات المالية، ليس فقط إلى وراثة في شكل أو السلوك أو وراثة مرض ما كمرض السكر أو ارتفاع ضغط الدم، ولكن أيضا إلى وراثة طريقة تفاعل الجسم مع الأدوية. فهذا ها أوضحته الاكتشافات الحديثة في علم الأدوية.

إن العوامل الوراثية تتحكم في الكثير من استجابة المرضى للعقاقير بمعنى تأثر الدواء بعوامل وراثية في جسم المريض فقد تكون الوراثة سببا لضعف التأثير العلاجي لدواء ما عند تناوله بالجرعات المعتادة عند بعض المرضى، وقد تكون سببا لحدوث أثر سام من الدواء عند تناوله بنفس الجرعات عند مرضى آخرين وكما تتأثر الموروثات من الأراضي والعقارات بعوامل خارجية فان الموروثات في التفاعلات الدوائية قد تتأثر بعوامل خارجية أيضا مثل الظروف البيئية ونوع العمل... إلخ، وهنا تجدر الإشارة إلى أن العوامل الوراثية في التفاعلات الدوائية ترتفع أحيانا عن إطار المستوى الفردي لتصل إلى المستوى العرقي..حيث إن هناك- كما ثبت- قدرا من الخصوصية في بعض التفاعلات الدوائية على مستوى الأجناس والأعراق والجغرافيا.. كل هذه الاعتبارات الوراثية والعرقية في التأثيرات العلاجية والسامة للأدوية أدت إلى نشأة تخصص جديد في مملكة علم الأدوية (الفارماكولوجى) يسمى بالوراثيات الدوائية أو علم الوراثة الدوائي (أو الفارماكوجينيتيكس)

بدأت ظاهرة انعكاس العوامل الوراثية على فاعليات الأدوية تجذب انتباه علماء الفارماكولوجى منذ أواخر الخمسينيات حيث نشر موتولسكى مقالا عام 1957 في المجلة الطبية الأمريكية "جاما" يشير فيه ولأول مرة في أن آثارا جانبية معينة للأدوية تنتج عن اختلافات في أيض الأدوية (أو تكسرها داخل الجسم) بسبب اختلافات وراثية. وسرعان ما أخذ الاهتمام النظري والمعملي لعلماء الفارماكولوجى بهذا الموضوع يتسارع ويتأصل حيث صاغ الألماني فوجل مصطلح فارماكوجينيتيكس (أو الوراثيات الدوائية) للدلالة على الظاهرة الجديدة أو العلم الجديد وذلك في مقال كتبه عام 1959 بعنوان (مجال حديث في علم الوراثة الإنساني)..وبعد فوجل أصدر كالو أول كتاب في العالم في موضوع الوراثيات الدوائية بعنوان "علم الوراثة الدوائي: الوراثة وفاعليات الدواء" أصدره في فلادلفيا عام 1962.

وبعدها تعددت الاكتشافات والمقالات والكتب في مجال علم الوراثة الدوائي بحيث يعرف الآن المتخصصون من خبراء وعلماء الطب والصيدلة أكثر من مائة مثال لأثر غير عادي للأدوية (سواء نقص في التأثير العلاجي أو حدوث أثر جانبي..إلخ) نتيجة لاختلافات فردية وراثية.

الدواء كعلاج

ومن أهم الأمثلة ذلك الذي اكتشف بالمصادفة في كلية الطب بمستشفى سانت مارى في لندن عام 1977 بخصوص أحد أدوية علاج ارتفاع ضغط الدم وهو عقار دبريسوكوين، حيث كانت تجرى دراسة على مجموعة من المرضى، وحدث أن كان أحد الباحثين القائمين على الدراسة يعاني من ارتفاع ضغط الدم فأجرى على نفسه ذات البحث الذي كان يجريه على مرضاه..وكانت الجرعة المقررة أقل من الجرعة العلاجية..وحدثت مفاجأة غير سارة إذ كاد الباحث المريض يفقد حياته فقد أحدثت له الجرعة المعطاة (برغم انخفاضها عن الجرعة التقليدية) هبوطا شديدا في ضغط الدم أكثر بكثير مما حدث لزملائه من المرض وكان الحادث بالتأكيد غير متوقع طبقا للمعلومات المتوافرة عن هذا الدواء عندئذ. وقادت هذه المفاجأة الباحث وزملاءه القائمين على الدراسة إلى محاولة اكتشاف السبب..وسرعان ما اكتشف الباحثون السر الذي كاد أن يودي بحياة زميلهم...لقد وجدوا في الزميل الباحث خللا بخصوص أيض دواء الدبريسركوين، فبينما يتحول هذا الدواء عادة داخل الجسم بالأكسدة في الكبد إلى مادة أخرى مشابهة ليس تأثير في الضغط إذا بهذا التحول لا يحدث في جسم زميلهم مما جعل الدواء يظل في جسمه بتركيز أعلى من المطلوب ولفترة أطول من العادي فكانت النتيجة هبوط شديدا في الضغط يمكن أن يؤدى إلى الوفاة. وبتكرار الدراسة على عدد كبير من المرضى في أوربا تبين وجود هذه الظاهرة في حولي واحد من كل عشرة من المرضى بحيث أمكن تقسيم المرضى بخصوص تفاعلهم مع الدواء المذكور "دبريسوكوين" إلى نوعين: نوع ذي أيض ضعيف للدواء Poor Metabolizers مثل الباحث الذي كاد يلقى حتفه، وهؤلاء يمثلون 9% وأما النوع الثاني (91%) فهم ذوو أيض شديد للدواء Extensive METABOLISERS وهؤلاء يخرج الدواء من أجسامهم بسرعة. وهكذا اتضح أن الجرعة يجب أن تخفض بقدر كبير عند المرضى ذري الأيض الضعيف وإلا فإن الدواء يتحول عندهم إلى مادة سامة، ووجد أن هذه الخاصية تخضع لقواعد علم الوراثة وأنها ناتجة عن اختلاف وراثي في عامل وراثي محدد، وكانت المفاجأة التالية أن المسألة بخصوص هؤلاء المرضى لم تعد تختص بهذا الدواء (الدبريسوكوين) فقط بل أصبح من الواضح أن هذه الظاهرة عند نفس ال نوع من المرضى تنطبق على قائمة تضم العشرات من أدوية القلب والأعصاب وأدوية أخرى (من الأمثلة: اميرامين - بروبافينون - دكستروميثورفان - تيمولول) وقد نتج عن المئات من البحوث الخاصة بعقار الدبريسوكوين والأدوية المشابهة له بخصوص العامل الوراثي المتحكم في أكسدة الدواء في الجسم نوعان من المعارف. الأول تطبيقي ويختص بتنبيه الأطباء إلى ضرورة إجراء تعديلات في وصف بعض الأدوية من حيث تعديل مستوى الجرعات وتكرار تناولها مع متابعة المرضى. وأما الثاني فهو أكاديمي ويختص باكتشاف الاختلافات الوراثية في البنية والخواص الكيميائية للإنزيم المسبب لأكسدة الدواء داخل الجسم. والحقيقة أن كلا النوعين من المعارف قد تطور كثيرا وكان لاستخدام تقنيات الهندسة الوراثية فضل كبير لتعرف الاختلافات الوراثية في منظومة أكسدة الأدوية داخل الكبد. وبات من الواضح أن الإنزيم الرئيسي المختص بالأكسدة في الكبد واسمه "سيتوكروم ب 450"، يوجد في أشكال عديدة متشابهة ISOZYMES التي يمكن للتبسيط الإشارة لها باعتبارها عائلات تختلف عن بعضها البعض في درجة التشابه من حيث ترتيب الأحماض الأمينية داخل بنية الإنزيم. ويعزى هذا الاختلاف في العوامل الوراثية التي من شأنها توجيه البناء البروتينى للإنزيم. وحتى الآن توجد ثماني عائلات مختلفة من هذا الإنزيم، أو بمعنى آخر توجد ثماني عائلات مختلفة من العوامل الوراثية الخاصة ببناء هذا الإنزيم. وهكذا تختلف الأدوية التي تتعرض للأكسدة داخل الكبد من حيث عائلة أو أسرة الإنزيم الذي من المفروض أن يؤكسدها، فمثلا كل من أدوية الميفينيتوين (للأعصاب) والدبريسوكوين (لارتفاع ضغط الدم) والنيفيديبين (للذبحة الصدرية) يتم أكسدته عموما بواسطة الإنزيم المشار إليه من قبل "سيتوكروم ب 450" لكن الإنزيم الخاص بكل دواء من الأدوية الثلاثة يختلف من حيث العامل الوراثي المسئول عن ترتيب الأحماض الأمينية بداخله، حيث إن الإنزيمات الثلاثة لها أشكال متباينة وأسماء مختلفة داخل العائلة الكبرى للإنزيم ويشار لها علي الترتيب كما يلي 9 P 450 II c ( الدواء الميفينيتوين) 6 P 450 II D (لدواء دبريسوكوين) و 4P 450 III A (لدواء نيفيديبين)، وهكذا. يبقى بعد ذلك أمر مهم جدا وهو أن درجة الأكسدة في كل حالة من الحالات السابقة قد تكون ضعيفة وقد تكون قوية وهو أمر يتعلق بخواص العامل الوراثي المشار إليه سابقا، ومسألة الأكسدة الضعيفة أو الأكسدة القوية في كل حالة هي مسألة وراثية ينتج عنها وجود أفراد ذوي قدرة عالية على أكسدة الدواء وآخرين ذوي قدرة ضعيفة. وإذا عدنا إلى الباحث الذي شارك مرضاه في تجربة دواء دبريسوكوين وتعرض لهبوط شديد في الضغط كاد يودي بحياته (كما أسلفنا الذكر) فقد كان العامل الوراثي 6P 450 II D عند هذا الباحث يؤدى إلى أكسدة ضعيفة للدواء الذي تعاطاه (الدبريسوكوين) ولأي دواء من المجموعة التي تشترك الدبريسوكوين في خاصية الايض بالأكسدة تحت تأثير نفس الشكل من الإنزيم (أ6 P 450 II D))

فرع جديد في علوم الدواء

إن التفاصيل التي تطرقنا إليها في هذا المقال تشير ببساطة متناهية إلى نوع المعرفة العلمية الجديدة التي اكتسبها الإنسان في العقود الثلاثة الماضية (خاصة منذ بداية الثمانينيات) بخصوص فرع جديد في علوم الدواء هو علم الدواء الوراثي أو فارماكوجينيتيكس، وما نود أن نجذب إليه انتباه القارئ هنا هو التباينات العرقية للتفاعلات الوراثية للأدوية بمعنى اختلاف نسبة المرضى الذين يتفاعلون - مثلا - مع الدبريسوكوين بأيض شديد أو بأيض ضعيف نتيجة لاختلافات عرقية، فبينما تصل نسبة ذوى الايض الضعيف للدبريسركوين عند الأوربيين إلى 9% فهي عند العرب 1%.

وإذا تطرقنا إلى نوعية أخرى من الأيض مثل اكتساب مجموعة اسيتيل وتحدث للعديد من الأدوية كبعض أدوية السلفا ودواء الايزونيازيد المستخدم في علاج السل الرئوى فان هذا النوع من الايض يكون سريعا عند البعض وبطيئا عند البعض الآخر، ومن المعروف في هذا الخصوص أن نسبة ذوى الأيض البطيء تبلغ 82% عند المصريين بينما هي 50% عند الأوربيين، وأما عند اليابانيين فان هذه النسبة تنخفض جدا لتصل في أقل من 5% وهنا ينبغي تذكر أن هذا الاختلاف ينعكس تطبيقيا في ضرورات ضبط الجرعات وتوقع احتمال حدوث آثار جانبية للأدوية وكذلك إجراءات متابعتها وتجنب حدوثها كما أسلفنا الإشارة إلى ذلك من قبل. يبقى هنا سؤال مهم للأطباء والمرضى وهو "هل يمكن تحديد ما إذا كان شخص ما يتبع نوع الأيض القوى أو الايض الضعيف..الأيض السريع أو البطيء.. ؟ " والإجابة نعم توصل العلماء إلى العديد من الاختيارات المعملية التي تمكنهم من التعرف السريع وبتكاليف بسيطة على التصرفات الوراثية المحتملة لأي شخص إزاء أنواع محددة من الأيض الدوائي، ويساعد هذا التحديد على حسن وصف الدواء للمريض. ويهمنا أن نذكر أننا أشرنا إشارة سريعة في بعض الأنواع المهمة من الاختلافات الوراثية في التفاعل مع الأدوية وذلك من خلال الجدول المنشور.

وختاما نود جذب الانتباه إلى ما يلي:
1- أن ترشيد استخدام الأدوية عن طريق تبصر الأطباء بالاختلافات الوراثية لمرضاهم في التفاعل مع الأدوية أصبح أمرا واردا بالنسبة للعشرات من المستحضرات الدوائية.
2 - أن الاختلافات العرقية في التفاعلات مع الأدوية تدعو إلى ضرورة اهتمام علماء الأدوية في مختلف البلدان العربية ببحوث ودراسات تختص بتفاعلات وأيض الأدوية في شعوب بلدانهم،
3 - أنه من المتوقع نتيجة بحوث الهندسة الوراثية ذات الصلة بكيمياء الجسم وعلي الأدوية أن تتضاعف قدرة علوم الصيدلة والطب على التوصل إلى الترشيد الأمثل في استخدامات الأدوية طبقا للمواصفات الوراثية الدقيقة لكل مريض.

أمثلة لتفاعلات دوائية غير
عادية نتيجة أسباب وراثية

اسم التفاعل الدوائي

الأثر المتوقع على المريض

أمثلة للأدوية المعنية

الحساسية لدواء سوكسا ميثونيم (دواء يستخدم لارتخاء العضلات في العمليات الجراحية).

توقف التنفس لفترة طويلة

ساكسينيل كولين

مقاومة مفعول الوارفارين، وهو دواء مانع للتجلط

ضعف تأثير مضادات التجلط عن طريق زيادة الحساسية لفيتامين ك في الكبد

وارفارين

فافيزم تحلل الكرات الدموية الحمراء عند تعاطي أدوية معينة وذلك في حالات نقص إنزيم اسمه ((G6 - dehase

تكسر الكرات الدموية الحمراء نتيجة التعرض لبعض الأدوية

بريماكوين (لعلاج الملاريا) نيترفيورانتوين (لعلاج التهابات المجاري البولية).

بطء أو سرعة الأيض بتكوين مجموعة الاسيتيل

بطء الأيض قد يسبب تسمما وسرعة الأيض قد تقلل فاعلية الدواء

ايزرنيازيد (لعلاج السل الرئوى). هيدرالازين (لعلاج ارتفاع ضغط الدم.بروكيناميد (لعلاج عدم انتظام ضربات القلب) بعض أدوية السلفا (مضادات البكتيريا) دابسون لعلاج الجذام).

 

محمد رءوف حامد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات