«غابات الأسمنت» تتمرد على كل شيء وتبحث عن الحب

«غابات الأسمنت» تتمرد على كل شيء وتبحث عن الحب

تمرد على كل شيء، اختار له ظلاً مخالفاً لظل الآخرين، وبين «أنثى لا تحب المطر»، و«غابات الأسمنت» بحث عن شخوصه التي حينما تصادق معها، حملته بأرزاء مجتمعية، لم يعرف الفكاك منها.

تمرده لم يكن خالياً من عقبات، تعصر قلبه كل يوم، فلم يستطع الانفلات منها، ولم يعرف لغة الخصام معها.

قال لي أكثر من مرة: أنا متمرد على نفسي يا علي! فلا ترغمني على كسر تمردي، دعني أحلم، وسأدع العالم من حولي يحلم بحلمي!

ضحتُ كثيراً، من قوة صبره، لكني قدمت له الأعذار، وصاحبته إلى ضواحي «البرامكة» في دمشق، وفي أكثر من زقاق وقهوة في ضواحي المنامة وشوارعها.

أحبُّ فيه قدرته على دفن مشاعره، وعناده حينما أدفعه على التحدث عن الحب، يبتسم ويقول: «كفي يا علي» دعني أجسد هذا الحب فيما أكتبه.

فهو في مجموعته الأولى الصادرة عام 2003 «أنثى لا تحب المطر» جسد جزءاً كبيراً من هذا الحب، ومن مشاعره تجاه المرأة، رافضاً كل حدود للخصام.

وفي مجموعته الثانية «من غابات الأسمنت» الصادرة 2006 كان صلباً في هذه الغابة لكنه لم يخرج من عباءة تلك الأنثى التي قادته في مجموعته الأولى نحو سديم الأشياء ونحو مدائن هو بعينه نظرها وعقد علاقات كبيرة مع سكانها، رافقته في غابات الأسمنت ولكن بشكل مختلف، بل هي المرأة في شجونها او في صبرها وفي عنادها، كمثل قصة «كوثر» صفحة 133 وقصة «خبيثة» صفحة 129 من مجموعته الأخيرة من غابات الأسمنت.

فالقاص البحريني أحمد المؤذن، حينما اختط لنفسه أن يكتب قصة، لم تكن هذه الخطوة في بداية انطلاقها سوى حلم، لكن هذا الحلم على الرغم من استسلام أحمد له، فإنه ظل حلماً يجسد ذاتية أحمد عبر ذات المجتمع الكبير الذي أزمّه كثيراً وأضناه بالتشظي والقلق والخوف من الآخر.

فليست الأنثى سوى ذاكرة تسكن اختلاجات نفسه، فيعصرها مراراً، ويسير في شوارعها مثقلاً بهمومه، باحثاً عن عمل وعن امرأة تخيط له جرحه الذي أزمته الحضارة، فاقتات من تعبه حجارة السبخ، قاطعاً دروبه الموحلة بصبر أكل من أقدامه وشققها.

المؤذن حينما تغزو عوالمه قصة جديدة يكتبها، يسكن داره طويلاً قبل أن يعلم أقرب المقربين له، أنه قد ولد جديداً.

وبين هذا الجديد وجديده المتواصل لم تغادر داره تلك الأنثى التي رافقته في حلمه الأول «أنثى لا تحب المطر».

ولم تكن المدينة والقرية بعيدتين عن خيوط وجعه، لأنهما أول خيط المعرفة لديه، وأول حب عقده مع الأنثى في ضواحيها، فلم يعرف مغادرتها،بل ظل يسير ويرقب المارة من الناس، ويتحدث مع شيبها وشبابها، ويعقد علاقات حنونة مع كل من يراه جديراً بالمحبة.

هذه المفاصل من العلاقات، هي الشخوص التي ظل يصر على أن تكون ركائز كتابته القصصية، وأن ترافقه في كل مرحلة عمرية، فالفساد المجتمعي لم يغفل عنه، بل ترك له أكثر من باب للحديث في إثارة الوجع، وكانت الأنثى حاضرة كشاهد إثبات في تنقله بين تلك المفاسد المجتمعية، من غلاء وخيانة، ومحاسبة، وهتك للشرف، وحكايات حب من هنا وهناك، مفاصل ظل يكررها في كل تجاربه القصصية، وكانت علامات واضحة في تجربته السردية، والتي هي في حدود صبر الكاتب قد صلبته على حمل وجعها كشواهد غنية في تجربة أحمد المؤذن القصصية، ذات البعد اللغوي السردي الكبير.

علاقات مشبوهة لكنها توحي بالدفء

بين كل التجارب التي جسد علاقاتها القاص المؤذن في تجربتيه القصصيتين «أنثى لا تحب المطر» و«من غابات الأسمنت» تبرز ظاهرة أثارت بعض الحكايات التي اقتنصها المؤذن واعتبرها ظاهرة سلبية يجب التصدي لها، مثل ظاهرتي الخيانة والفساد المستشري في بعض مؤسسات المجتمع، إلا أنها في اعتقادي على الرغم من تقزز النفس من سماعها فإنها توحي بالدفء، لكون بعض هذه الحكايات متصلة بالأنثى كبطلة لهذا المشبوه، أو بروز فاعل ما يسكن هذه المؤسسات المجتمعية، مستغلاً ما ليس له حق فيه، بيرزها القاص على أنها مشكلة، تثير المآسي لكنها لا تخلو من السخرية.

فالسخرية في سرد المؤذن، تتضح بشواهد بين السطور التي تتحدث عن بعض هذه المثالب.

فالعلاقة المشبوهة هنا تقرأ على أنها علاقة عفيفة، تثير الضحك وتؤزم المأساة، كمثل قصة «خبيثة» صفحة 129 والتي يرسم وجودها الكاتب على إنها نشأت في الشوارع الخلفية «القذرة»، قرب عشش الصفيح، لم يكترث بها أحد، فهذه الخبيثة أصبحت مصيدة لكل رجل عفيف، سقط في حبالها، مكونة علاقات مشبوهة، تثير السخرية على وضعها الاجتماعي، لم تكن هذه الخبيثة في رؤية مؤلفها سوى ناطحات من الأسمنت، التي استشرت بفضولها وأصبحت واقعا من السمسرة الجديدة.

المؤذن يفضح الكثير من المثالب التي سيطرت على العلاقات المجتمعية بفضول فج، مقزز، لكنه في واقع الحياة المعاصرة داء لابد من التعامل معه، والسير تحت عجلاته على الرغم من قسوة الألم، وعلى الرغم من التكاليف الباهظة التي يحملها الإنسان على ظهره كدين يسدد فاتورته طول حياته.

طفولة قاسية وجيران طيبون

على الرغم مما في القصص من ألم يفضحه المؤلف عبر قصصه، فلا يخلو هذا الألم من قفشات المرح الأطفال، فالحزن الذي يعرّش على بيوت الجيران وساكني الحي، هو الحزن الذي لا تخلو منه أي قرية وأي حي يعيش فيه أناس، يبنون حياتهم من خوص النخل ومن طوب الأرض المحروق.

ففي قصة «حزن» صفحة 137 يسردها المؤلف: «ما عدا صخب بيت الجيران المحتفل بشقاوة الأطفال، تتسرب أصواتها إلى داخل البيت، تغير من جو السكون وإلا فإنه لا شيء يكسر هجوم الوحدة.

أسوار صامتة ترتفع داخل هذا الفؤاد المثخن بالألم واللهفة لضجة طفل يمحو قسوة السكون.

وقد أخبرتني ذات مساء.

- حتى لو نسيت هناك دائماً شبح يطاردني في اليقظة والمنام.

- الصبر والإيمان يا أختي.

أشغل نفسي بقراءة القرآن وبعد أن أتعب وأتوقف، تعاودني تلك الأفكار ويلعب على عقلي إبليس.

بهذا المنولوج الحزين يسرد القاص قصة «حزن» مريم ومكية، وقد تكونان جارتين للقاص المؤذن أو قريبتين، إلا أنهما صورة لواقع الجيران الذين ينبضون بشجونهم، ويسرون بطيبتهم عن واقعهم المؤلم.

المؤذن في غابات الأسمنت، يدفع بكل ما يحبه نحو محبيه، مثيراً الكثير من الحكايات من باطن القرية والحي، عبر لغة سلسة، تفيض بحكايات مدفونة ذات صلة بواقعها الأسمنتي، لحياة صلبة.

المؤذن في إثارته لهذا الصلب من الحياة، يشتاق لزمن العريش، وحكايات زمن مضى، لكنه يبحث عن ذلك الحضن الدافئ، وذلك البيت الهادئ، فعندما تمر عجلات غاباته تقرص خاصرة الكادحين في الحياة، أسئلة تقودنا إلى أن المؤذن لم يترك فضاءه دون مراجعة ما يحمله هذا الفضاء من هم وسلوى، قد نقرؤها في جديده القادم، لأنه متمرد على كل شيء، باحث عن الحب في كل جهاته الأربع.

---------------------------------

مدينتي يا أدمع البركان قد جرت مشاعل
ويا ابتسامة الزلازل
مطبوعةً سيفاً على جبين شعبي المكافح
مدينتي زنبقةٌ خضراء لم تنمْ على سريرٍ فاتح
ولم تصبّ الزيت في مصباح خائن
رموشه بساطُ كلّ مقبلٍ ورائح
من صانعي المذابح
ولم تهب ضفيرة أسلاك معتقل
ولم تقبّل سوط طاغيه
كجاريه

معين بسيسو

 

 

أحمد المؤذن 





 





أحمد المؤذن