جمال العربية

جمال العربية

شعرية منصور الرحباني
«الضلع الثاني في مثلث الرحبانية»

«الرحبانية» صيغة فنية متكاملة، جمعت بين الأخوين رحباني: عاصي ومنصور، ومعهما سفيرة الغناء اللبناني العربي إلى العالم فيروز. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت هذه الصيغة الرحبانية في الكلمات والألحان والموسيقى والغناء تمثل أكبر ثورة فنية على مستوى العالم العربي كله. ومن صميم الهوية اللبنانية المحلية التي حملت عطر لبنان وجباله وينابيعه وضيعاته وألوانه ومروجه، كانت الانطلاقة العالمية، مرورًا بالهزة الوجدانية العربية، التي كانت الرحبانية بالنسبة لها دعوة إلى اليقظة والانفتاح على آفاق الجمال والحرية، والتغني بالحياة.

وظلت القصائد التي تغنت بها فيروز بالعربية وبالمحكية اللبنانية سرًّا لا يمكن الاقتراب من قدس أقداسه، والملايين تسأل: أيّ الأخوين هو الشاعر وأيهما الملحن والموسيقي؟ وكان الرد دائمًا أن كليهما شاعر وموسيقي، أحدهما يبدأ الكلمات أو اللحن والآخر يكمل، هما روح واحدة مشتركة توزعت في جسدين، وهتاف واحد انطلق من حنجرتين، ورسم بالكلمات والألحان، والصور والإيقاعات، أبدعته يدانِ اثنتان.

وظل الأمر على هذه الحال حتى بدأ منصور ينشر مجموعاته الشعرية التي تحمل اسمه منفردًا فكانت «بحار الشّتي» بالمحكية اللبنانية، و«القصور المائية» التي هي لون من الشعر المنثور أو ما يسمى بقصيدة النثر، ومجموعتان من شعر التفعيلة هما: أنا الغريب الآخر، وأسافر وحدي ملكًا.

أما القصائد التي تغنت بها فيروز على مدار تاريخها الفني الحافل فقد نشرها منصور باسم الأخوين رحباني، وهي الصيغة التي تذاع بها القصائد منذ بدأ مشوارهما الإبداعي حتى اليوم.

ما الذي كان يهدف إليه منصور الرحباني من وراء نشر هذه المجموعات الأربع؟: أن يكشف عن حجم شعريته وشاعريته؟ أن يقول بشكل واضح إنه هو الشاعر وراء الكثير مما تغنت به فيروز من كلمات هي بمنزلة ثورة تجديدية في عالم التأليف على مستوى الأغنية المنفردة والصورة الغنائية المركبة والمسرحية الغنائية؟ أن يزيل الستار عن السرّ الذي ظل ملغزًا بالنسبة لكل المتسائلين عن دوْر كل من الأخوين في صناعة صيغة «الرحبانية» بعد أن رحل عاصي عام 1986 وبقي منصور وحده يملأ الساحة بأعماله التي أودعها كلماته وألحانه على مدى عشرين عاما في اثنتى عشرة مسرحية غنائية هي: صيف 840، الوصية، آخر أيام سقراط، أنطولوجيا رحبانية، وقام في اليوم الثالث، أبو الطيب المتنبي، ملوك الطوائف، آخر يوم، حكم الرعيان، جبران والنبي، زنوبيا، وعودة الفينيق؟

أيًّا ما كان الأمر، في حقيقته وفي جوهره، فإن منصور الرحباني من خلال هذه الدواوين الأربعة يتقدم إلى قارئه اللبناني والعربي شاعرًا كبيرًا متلفعًا بعباءة الرمزية التي تمثلت في الدواوين الأولى لشاعر لبنان الكبير سعيد عقل، والروح الوجودية التي تجسّدت في شعر منصور موقفًا من الإنسان والحياة والكون ومدًى للتأمل العميق والفكر الفلسفي وفضاء لإشراقٍ صوفي يردّ الكون إلى عناصره الأولى ثم يعيد تشكيله من جديد. وبهذا الموقف الشعري والفلسفي يصبح منصورًا امتدادًا له هويته اللبنانية والعربية للشعر الفرنسي وللحركتين الرمزية والوجودية في فرنسا.

يقول منصور:

يا حبيبي
كلّ ما في الصمت نادى
ومضى الموج وعادا
وأنا في موج عينيك
شراع يتهادى
سقط الليل عليّا
وتمادى
كاد أن يجعلني الليلُ سوادا
يا حبيبي
عند أبواب المدينة
ينتهي النسيان
وأنا والليلْ
أنا والقرصانْ
والمحبون على أرصفة البحر
بحار من سكينة
تركوا الشارع يبكي
تركوا الأرض الحزينة
والمصابيح الحزينة
أبحروا .. صاروا سفينة
أتُرى نحن «الـ هرْبنا»
أم تُراها هربت فينا المدينة؟
يا حبيبي
وتعالْ
إن أيامك عطرُ
وانتظاري لك خمرُ
ليس بالسكْر ولكن فيه سُكْرُ
ليس بالنهر ولكن فيه نهرُ
له في القلب هدير
في الهنيهات هديرْ
فتعالْ
قبل أن ينهزم الليل
وتنهار الظلالْ
قبل أن يحرقني بردُ الرمالْ
قبل أن أغدو محالْ
قبل أن أهرب من عينيْ حبيبي
يا حبيبي

هذا الذي يخشى أن يحرقه برد الرمال وأن يغدو محالا ليس شاعرًا غنائيًّا بالمعنى التقليدي، وإنما هو شاعر ما وراء المقروء والمنظور، شاعر البنية العميقة وراء هذا النص البديع، الذي ينساب كالنهر الرقراق، لكنه الانسياب الموجع، لأنه يمارس الرمز بمفرداته وصوره وعالمه الشعري أولا، ولأنه يدخلنا في أتون الموقف الوجودي المتوحد في وجه العالم من ناحية أخرى.

وفي قصيدته «مطر الرصاص» التي تقدم وجهًا من وجوه المأساة الحياتية والوجودية والكونية في مدينة «بيروت» يقول منصور:

إليك يا من تسكنين
في الهاتف الليليّ، في الرنينْ
هذي الكتاباتُ،
وهذا الشوق والحنينْ
تساقط الزمان في أثوابنا
صرنا الينابيع وعشْبِ الأرضِ
صرنا العمر والسنينْ
ما بيننا الرجالُ والحواجزُ
ما بيننا يُزوبع القنّاصْ
يا مطر الرصاصْ
آتٍ أنا
يا مطر الرصاصْ
وجهيَ مثل البرق يأتي
من وطني الممنوع
من مطارحَ محجوزة
حيث السماءُ والتماعُ النار
كأنها سيوفُنا القديمة
مرتفعًا فوق المتاريس
أجيء كلّ يوم
قبل النوم
أملأ أيامك بالصراخ
أسكب في عينيك أحزاني
بالحب آتي
بهموم الغارْ
بكذب الأشعارْ
هديتي؟
ماذا هداياي سوى الغبارْ
رأيتهُ وجْهَكِ
تحت رايةٍ منهارةٍ
يا أنتِ، يا وطنيَ المنهارْ
كيف يجيء صوتك الفضيُّ
يا صديقتي في الليل؟
أية درب تسلك الحمامة الصوتية؟
يا سهرة طويلةً
دارت على الخط الذي
يعبر بين الخوف والمقاتلينْ
ما بينهم
تنزهت ضحْكاتنا
لم يسمعوا الهمسَ
لم يسمعوا البؤسَ
ولا الحنينْ
الآن طاب الصمت، فلترتفع القنابلْ
مدينتي ماتتْ، ولم تزلْ تقاتلْ
يا امرأةً كلّية العذوبة
مَنْ تطلبين لم يعدْ هنا
يعودُ؟
لا ندري متى يعودْ
قد رحلت أشياؤه الثمينة
ضِحْكتهُ الحزينة
فانتظري
مسيح عينيك الذي
يأتي إلى قيامةِ المدينة!

ويقول في مقطوعة قصيرة جدًّا عنوانها «صمتُ الحجر»:

أنتِ في البال زمانُ القمرِ
سفر يبكي
قبيْل السّفرِ
المحبون غدًا صحبتُهم
غربةُ النجم
وصمتُ الحجرِ

في كتابه «الأخوين رحباني: طريق النحل» ينقل الشاعر اللبناني هنري زغيب عن منصور قوله: «تشرّدنا في منازل البؤس كثيرًا، سكنّا بيوتاً ليست ببيوت، هذه هي طفولتنا». وبعد وفاة الوالد اضطر منصور إلى خوض معترك الحياة الصعب مبكرًا فعمل في سلك بوليس بيروت العدلي وهو في عمر السابعة عشرة.

ويقول منصور في أحد حواراته: بالنسبة إلى الموسيقى والغناء، كنا أنا وعاصي في بداياتنا نستمع إلى كثيرين من أمثال سيد درويش وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهم. تفاعلنا مع هؤلاء، بالإضافة إلى أن الأب بولس الأشقر علّمنا الموسيقى الشرقية، والأهم من ذلك أننا نعيش في منطقة غنية بالأعمال الموسيقية مثل الموسيقى العربية والتركية والبيزنطية، بالإضافة إلى علوم الموسيقى الغربية وعلم التأليف. ذلك كله شكّل خزانًا كبيرًا غرفنا منه وتفاعلنا معه. لكننا لم نقع في التقليد. لم نذهب شرقًا ولا غربًا. أعطينا صيغة الأخوين رحباني. كنا نحن، لا أحد يشبهنا أو نشبهه».

وما ينطبق على قول منصور عن دور الرحبانية الموسيقي ينطبق على شعره. لقد عايش جيل شعراء الشام العظام: الأخطل الصغير بشارة الخوري وإلياس أبو شبكة وسعيد عقل وأمين نخلة وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل وغيرهم، لكن شعره ليس امتدادًا لأحد منهم ولا يشبه شعرهم. ثقافتاه: العربية متغلغلاً في أدق أسرار النسيج الشعري العربي والغربية متفاعلاً مع روائع الشعر الرمزي الأوربي وكنوز الأدب الوجودي، شكّلتا من وجدانه عالما متفردًا يبدع كلمته وصورته وسمْته بعيدًا عن التشبّه أو المحاكاة، فكان صوته في الشعر كصوت الرحبانية في الموسيقى، جديدًا ومغايرًا، وفاتحًا لنوافذ من طراز جديد، على فضاءات جمال لا ينتهي، وكشوف أعماق ليس لها قرار، وإشراقات نفْسٍ ترتطم بالحدود متجاوزة إلى اللا محدود، ونبضًا وطنيًّا قوميًّا عارمًا في وجه الطغاة والمستبدين ومغتصبي الأرض العربية في كل موقع عربي.

يقول منصور:

مرتفعًا كالراية وجهي
ينظر في الآتي
أيام الحزن اقتربت
أدركْنا زمن الدمع
فليحسن بين يديك وقوفي
بشراكة سرّ الماء القائم
بين البحر وبين النبع
ما بين النار ووهج النار
بلّغني أين يصلي الليلُ
وأين تقام طقوس الزائل
الصيفَ الصيْفَ هتفْنا
والطفل التموزيُّ تغلغل في البلّوط
وبين القمحِ
تمدّد فوق البيدر
السهلُ تذهّب
والأطيابُ ارتفعت
فلنحضر
بثياب حصادٍ،
فلنحضر
من أبواب الله
ومن مدنٍ لم تولد

ويقول منصور في قصيدته البديعة لغةً وإيقاعًا وصورًا يشتبك فيها الرمز بالتوحد الوجودي والقلق الكونيّ:

سُكناي في مطالع القصائد
شمسُ الينابيعِ .. أنا
شعائرُ الصيفِ .. أنا
وكلّما تحطمت ريحٌ على بحرٍ .. أنا
لي في الهنيهاتِ مجيءٌ، ولي انقضاءْ
أحضرُ في الترابِ، في الأعشابِ،
في أجنحةِ الطيرِ، وفي الهواءْ
أرحل في الترابِ، في الأعشابِ
في أجنحةِ الطيرِ، وفي الهواءْ
أنا هو التحوّلاتُ والجذورُ والأعماقْ
رأيت كلّ لحظةٍ،
سمعتُ كلَّ همسةٍ
سكنْتُ في التعاطف الخفيَّ
بين الحزنِ والأوراقْ
بين الطيرِ والسْفر
سكنْتُ بين الصمتِ والنعاسِ والقمر
رأيت دمع صخرةٍ
وجِعْتُ معْ سوسنةٍ
قطفها الصبيُّ في الحديقة
أنّت كما
نئنُّ نحن
ماتت كما
نموتُ نحنُ
منذ متى؟
منذ البداياتِ أنا صحوت
يندهني الصوتُ
أُلبّي الصوت
توجُّهي الوجود
في حيثما تندفع العناصر
وامرأةٌ
تتبعني كالموت
حتى الموت!

برحيل منصور الرحباني عن ثلاثة وثمانين عامًا والعالم العربي في قلب المأساة/ الملهاة، وغزة تحترق، والمدّ الصهيوني يواصل اختراقه ويحكم سيطرته تنفتح أمامنا من جديد صفحات دواوينه الأربعة، نقرؤه كما لم نقرأه من قبل، ونتحاور معه كما لم نتحاور من قبل، ونستشرف حكمته ونبوءاته ونذره وبُشرياته، متكئين على دواوينه وعلى صوت فيروز الأثيري، وعظمة الإنجاز الشعري واللحني والموسيقي للأخوين رحباني.

 

 

 

فاروق شوشة