حج مبرور من دون متاعب صحية

فنانون عبر التاريخ

إذا كان الفنان يرسم اللوحة أو ينسج النغم- أعني بداية الخطوات في إبداع الفن- فإن مؤرخ الفن يضفي الأهمية التاريخية على العمل الفني في نزاهة تامة وحياد مطلق، ومن هنا ينبغي أن تتوافر في هذا المؤرخ- كي يؤدي مهمته على أتم وجه- صفات عالم النفس الذي استوعب الفن عن طريق خبراته، بالتجانس بين الفن وعلوم النفس والجنس ووظائف الأعضاء والأحلام والتصوف، والحب وجولات واسعة حول الزمان والمكان، كي يحدد الدوافع النفسية التي أدت بالفنان إلى أن يرسم ما رسم، أو ينحت ما نحت، أو يبدع ما أبدع من نغم. وبهذا يساعد "المتلقي" على أن يكتشف- بينما هو يتطلع أو يستمع إلى العمل الفني- الحالة الوجدانية التي كان يعانيها الفنان وهو يبدع لنا تحفته، وبهذا أيضا تسري في الموسيقى والشعر والرقص تلك الوثبة الخلاقة نحو رهافة الحس التي ترقى بنا إلى الذرى، وتدفع بنا إلى التأمل الذي يفتح للفكر والقلب أبواب المعبد، معبد الجمال

أحقاب من الفن

وفي الحق إن خبر ما يعؤِّل عليه اليوم من نظريات تاريخية، تلك التي تسوي بين أحقاب التاريخ كلها لا تميز حقبة عن أخرى إلا بما تحققه من ازدهار تملك أسبابه، ولاتفضل حقبة على حقبة بسبقها في الوجود أو بتأخرها. وهذه النظرية لاتأخذ بالتسلسل المتصل ولا بالترقي المطرد، وترد ما يكون من تطور إلى التغير العلمي لمفهوم الفن والثقافة، وفي ذلك يقول المؤرخ أرسطوا الفرنسي إيلي فور- على سبيل المثال- إن الحضارة المصرية لتضارع أية حضارة أخرى ظهرت على وجه الأرض. وهو بهذا يساوي بين الحضارة المصرية التي بلغت أوجها في القرن الخامس عشر قبل الميلاد وبين غيرها من الحضارات التي ظهرت بعدها، لا يجعل للتطور والترقي ولا للتخلف الزمني نصيباً في حكمه، ولعل في هذا ما يفسر لنا وجود أعمال فنية متماثلة مع تباعدها زمانا وتخالفها مكاناً.

وخير ما يطبع النفوس على التذوق الفني استمتاعها برؤية الآثار الفنية وتطلعها إليها. وقديما رأينا الصينيين يهيمون بجمع التحف الفنية في دورهم يحتفظون بها في صناديق فَحَارَة، يخلون إليها في مواقيت معينة وفق طقوس مأثورة عن السلف، يتأملون ويتخيلون مؤمنين بأن الفرد كلما توافرت له تحف فنية مختلفة يجيل فيها بصره توافرت عناصر الذوق وغلبت علية، فإذا هم قد ملكوا. بما فعلوا روحانية فنية سبقوا بها الغرب بآلاف السنين، فلم يحذ حذوهم إلا حديثا، حتى أصبح من العسير أن نصدق أنه لم يكن ثمة متحف في أوربا الحديثة إلا منذ مائتي عام فقط. فلقد كان توفير اللوحات المصورة والمنحوتات والآثار الفنية قديما من العسر بمكان، وكانت تقوم بينه وبين ذلك حوائل كثيرة، إذ لم يكن الانتقال إلى الأماكن الأثرية يسيرا، كما لم تكن الطباعة قد أخذت سبيلها ولا الوسائل الحضارية الأخرى قد بلغت هذا الشأو سطو من الرقي. وما من شك في أننا نملك اليوم من أدوات الاتصال والانتقال والطباعة ما لم يملكه السلف بالأمس، وغدا الفرد وهو مستلق في داره يستمتع بما هنا وهناك مطبوعا أو مصورا أو مرئيا على شاشة السينما أو التلفزيون أو الكمبيوتر دون أن يبرح مكانه، فأصبحنا بهذه، الوسائل والأدوات أقدر على أن نهيئ لأنفسنا ما يذكي فينا الذوق الفني ويطبعنا على الإحساس به، فإذا متاحف الفن التي لم تأخذ بالانتشار إلا خلال القرن التاسع عشر تغدو اليوم ذات شأن كبير في المعاونة على استيعاب الأعمال الفنية ودراستها والمعاونة بين بعضها البعض، حتى غدت جزءا من حياة الناس اليومية، وأصبحت تلك المعروضات الفنية تمثل شيئا قائما بذاته يضفي عليها، مجتمعة طابعاً جديدا. فقد كنا من قبل نرى المنابر والشماعد والطرز عناصر أساسية ضمن مكونات المسجد، وكذلك كما نرى التماثيل القوطية عنصرا أساسيا ضمن مكونات الكاتدرائية، كما كانت اللوحات الرومانية الكلاسيكية المصورة مرتبطة ارتباطا عضويا بالمكان الذي أعدت من أجله داراً كان أو قصراً أو بازيليكا، لا وجود لها مع غيرها من أعمال فنية غير متآلفة معها نظرة وروحا، وإذا المتاحف في العصر الحاضر لاتكتفي بانتزاع العمل الفني من منشئه فحسب بل من تجمع بينه وبين ما يباينه، أي تجمع بين أعمال متفرقة أو متناقضة، وإذا هذه المباينة تقتضي اختلاف النظرة إلى العمل فنان من الفني نتيجة تلك المواجهة بين النقيضين. وكتابة لوحات وهذا أيضا ما انتهى إليه الأديب الكبير أندريه مالرو في كتابه الخالد "المتحف الخيالي" بما يضم من مستنسخات وصور فوتوغرافية تتيح لنا أن نعارض بين نقش بارز ورصيعة محفورة وأن نتبين الطراز الذي يجمع بينهما. ولايناقش المؤلف الأعمال الفنية وهي منفرطة العقد، بل يناقشها جملة في إطار تاريخي واحد. كما لم يقتصر على تقديم نماذج من حضارة بعينها بل أفاض وضرب أمثلة من حضارات مختلفة. وكذا فعل مع الفنون، فنراه يعرض مع اللوحة المصورة التمثال والنقشة البارز ليقع على والنسيجة المرسمة والنقش البارز ليقع على العنصر الخيالي للمرة الأولى متحفا لتراث الإنسانية عبر العصور، يحفظ لنا الأصول بعد استنساخها، فقد يعدو الزمن على الأصول فيمحو شيئا ويمسح شيئا، ولكن عواديه لاتستطيع أن تمس ذلك المستنسخ.

رقابة قاسية

وقديما تنبهت الكنيسة إلى أثر الفن في النفوس مصوراً أو منحوتا أو منغوما، فأمسكت زمام الفن بيديها حتى لايكون إلا ما تحب وتهوى، وفرضت على رجال الفن رقابة قاسية مخافة أن يصدر عنهم ما يخلخل العقيدة وينحرف بالناس عن جادة الدين. وما نظن اجتماع مجلس الثلاثين "1546 " كان إلا لهذا ولإنقاذ الكنيسة الكاثوليكية من التداعي الذي تعرضت له بعد آسيا الوسطى حركة الإصلاح الديني بزعامة مارتن لوثر، خطوط متعددة ولقد كان من أمر هذا المجلس أن أخذ في رقابة الفنانين بعدما رأى خطر تأثير الصورة أو التمثال في النفوس، وفي اختيار الموضوعات التي لاتناقض العقيدة من قرب أو من بعد، وتجمع الناس على احترام العقيدة ومحبة الدين، غير أن كنيسة روما وما لبثت أن حاولت استرداد سلطانها الذي فقدته خلال عصر الإصلاح الديني بالمبالغة في الكشف عن ثرائها الدنيوي وتصوير أمجاد السماء التي تشد القلوب عن طريق تسخير الفنون لخدمتها من تصوير ونحت وعمارة وموسيقى تشيع البهجة في النفوس، فغمرت الكنائس بالألوان المتألقة والزخارف المفرطة التي تبدو لنا اليوم في جمال الديكورات المسرحية.

وهذا الفن الذي حرصت الكنيسة على أن تجعل زمامه في يديها إيمانا منها بتأثيره المؤكد هو الذي كاد أهل بيزنطة يثيرون من أجله حربا دامية خلال القرنين الثامن والتاسع فيما يعرف بحركة تحطيم الصور Iconoclast. وهذا الذي خشيته الكنيسة من انطلاق الفن بلا ضابط، خشي منه أيضا نفر من المسلمين فحالوا يوما دون أن ينطلق الفن انطلاقته الحرة، الأمر الذي جعل الفن الإسلامي قرونا عدة مقصورا على الزخرفة، لايعدوها. ومن هنا خص الفن الإسلامي في ظل هذا التشكك الفن الزخرفي بالقسط الأكبر من جهده ودقته، فإذا هو يخلف أروع ما يؤثر من فن "الأرابيسك " أي فن الرقش والتوريق المتشابك الذي غدا فن الإسلام الأصيل. وكان الفنانون المسلمون فيه معجزين حقا لا يجاريهم فيه غيرهم. كاد الفنان المسلم يستلهم في هذا أحاسيسه، فإذا خطوط الرقش الممتدة في شطحاتها إلى ما لا نهاية تشير إلى رؤياه الميتافيزيقية. وهذا الاقتضاب وذاك التحوير لم يكونا غير نتيجة منطقية لتجنب رسم الكائنات الحية علي صورها استجابة لهذا الوازع. وكان الفنان المسلم إذا ما اضطر إلى ذلك شتت أجزاء تلك الكائنات أو كرر صفوفها لتكون أقرب إلى الحلية الزخرفية منها إلى شكلها الأصلي. ومن إشراقة نفسه أضفى على أشكاله ألوانا زاهية مشرقة لاتزال تبعث فينا الحنين والنشوة.

التصوير العربي

وإن ما وقع إلينا من تصاوير إسلامية- على قلته- ليؤكد أن هذا التحريم لم يكن على إطلاقه، فثمة مصورون مسلمون ظلوا يصورون ما شاءوا سواء أثناء ما نطلق عليه مدرسة التصوير العربية التي اندثرت مع غزو المغول لبغداد في القرن 13 أو مدرسة التصوير الفارسية أو التركية أر المغولية في الهند. بل لقد ذهبت المدرسة الفارسية إلى حد تصوير قصة المعراج التي زخرت بها مخطوطة معراج نامه المحفوظة بدار الكتب بباريس.

ولقد جاءت تعاليم القرآن الدينية والروحية صريحة واضحة، مما حال بين المسلمين في صدر الإسلام وبين رسم صور إيضاحية لنصوص القرآن، وكذلك كانت الحال في تصوير حياة النبي صلي الله عليه وسلم وصحابته.

ولم يحجم المصورون في مبدأ الأمر عن التصوير الرامز للرسول لأن تصويره كان محرما، بل توقيرا وإجلالا. ودليل ذلك استخدامهم الشعلة النورانية حول رأس النبي عليه الصلاة والسلام في الصورة الرامزة له ولغيره من الأنبياء منذ أواخر القرن الرابع عشر، ثم إضافة النقاب إلى وجهه في نهاية القرن الخامس عشر تميزا له وتبجيلا.

لقد أثبت أرسطو أن التراجيديا كانت مدخلا إلى ما أراده من تطهير نفسي لايتأتى للمشاهد إلا بعد أن يكون قد استنفد كل انفعالاته بعد فراغه من مشاهدة المأساة. فيصبح في حال من الاتزان والسكينة العقلية يليقان بموطن في المدينة المثالية وتفسير ذلك، أن الخوف الذي يستشعره المساهد من خلال تتبعه للموقف الدرامي يزيح عنه ما يعانيه من قلق، وأن الاندماج المتعاطف مع البطل الدرامي الرئيسي يوسع أفق بصيرته، ومن ثم يكون للتراجيديا تأثير نفسي وإنساني في آن واحد في المشاهد والقارئ على حد سواء. وما يسري على التراجيديا فيما يتصل بالتطهير النفسي يسرى بالمثل على سائر الفنون كالموسيقى والغناء والرقص والنحت والتصوير وغيرها.

الفنان وروح الجماعة

ولكن ترى من هذا الفنان؟ أهو المعبر عن روح الجماعة التي ينتمي إليها وعما تحس به ويجيش في صدورها؟ أم هو المعبر عن ذاته وآلامه وأحلامه؟ سواء أكان الفنان هذا أم ذاك، فهو بلاشك يستلهم من الزمان الذي يعيش فيه، ومن البيئة التي يحيا فيها، ومن الأحوال التي تحيط به، وهو على الحالين معبر عن نفسه وقومه بل وإنسانيته. وعلى هذا النحو نجد أن المصور برويجيل على سبيل المثال الذي بدأ بتصوير طغيان الطبيعة على الإنسان قد حمل فن التصوير الفلمنكي إلى صميم الحياة، وعبر بقدرة تشكيلية عن البؤس الإنساني موحياً بمأساة الشعب الهولندي تحت نير الحكم الإسباني، فأعطى الإنسان في لوحاته الأخيرة مكان الصدارة، وجعل منه بطلا في صراعه من أجل وجوده في هذه العالم. وإذن فليس ثمة ما يدعو إلى التفرقة وأن يكون هناك لونان من الفن، فن لذاته وفن للمجتمع، فالفنان مهما أغرق في الدلالة على فنه فهو معبر عن جانب نفسي غمرته البيئة فيه ليكون معبراً عنه آخر الأمر. وما تلك المظاهر الفردية التي ينفرد بها أناس في مجتمع إلا تعبيرا عن جوانب غامضة في ذلك المجتمع لا نتبينها إلا في مظاهر هؤلاء. وهي بسببب غموضها وخفائها، وبسبب ظهورها على ألسنة قلة قليلة، تبدو وكأنها تعبير عن الفردية لا الجماعية، وفي رأيي- وقد أكون مجانباً للصواب- أنه ليس ثمة مظهر إلا الجماعة سببه.

وقد تخفى علينا- إذا نظرنا إلى عصر من العصور- العلاقة القائمة بين العالم الذي يصنع القوانين، والفيلسوف الذي يشكل النظريات، والكاتب الذي يسجل انفعالاته وأفكاره، والفنان الذي يبدع صورا وأنغاما وشعرا وتشكيلا مسرحيا أو قصصياً. والحقيقة أنهم جميعاً يعبرون عن نظرة عصرهم إلى العالم الواقعي، غير أن كلا منهم يعبر بوسيلته الفكرية والوجدانية الخاصة به. وإن أي جيل من الأجيال لأشبه بسفينة تتهادى بمحاذاة شاطئ يتطلع راكبوها إلى المشاهد التي تنساب أمام أعينهم، فبينما يقيس أحدهم الأبعاد، ويلتقط ثان صورة فوتوغرافية، ويحمل ثالث علبة ألوان مائية، وينتحل الرابع انطباعاته بقلمه بحماسة مشتعلة، ويعبر خامس عن انفعالاته من خلال وتر أو قصبة ناي، لا يلمح المتطلع غير المتعمق أية رابطة بين هذه العمليات المختلفة، ومع ذلك فإنها تنبثق كلها دون استثناء من مصدر واحد هو النموذج المرئي، بل أنه ليحدث أحياناً أن يفضل أحد الركاب الجلوس في مقدمة السفينة كي يكتشف ما ينبثق عن الأفق، في يجلس آخر في المؤخرة شارد الذهن تفيض نفسه بالحسرة على ما خلفه وارءه وأصبح بعيدا. كل هذا يحدث لجمع واحد، على ظهر سفينة واحدة، تسلك طريقا واحدا بسرعة بعينها. ألا ما أشبه هذه السفينة بحياة تظل جيلا بأكمله.

 

ثروت عكاشة

 
  




أرسطو





فنان من آسيا الوسطى وكتابة لوحات بخطوط متعددة





مخطط كامل للمصحف الشريف