قضية تربية متغيرة لعالم متغير علي وطفه

قضية تربية متغيرة لعالم متغير

هل أطفال اليوم أكثر صعوبة وأشد عنادا من أطفال الأمس؟ ولماذا يميل أطفال اليوم إلى المشاكسة والعنف وكثرة الأسئلة؟ ولماذا يرفضون أيضا بعض القيم والمبادئ التي تشربناها وتمثلناها؟ إننا لا نملك في نهاية إجابة عن هذه الأسئلة سوى مشاعر الحزن والأسى والأسف على أيام زمان، يوم أن كنا أطفالا.

الدهشة التي تعترينا عندما ننظر في أطفال اليوم في سلوكهم ومواقفهم وطبيعة استجاباتهم التي لم نعرفها في أيام طفولتنا ليست بالأمر الجديد فهي مسألة تضرب جذورها العميقة في تاريخ الإنسانية فكل جيل من الأجيال المتلاحقة قد خبر هذه التجربة التي تتعلق بملاحظة التباين بين الأجيال، بين الآباء والأبناء.

لقد كان لحكماء العرب أن يدركوا بعمق أهمية الظرف المتغير في التأثير في طبيعة الناس ويكمن ذلك في الحكمة العربية التي تؤكد الظرف والتغير: "ربوا أولادكم على غير أخلاقكم فإنهم ولدوا لعصر غير عصركم ولزمان غير زمانكم". ولقد برزت هذه المسألة في عصر النهضة في البلدان الأوربية كإشكالية تربوية ويتجلى ذلك في النقد الذي يوجهه الأسباني "ج ل فيفي" أحد كبار المفكرين التربويين في عصر النهضة في تربية الفتيات وسلوكهن في عصره واللواتي كن يتجملن بالدهون والمساحيق والعطور لجذب إعجاب الرجال وكان يرى في ذلك تناقضا مع التعاليم الدينية المسيحية ومع القيم التربوية لعصر طفولته وشبابه.

ولم يكن لهذه الدهشة، التي تعتري كل جيل من أجيال الراشدين إزاء صغارهم، أن تطرح نفسها قديما كما تطرح الآن في عصرنا - عصر التغيرات التكنولوجية السريعة - كإشكالية تربوية لا غاية الأهمية والخطورة. وبالتالي فان درجة الأهمية التي تطرح فيها هذه المسألة مرهونة بوتيرة التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية ومدى حدتها. في العهود القديمة لم يكن التباين بين الأجيال يطرح إشكالية تربوية. وذلك يعود إلى طبيعة التغيرات الاجتماعية البطيئة والمتكاسلة.

في العصور الحديثة تؤدي التغيرات التكنولوجية السريعة والمتلاحقة إلى تغيرات مماثلة في بنية التصورات والمفاهيم وطرق التكيف، وهذا بدوره ينعكس على المسألة التربوية ويطرح ضرورة البحث عن مناهج جديدة وطرق جديدة قادرة على احتواء هذه التغيرات وتمكين الأطفال من أشكال جديد للتكيف مع طبيعة العصر المتغير. فالتغير يجرى بوتائر سريعة جدا وينعكس على أنماط السلوك والأفكار عند الناس صغارهم وكبارهم. وهذا يعني أن هذه التغيرات تحدث في الظروف وفي الناس قبل أن تنعكس على النظام التربوي. فتأثير التلفزيون في نمط التفكير والسلوك عند الأطفال يتم بشكل مباشر دون توسط العملية التربوية، والنظام التربوي لم يستطع حتى هذه اللحظة احتواء هذه التجربة التكنولوجية الجديدة.

تقديس الماضي

أن تمجيد الماضي في شخص أجياله السابقة يمكن أن يعود إلى ميلنا لتقديسه ورفعه إلى درجة النموذج والمثال. ونحن لا شعوريا نميل إلى تمجيد أنفسنا بوصفنا المخلوقات الملائكية في مراحل طفولتنا وذلك أمر طبيعي جدا عندما ندرك أن مرحلة الطفولة التي عشناها بشجونها وأفراحها ودعاباتها هي أجمل مراحل الحياة عند الإنسان. ونحن عندما نميل إلى استعراض ذكريات الطفولة فهي الذكريات الجميلة التي تطفو وتحلق في أجواء خيالنا، فنزعة التمجيد الماضوية هي نزعة الإنسان الشعورية أو اللا شعورية إلى تقديس طفولته وتمجيدها.

في الأجيال الحاضرة كما في الأجيال السابقة هناك أطفال مرحون، وأطفال مشاكسون كسالى، وأطفال نشطون وأذكياء، وهناك الأطفال الذين يميلون إلى الشدة والعنف.

وإذا كان ذلك هو واقع الحال فان الميل إلى تقديس الماضي وإعلاء شأنه يمكن آن يفسر كردود فعل تجاه الصعوبات التي نواجهها في تربية أطفالنا وفي توجيههم ونحن عندما نخفق وحين لا نستطيع ان ندرك أسباب إخفاقنا الحقيقية في تربية أطفالنا ننزع إلى النكوص الماضوي آملين في ان نجد فيه تفسيرا وهميا. وفي كل حال لا يبقى أمامنا سوى أن نضع الأجيال الحاضرة في قفص الاتهام وأن نحكم عليها بالقصور والعدم لنبرر لأنفسنا ما اعتراها من قصور وفشل في القدرة على فهم الظروف التي تحيط بأطفال اليوم وناشئته ومن ضعف في إيجاد البدائل التربوية الممكنة التي تتيح لنا ان نأخذ زمام المبادرة في توجيه أطفالنا نحو بر الأمان.

صراع الأجيال

مما لا شك فيه ان التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية الكبرى المتلاحقة والمتواترة قد أدت إلى تكوين نظام جديد من المفاهيم والتصورات والأفكار والقيم التي تختلف وكثيرا ما تتعارض مع القيم والمفاهيم والتصورات التقليدية القديمة. وتكمن الأزمة التربوية في وجود أنظمة ثقافية متعددة على وجه الخصوص. وتتجسد قيم الثقافة التقليدية أكثر فأكثر كلما توجهنا صعودا في سلم الأجيال القديمة التي تتمثل بمجتمع الآباء والراشدين بينما تميل قيم الثقافة المعاصرة إلى الحضور بدرجة أكبر كلما توجهنا تدريجيا نحو الأجيال الصغيرة على المستوى العمري أي عند الناشئة والأطفال.

ينعكس التباين الثقافي بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات الحديثة على بنية المفاهيم والتصورات التي يحملها الأطفال في كل مجتمع. ومن الأمور المهمة التي تشكل إطارا موضوعيا لما نشهده من تباين بين الأجيال ما يكمن في وحدة المصادر الثقافية وتنوعها، ففي المجتمع التقليدي الذي ينتمي إليه بعضنا وآباؤنا نلاحظ أنه يتميز بالتجانس الثقافي ووحدة المصادر الثقافية وهذا بدوره يؤدي إلى وجود أنماط ثابتة ومتجانسة من السلوك والقيم والاتجاهات والعادات والتقاليد بين أفراد الجماعة. وعلى العكس من ذلك نجد درجة عليا من التنوع والغنى والانتقائية في تبني أنماط مختلفة من السلوك والاتجاهات والقيم.

ويعود ذلك كله إلى التنوع والغنى في الأنماط الثقافية وفي المثيرات التربوية والى تعاقب الموجات الجديدة للتغيرات التكنولوجية التي تحمل معها أنماطا جديدة من أساليب العمل والتفكير والقيم الثقافية ويحدث لنا أن نجد عند أطفالنا بعضا من القيم الثقافية وبعضا من الاتجاهات التي لم يسبق لنا ان عرفناها والتي تتناقض مع هذه التي تمثلناها، وعندها ينشأ الصراع بين الآباء والأبناء وترتفع الحواجز أمام صيغ التفاهم والحوار الموضوعي.

الأزمة التربوية

يجدر بنا عند تحليل المسألة التربوية أن نأخذ في اعتبارنا ثلاثة محاور أساسية وأن نسعى إلى تحليل طبيعة العلاقة القائمة بين هذه المحاور:

أولا: المربون، وهذا يعني جملة القائمين على العملية التربوية من آباء وأمهات ومعلمين.

ثانيا: المتربون، ويمثلون مجتمع الأطفال والناشئة والشباب وكل هؤلاء الذين يحتاجون إلى المساعدة من اجل نموهم وتكيفهم.

ثالثا: الوسط، ونعني به العمليات التي تتم بين المربي والمتربي كالوسط العائلي والوسط المدرسي، فالوسط هو الإطار الذي يضم أيضا كل ما يمكن مشاهدته ولمسه أي كل ما يجري تحت بصر الأطفال وسمعهم في الشارع وفي المنزل وفي المدرسة. فالعملية التربوية هي لقاء تفاعل بين هذه العناصر المختلفة، فالمربون يعملون على مساعدة التربين في الوصول إلى حالة التكيف التي يقتضيها الوسط الاجتماعي، وهم يتبنون لتحقيق ذلك أنماطا من الفعاليات التربوية والثقافية التي تعلموها أيضا في إطار حياتهم ووسطهم الاجتماع. إن الطرائق التربوية التي يعتمدها المربون في عملهم غالبا ما تنتمي إلى الأطر المرجعية الثقافية التقليدية لعهد طفولتهم وصباهم، وهي في أكثر الأحيان تتسم بكونها طرقا وأساليب تقليدية لا تنسجم مع طبيعة العصر وطبيعة التغيرات الجارية فيه. وهنا تكمن عقدة المسالة، وذلك عندما يعتقد هؤلاء المربون بكفاية الطرائق القديمة وعندما لا يأخذون بعين الاعتبار آثار وتنوع التغيرات الاجتماعية الجارية على حياة الأطفال التربوية والفكرية.

لماذا نربي؟ ما غايتنا التربوية؟ ما وسائلنا؟ أسئلة يجب ان يطرحها كل مرب، ولكن السؤال الحيوي الذي يطرح نفسه بقوة هو: كيف نحقق الانسجام بين الغايات والوسائل؟ وفي الوقت الذي نستطيع فيه ان نجد الإجابة الموضوعية الواعية عن هذه التساؤلات يمكن لنا أن نمضي من اجل دفع العملية التربوية نحو تحقيق التكامل والازدهار في نفوس الأطفال والناشئة. لماذا نربى وما الهدف من التربية؟ ببساطة نحن نربي من اجل ان يتكيف أطفالنا مع وسطهم الاجتماعي وأن يصبحوا قادرين على اكتساب الهوية الاجتماعية في ميادين العمل والإنتاج. وبعبارة أخرى يمكن ان نقول نحن نربي أطفالنا من اجل ان نحقق لهم السعادة في حياتهم الاجتماعية الآنية والمستقبلية.

والسؤال الثاني هو: ما الذي نريد نقله إلى أطفالنا من خلال العملية التربوية؟ ما نريد نقله هو الثقافة السائدة في المجتمع الذي نعيش فيه ولكن ما هي وسائلنا وطرائقنا في نقل الثقافة وفي تربية الأجيال؟ هنا تكمن معضلة ما نبحث عنه وما نسعى إلى تقصيه.

تشير الملاحظة الدائمة إلى ان جميع المربين يسعون إلى تحقيق السعادة للأطفال والمتربين.

ولكنهم يختلفون في تحديد نوع الثقافة التي يريدون نقلها إلى الناشئة ويختلفون في تحديد الطرائق والمناهج والأساليب التربوية المناسبة لنقل الثقافة القائمة.

الوعي التربوي

لكي تكون التربية من أجل أطفالنا وليست من أجلنا نحن، من اجل ان تكون تربية لعصرهم وليس لعصرنا تتجلى أهمية الوعي الشامل لطبيعة العصر عموما والوعي التربوي على وجه الخصوص، فالعملية التربوية لم تعد كما كانت في عهود سابقة نوعا من السلوك العفوي البسيط الذي يمكن لنا ان نمارسه في إعداد أطفالنا. إنها اليوم عملية تتصف بدرجة عليا من الدقة والتعقيد والخطورة. ونحن نحتاج اليوم إلى قدر كبير من الثقافة التربوية كي يتاح لنا ان نمارس فعلنا التربوي دون مخاطر وانعكاسات سلبية على نمو أطفالنا وناشئتنا.

ويمكن لنا أن نؤكد، في سلم الأولويات نحو وعي تربوي يجنبنا ويجنب أطفالنا الوقوع في مطب الإشكاليات التربوية الحادة، ان نؤكد أهمية النقاط التالية:

أولا: يجب ان ندرك أن العصر الذي يعيش فيه أطفالنا يختلف عن العصر الذي أحاط بطفولتنا على مستوى القيم والمفاهيم والتصورات..

ثانيا: يجب علينا ان نعي ان الطرائق التربوية التقليدية لم تعد صالحة ومشروعة في تربية أطفال اليوم وعلينا أن نعرف الجديد والمستجد في المناهج التربوية الحديثة والمتطورة التي تنسجم مع طبيعة العصر وروح الحياة المتغيرة والمتجددة.

ثالثا: يجب علينا أيضا ان نعي تأثير المثيرات "التربوية الجديدة والتي تتعلق على الأرجح بوسائل الإعلام من راديو وتلفزيون وصحف ومجلات وفي قدرة هذه الوسائل على تشكيل القيم والاتجاهات التي تتباين مع ما تعلمناه ومع ما طبعنا عليه.

رابعا: كما يجب ان نأخذ بعين الاعتبار أن مظاهر التباين والاختلاف بين قيمنا واتجاهاتنا وهذه التي يحملها أطفالنا هي نتاج طبيعي لجملة التغيرات الجارية عبر الزمن ولجملة المثيرات الثقافية الجديدة التي تموج تعددا وغنى وتنوعا في عصر التكنولوجيا الحديثة.

خامسا: إن الإقرار بجهلنا لما يجري حولنا يمثل منطلقا تربويا يتصف بالموضوعية وأن سعينا الدائم للبحث عن الأساليب الحقيقية لسلوك أطفالنا من شأنه ان يمنحنا القدرة على تحقيق النجاح في تربيتهم وفي تحقيق نموهم وكمالهم.

سادسا: إن مبادئ الحرية والتسامح والعقلانية والتفهم والوعي والديمقراطية قد أصبحت مبادئ العصر ومبادئ كل عمل تربوي خلاق يتجه نحو تفجير الطاقات وصقل المواهب وتحقيق النمو السليم عند الناشئة والأطفال... فأطفال اليوم يطالبون بالعدالة المساواة والحجة وهم لا يستطيعون قبول الأشياء على عواهنها بل يسيرون على مبدأ عقلانيتها. وعدالتها وهذا أمر تشير إليه الملاحظة اليومية الدائمة.

سابعا: يجب ان نضع في اعتبارنا أهمية وضرورة تنمية وعينا التربوي في كل مناسبة وفي كل حين وأن نخضع تصوراتنا الماضوية للنقد والتحليل وإعادة النظر.. لان الاكتفاء بما لدينا من معرفة تربوية يعني في نهاية المطاف التحجر والعزلة والاختناق.

وأخيرا: ان ننطلق في كل عمل تربوي من مبدأ التربية لزمن متغير.. فالتربية اليوم ليست للتكيف مع ما هو قائم فحسب بل يجب ان تكون تربية متغيرة قادرة على احتواء الجديد وتمثله في حركة في دائمة لا تنقطع والحكمة في ذلك ان نمنح أطفالنا قدرة متجددة على التكيف مع الجديد وتمثله دون الوقوع في الأزمة التربوية التي نعاني منها اليوم، فالمفاهيم والتصورات والقيم التي تشربناها في طفولتنا تقع في إطار المطلق والغائية والشمولية، وهي بوصفها كذلك قادتنا إلى نوع من الجمود والتقوقع وأسقطتنا خارج مسار الزمن ودورته، وكرست فينا إحساسا عميقا لمسناه بالغربة والاغتراب عن روح العصر الذي نعيش فيه.

 

علي وطفه

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




تربية متغيرة لعالم متغير





نحتاج لتربية تتكيف مع روح العصر