اللغة حياة

اللغة حياة

قلّما يؤخذ بالمعنى الحرفيّ للمصطلحات

سألني واحد من قدماء تلاميذي، قيّمٌ على الدروس العربيّة في مؤسّسة تعليميّة هامّة، عن توجيه البناء للمجهول في الآية الكريمة : آمَنَ الرَسولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ مع أنّ الفاعل معلوم وهو «رَبّ»، وليس في العربيّة ذلك الفعل الموصوف في الفرنسيّة والإنجليزيّة بالمسلوب (passif (passive؛ يقصد الفعل الذي سلبه المفعول به من الفاعل، والمؤلَّف من فعل «كان» واسم مفعول، يعقبهما ما كان فاعلاً في الجملة الأصليّة، مجروراً بـ «مِن» أو بالباء، نحو قولهم: كان فلانٌ محبوباً من الجميع. وهي صيغة يعترض على استعمالها في العربيّة عدد من اللغويّين؛ فقد نصّ الشيخ الغلايينيّ على عدم جواز «أن يُذكر في الكلام ما يدلّ» على الفاعل المحذوف، بعد بناء الفعل للمجهول. وممّن يقول بهذا الرأي أيضاً أكاديميّ من أعلام المجمعيّين المصريّين، وأحد أصدقائي الأكاديميّين اللبنانيّين المؤلِّفين في اللغة؛ وقد مُثّل على ذلك بنحو قول وسائل الإعلام :«أُحرق المسجدُ الأقصى مِن قِبَل الصهاينة»، عاديّن هذه الصيغة نقلاً حرفيّاً عن الفرنسيّة أو الإنجليزيّة. وقد أوجب الصديق الأكاديميّ ذكر الفعل المعلوم وفعله في جملة تالية، ليصبح النصّ عنده :«أُحرق المسجد الأقصى، أَحرقَه الصهاينةُ»، معتبراً ذلك ممّا أغفله النحاة.

لكنّني أجبت تلميذي بأنّ تلك الصيغة مستعملة بقدر لا بأس به في العربيّة الفصيحة، قبل نشوء اللغتين الفرنسيّة والإنجليزيّة التي نعرف بدهر، لكن بأسلوب يتفّق أحياناً وأسلوب تينك اللغتين، ويختلف أحياناً أخرى عنه، سواء كان في الجملة فعل مجهول أو اسم مفعول:

فأمّا ما ورد فيه فعل مجهول فالآية المذكورة آنفاً وأمثالها؛ وقولُ الطبريّ: «الوجوه التي من قِبَلها يُوصَل إلى تأويل القرآن»، وقول القُرطبيّ: «ومن قال: أَسألُ اللهَ الجنةَ، لم يُفهَم منه (...) إلاّ طلبُ الخُلد»، ونحو عبارة: أُصيبَ فلانٌ بالسرطان، وعبارة: أُعجب فلانٌ بفلانة أو شُغف بها؛ حيث الأفعال المجهولة هي: يوصَل، ويُفهم، وأُصيب، وأُعجب، وشُغف، التي يدلّ على فاعلها المحذوف ما أُضيف إلى «قِبَل»، وهو الهاء العائدة إلى وجوه، وأصله المفترض: توصِل الوجوهُ الناسَ إلى تأويل القرآن، كما يدلّ عليه المجرور بمِن في «مِنه»، وبالباء في «بالسرطان» و«بفلانة».

وممّا ورد فيه اسم مفعول حديثُ عُمر بن الخطّاب: إنّك «مُعصَّبٌ مِن ابنِ عمِّك»، ؛ وقول بِشْر بن المُعْتَمِر :«ويكون معناك مكشوفاً (...) إمّا عند الخاصّة (...) أو عند العامّة»، وقول الإمام مسلم في صحيحه :«خبرُ الفاسق غير مقبول عند أهل العلم»، وقول المتنبّي :«لكِ اللهُ مِن مفجوعةٍ بحبيبها»؛ حيث دلّ على الفاعل المحذوف ما جُرّ بمِن وبالباء أو أضيف إلى «عند».

وهكذا استُنتج الفاعل المحذوف افتراضاً، من العبارات أو المتعلّقات التوضيحيّة.

وهنا أربع ملحوظات:

الأولى: أنّ ما أوجبه الصديق الجامعيّ، ومثّل له بعبارات متعدّدة من التراث الأدبيّ، أسلوب فصيح مستعمل في القديم خاصّة، لكنّه ليس قاعدة؛ لأنّ الأسلوب الآخر فصيح أيضاً، ويغلب في الاستعمال القديم والمعاصر.

والثانية: أنّ ما سُمّي هنا فاعلاً ليس إلاّ افتراضاً؛ مثل خبر المبتدأ الذي يصبح خبراً للفعل الناسخ حين يدخل ذلك الفعل على الجملة الاسميّة، وقد يصبح حالاً إذا كان صفة نكرة ودخل على الجملة فعل تامّ، وقد يصبح مفعولاً به ثانياً إذا دخل على الجملة الاسميّة فعل من أفعال القلوب أو التحويل، إلخ. فتبديل التركيب يبدّل الحكم والمصطلح.

ومن ثمّ فإن الفعل المعلوم متخيَّل لا وجود له في العبارة، إلاّ إذا أعقب هو وفاعله الجملةَ الأصليّة للتوضيح أو البيان؛ وهو في ذلك مثل المجرور بالحرف أو بالظرف، أو بما أشبه ذلك، لكنّه يختلف عنه بأنّه بدلٌ، على حين أنّ المجرور متعلّق، دالّ على صاحب العمل. وقد لا يكون للمجهول أصل معلوم أبداً كالأفعال الملازمة للمجهول، مثل: أُهتِر، ونُتِجَت، وفُلِج، إلخ.

والثالثة: أنّ مصطلح المجهول لا يعني أنّ الفاعل مجهول بالضرورة، بل إنّ الصيغة الفعليّة اقتضت إغفاله، وأنّ حلول من وقع عليه الفعل مكان الفاعل المفترض، استوجب أن يكون له نفسُ الحكم الإعرابيّ الذي للفاعل، أي الرفع؛ لأنّهم تصوّروا للجملة الفعليّة أصلاً هو: الفعل المعلوم ثم فاعله، ثم مفعوله إن كان متعديّاً، إلخ. فإذا حُذف الفاعل وحلّ المفعول محلّه عدّوا الفاعل مجهولاً، سواء كان مجهولاً حقّاً أو معلوماً. والدليل على أنّه قد يكون معلوماً، الجملةُ التوضيحيّة التي تليه أحياناً، ويكون المراد حينئذ لفت الانتباه أوّلاً إلى الفعل ثمّ إلى من وقع عليه الفعل لفتاً تامّاً، لا يحقّقه التقديم والتأخير، ثم ذكر من قام بالفعل. فإذا لم يكن القائم بالفعل معروفاً، كأن يكون احتماليّاً، فإنّه لا يُذكر أبداً، كقول الآية الكريمة: أَفَإنْ ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ على أَعْقابِكُمْ . وذلك يوضح لماذا اختار القدماء مصطلح «ما لم يُسَمّ فاعلُه».

والرابعة: أنّ اللغويّين يجعلون العلم بالفاعل من أسباب حذفه بعد الفعل المجهول!

لذلك لا ينبغي التمسّك بحرفيّة المصطلح، لأنّ دلالة بعض المصطلحات قد تختلف جزئيّاً أو كليّاً عن المعنى الأصليّ لألفاظها؛ وحسبنا أن نذكر أنّ ما نسمّيه نائباً للفاعل يسمّيه الفرنسيّون والإنجليز فاعلاً للفعل المسلوب، وإن كانت صيغتهم تلك لا تكاد تُترجم إلى العربيّة إلا بفعل مجهول أو باسم مفعول. ونائب الفاعل، في العربيّة، أشبه بالفاعل في بعض الأفعال اللازمة التي لا يكون فاعلها فاعلاً على الحقيقة، مثل فعلي مات وعاش. بل إنّ بعض اللغويين يعربون المرفوع بالأفعال الملازمة للمجهول فاعلاً لا نائب فاعل.

وعوداً على بدء، فإنّ الفاعل المفترض حذفه بعد بناء الفعل المبنيّ للمجهول في آية: آمَنَ الرَسولُ بِما أُنزِلَ إليهِ مِن رَبِّهِ هو معلوم في الواقع، حتّى لو لم تُذكر عبارة «مِن رَبِّهِ»؛ وقد أَعلمَ به ما يسمّيه النحاةُ المفهوم أو المقام؛ بمعنى أنّ الذي أَنزل القرآن، في عقيدة المسلمين، هو الله ربّ الرسول وسائر العالمين، وذكرُ التنـزيل يُفهِم هوية المُنـزِل عفواً وبديهة، إلاّ إذا كان السامع أو القارئ جاهلاً للعقيدة الإسلاميّة؛ وقد جاءت عبارة «مِنْ رَبِّهِ» لزيادة التوضيح. وفي القرآن والشعر العربيّ كثير مما دلّ عليه المفهوم أو المقام دون اللفظ الصريح، وذلك معروف عند أهل الاختصاص.

فإذا كان استعمال الصيغة الأولى يكاد يقتصر على العصور القديمة، وكانت الصيغة الثانية مستعملة في القديم وغالبة في العصر الحديث، فإنّه يجب ترجيح الثانية على الأولى، وفق منطق التطوّر اللغويّ؛ لأنّ اللغة حياة.

 

 

 

مصطفى الجوزو