عزيزي القارئ

 عزيزي القارئ

القدس.. المدينة الطهور

يقول أهل الجغرافيا، إنه إذا رسمنا مثلثاً تكون رءوسه بمكة والقاهرة وبغداد، تكون القدس في القلب من هذا المثلث تماماً، فهي في قلب الحضارات والمعتقدات، وهي المدينة الطهور كما يعني اسمها، والوحيدة التي تجتمع فيها رموز الأديان السماوية الثلاثة، فهي العين التي استقى منها موسى عليه السلام، والدرب الذي شهد آلام المسيح عليه السلام، وهي معراج محمد عليه الصلاة والسلام، وهي فوق ذلك كله عاصمة السماء ومدينة الروح. القدس التي تضيع منا الآن، لم تكره جنساً من الأجناس كما كرهت اليهود، ومن المؤسف أنهم يضمون قبضتهم عليها الآن، يزيفون تاريخها، ويبدلون معالمها ويحاولون بكل بهاء الزيف وغرور القوة أن يثبتوا أنها مدينة يهودية، في تاريخ القدس الذي يمتد إلى أكثر من ألفي عام، حكم اليهود المدينة سبعين عاماً فقط، منها ثلاثون في عهد النبي داود، والأربعون الباقية في عهد ابنه النبي سليمان، من هذه الفترة البالغة الضآلة في عمر الزمان، صنعت إسرائيل تلك الأسطورة الهائلة، وتلك الطنطنة العالية، بالرغم من أن اليهود لم يتركوا فيها أي ذكرى، ولم يخلفوا أثراً، وحتى حائط المبكى الذي يداومون على البكاء أمامه صباحاً ومساء مدّعين أنه مكان هيكل سليمان ليس إلا أحد جدران المسجد الأقصى، ولم تنشأ أسطورة حائط المبكى هذه إلا بعد حرب يونيو 1967، وما عدا ذلك فالتاريخ اليهودي هو تاريخ الطرد والإقصاء المتواصلين عن القدس، طردهم الملك البابلي نبوخذ نصر، ودمر هيكلهم المزعوم الذي مازالوا يبكونه حتى الآن، ثم أمر الإمبراطور الروماني أدريان بطردهم مرة أخرى لأعمالهم الفاحشة بالمدينة الطاهرة، ونفاهم إلى أوربا، وعندما جاء الفتح الإسلامي، كان أهم شرط لمسيحيي القدس قبل أن يسلّموا مفاتيح مدينتهم للخليفة عمر بن الخطاب، هو ألا يسمح لليهود بالإقامة في المدينة، لم يسمح لهم إلا في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي بعد أن حررها من الصليبيين، وكانت إقامتهم فيها محددة بعدد من الأماكن، وهم يريدون الآن أن يستولوا على كل الأماكن، القدس الآن تقبض على هويتها العربية كالقابض على الجمر، وتحاول في هذه الأيام أن تمارس دورها التاريخي كعاصمة للثقافة العربية، بالرغم من أنها مهددة في صميم عروبتها، إنها تغيب أمام أعيننا مثل سراب قديم دون أن نملك ما نفعله من أجل إنقاذها، أهلها من العرب - مسلمين ومسيحيين - محاصرون، في كل يوم تهدم منازلهم وتصادر أراضيهم وتمحى هويتهم من دون أن نحرّك ساكناً، ولكن المقدسيين لا يكفون عن المقاومة، ويواصلون الحياة داخل أزقة المدينة القديمة، بالرغم من الحراب المسددة إلى صدورهم طوال الوقت. إن مجلة «العربي» إذ تشارك القدس في هذا العدد احتفاليتها الحزينة باختيارها عاصمة للثقافة العربية، تذكّر الجميع بأن هناك جزءاً عزيزاً من تاريخنا وحضارتنا وعقيدتنا يضيع من أمام عيوننا كل يوم، وأن الصوت العربي داخل حواري القدس العتيقة أصبح متفرّداً ووحيداً، ربما تكون هذه المناسبة فرصة للتذكّر ومراجعة النفس ومعرفة مدى فداحة الخسارة التي نتعرض لها جميعاً.

 

 

 

المحرر