دكتور تركي الحمد وزكريا عبدالجواد

دكتور تركي الحمد وزكريا عبدالجواد

عبر مؤلفاته وأبحاثه ومقالاته العديدة ظل الهم الثقافي العربي شاخصا, لذلك كانت دعوته الدءوب إلى إعادة الإنتاج من جديد سواء في الأسئلة المفتوحة أو في الإجابات المقترحة, والانتقال منها إلى تشريح الحالة الثقافية واستخلاص العبر من مشهدها للإفاقة, والنهوض.هكذا يواصل الكاتب وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود الدكتور تركي الحمد مشروعه الفكري الذي بدأه بكتاب (الحركات الثورية المقارنة) عـام 1986, واستمر فيه من خلال كتابه الثاني "دراسات أيديولوجية في الحالة العربية" عام 1991, ثم كتاب (الثقافة العربية أمام تحديات التغيير) عام 1994, وحتى كتابه الذي أصـدره عـام 1996 تحت عنوان (عن الإنسان أتحدث), قبل أن يفاجئنا بمشروعه الروائي (أطياف الأزقة المهجورة) الذي يتوزع على ثلاثة أجزاء أصدر منها حتى الآن (العدامة) ثم (الشميسي) في عام 1997. وهنا.. يحاوره على الطرف الآخر الزميل زكـريا عبد الجواد المحرر في مجلة (العربي).

  • في ظل هذا الخـلـط الذي يعتري حالتنا الراهنة, إلى أي جانب تنتمي ثقافتنا العـربية.. التسامح أم العنف؟

ـ ليست هذه ولا تلك, فنحن من يجعلها عنفاً أو تسامحاً. إطلاق أحكام عامة على هذه الثقافة أو تلك مسألة في غاية الخطورة, إذ إنه ليس هناك ثقافة كلها تسامح أو كلها تعصب وعنف. الثقافة نتاج ممارسة اجتماعية وتاريخية معينة, وبالتالي فإنها مثل ذات الممارسة, قد تكون تسامحاً في هذه المرحلة, وقد تكون تعصباً وعنفاً في تلك المرحلة. بمعنى أنها متأرجحة مثلاً بين: (لا إكراه في الدين), وبين: (فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان), فالإنسان وممارسته واختياره وقراءته لثقافته, هو المحك في كل ذلك. فالثقافة الغربية مثلاً, أنتجت الليبرالية بمثل ما أنتجت الفاشية. وفلسفة مثل فلسفة هيجل مثلاً, أفرزت أيديولوجيات شمولية, بمثل ما أنتـجت تيارات ليبرالية. والثقافة العربية الإسـلامية بمثل ما أنتـجت الخوارج وفكرهم, وتنتج الـيوم الأصولية الجزائرية ونحوها, فإنها أنتجت أيضاً المرجئة والمعتـزلة ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وغيرذلك. القضية هي قضية القراءة المعرفية المناسبة في الظرف المناسب. المشكلة هي عندما تؤدلج الثقـافة المشتـركة لجماعة معينة, لتبرير هذا الهدف أو ذاك الخاص بجماعة أصغر ضمن الجماعة الأكبر, فتتحول ثقافة الجماعة الأكبر إلى حكر للجماعة الأصغر. أما الثقـافة ذاتها, فهي كما تقرأ, وكما يراد بها في هذه المرحلة أو تلك, فهي حمالة أوجه وليست وجهاً واحداً فقـط. وبالتالي فإن السؤال هو: هل نبحث عن عوامل التعصب والعنف في ثقافتنا, أونحاول قراءتها تسامحياً؟

الثقافة الأخرى

  • ولكن هذا الرد يدعونا لتساؤل آخر عن سبب العداء للآخر, ورفض ثقافة الغرب عموماً؟

ـ هـي أسبـاب كثـيرة تتجمـع لتنتج الشخصية العدائيـة في هـذا المجال. ولكني أعتقد أن الخوف وعدم الثقة بالذات هما الإطار الذي يجمع كل العوامل المنتجة للشخصية الرافضة دون طرح بديل عملي وملائم. الخوف من ضياع هوية نموذجية متعالية ومرسخة في الذهن دون السلوك. الخوف من فقدان ذاتية وثقافة متعالية لاتمارس, وإن كانت مسيطرة على الذهن العربي في ازدواجية واضحة وعجـيبة. وعـدم الثـقة في القدرة على مجابهة ثقافة قادرة على التأثير على أدق تفاصيل السلوك, في مقـابل ثقافة تعيش في أروقة نخبوية. فالرفض العربي للآخر هو رفض شكلي وسطحي, أو هو عبارة عن ردة فعل وجدانية, في مقابل القبول الفعلي حين الحديث عن السلوك الفعلي, إنها الازدواجـية المتحـدث عنها.

  • إذن لماذا يحاول العربي أحيانا فض مشاكله عن طريق العنف والهيمنة والتهديد بهما؟

ـ العنف مؤشر على عدم القدرة على التأثير الواسع مجتمعياً, وخلق قاعدة اجتماعية واسعة لما هو مطروح. والعنف ورفض الهيمنة, مؤشران على عقلية الحقيقة الواحدة واللون الواحد. والعنف مؤشر على توتر وتشنج في الشخصية العنيفة. اجمع هذه العوامل, وستحصل على إجابة مرضية نسبياً. والحديث هنا ليس حين يكون العنف رد فعل لعنف آخر, أو حين يكون حادثة منفصلة, سواء كان تاريخياً أو اجتماعياً, بقدر ما هو حين يكون العنف ظاهرة ملحوظة ومتكررة بشكل نمطي, ووسيلة رئيسة, أو حتى الوسيلة الرئىسة, لتحقيق الأهداف.

  • هل أنت مع القـول بأن الذهنية العربية تخـاف من الحركة والتغيير والتقدم؟

ـ نعم.. لسببين أساسيين. الأول هو أن مفهوم الثبات والسكون قد رسخ تاريخياً في هذه الذهنية, وذلك لأسباب سياسية واجتماعية تطول مناقشتها. بحيث إن مفهوم الثبات والسكون أصبح جزءاً من بنية الثقافة العربية التقليدية, وعاملاً من عوامل تعاليها ونخبويتها وعدم تفاعلها اللاحق مع المتغيرات. فتحول التغير في هذه الثقافة إلى مؤشر فساد وشر, وليس خيرا وتقدما. والثاني هو خوف العربي من المجهول, نتيجة المؤثر الثقافي السابق, ونتيجة تجارب تاريخية, قديمة ومعاصرة, استقرت نتائجها السلبية في الوجدان الجمعي بحيث جعلت الخوف من التغيير هو الأساس. كما أن حس المبادرة والمغامرة, الذي أعتقد أنه يقف بشكل رئيس وراء انبثاق الحضارة الغربية المعاصرة, مفقود في العقل العربي المعاصر, على افتراض أن هناك عقلا عربيا معاصرا.

التفسير التآمري

  • ولكن هل تعتقد أن ذهنية المؤامرة ترسخت في العقل العربي الحديث؟

ـ إلى حد كبير نعم, وخاصة لدى القطاع العريض من المجتمع الذي من خلاله تقاس قوة المفاهيم وترسخها, وأثرها على التفكير والسلوك. فالمؤامرة دائماً موجودة, بشكل أو بآخر, جزئىاً أو كلياً, في كل حادثة كبرت أو صغرت. فمن العلاقة بالغرب, إلى العلاقة بإسرائيل, مروراً بمصرع ديانا ودودي, تطل المؤامرة برأسها دائماً, مرة على استحياء, ومرة دون لف أو دوران. ولعل في التفسير التآمري الأخير حول الحوادث الأخيرة دليلا على استمرارية عقلية التفسير التآمري على العقلية العربية, التي تبحث في دوائر الخارج عما لاتستطيع تفسيره أو تقبله في الداخل.

  • كيف السبيل إذن إلى زرع مفهوم التعددية, هل يجب أن نمر بتجارب مدمرة كي نقتنع بجدواها؟

ـ ما مر بنا من تجارب في تاريخنا المعاصر (انقلابات دموية, حروب أهلية, عصابات تعصب مسلحة, إرهاب منظم, غزو مسلح في ملحمة قابيل وهابيل مستمرة.. إلخ), كاف لإقناع كل ذي عقل حصيف أن التعددية هي الحل, وهي الإطار الذي من خلاله يتنافس المتنافسون. فالتجارب العربية الدموية المعاصرة تتفوق على التجارب الأوربية السابقة في أثرها المدمر, مأخوذاً في الاعتبار متغـيرات الزمـان والمكان, وليس مجرد حجم التجارب والأحـداث, أو مداها الزمني. ولكن السؤال يبقى: هل هناك عقل حصيف يستفيد؟ بل هل هناك عقل من الأساس؟ أما زرع مفهوم التعددية في العقل العـربي, فلا يكون ذلك إلا من خلال جهد فكـري ومعرفي عام, مستفيداً من التجارب العـربية الدموية الحديثة, يسعى إلى إحلال النسـبية محل الإطلاق, وقيمة الفرد في مقابل المجموع, والعقلانية في مقابل الأيديولوجيا, والمجتمع في مقابل السلطة. باختصار, العمل على تغيير الفرد قبل الجماعة, والبدء من المجتمع قبل السلطة. قد يكون مثل هذا الجهد طويلاً ويحتاج إلى صبر, ولكنه البديل الوحيد لسلسلة تجارب السلطة والانقلاب عليه والبدء من الصفر دائماً. فإذا العقل ذاته ومفاهيمه لم يتغير, فإن أي جهد آخر لايجدي.

تعايش النقيضين

  • هل تعتقد أن بإمكان المثقف المواءمة بين الحلم والواقع, ووفق أي شروط؟

ـ الانغماس في الواقع وحده سلبية تفتقد حس المبادرة الخلاق. والانغماس في الحلم وحده يفتقد دينامية الحياة. فالحياة واقع وحلم, ولكن المهم لفاعلية ذلك هو المواءمة بينهما. وذلك لايكون إلا من خلال وسيط يربط بين الطرفين, هو ما يمكن أن يسمى (إمكانية التحقق). وذلك يعني أخذ الظروف الموضوعية في الاعتبار عند محاولة تحقيق الحلم بحيث يمكن التمييز بين الظرف المناسب لتحقيق الحلم من عدمه. وفي ذلك يرد على الذهن قول لهيلين كيلر: (أفضل الناس ثقافة هو من يفوق سواه في فهم ظروف حياته). فهيلين كيلر لم تستسلم لواقعها تماماً, وإلا بقيت معاقة تستحق الشفقة, ولم تغرق في الأحلام الوردية المحضة فتصل إلى ذات النتيجة السلبية. ولكنها واءمت بين الاثنين, فكانت هيلين كيلر التي نعرف. وإذا أردنا ضرب مثل, فيمكن القول إن ذلك أشبه بتقسيم فرويد للشخصية إلى هو (واقع فج مطلق), وأنا عليا (كمال مطلق), وأنا (مواءمة بين النقيضين). مثل هذه المواءمة في القضايا الكبرى هي مهمة المثقف في المقام الأول, ودون ذلك يفقد دوره كمثقف, حتى وإن نصب نفسه كذلك. فالمثقف ذاته نوع من المواءمة بين القمة والقاعدة, النخبة والمجتمع.

تقنين السلطة

  • علاقة المثقـف بالسلـطة (علاقة ريبة), هل هناك إمكان لالتـئام الفجوة؟ هل يمكن الخـروج من دائرة التنـاقض؟

ـ هذا صحيح, ففي العالم الثالث عموماً, وفي عالم العرب خصوصاً, فإن علاقة المثقف بالسلطة تصل أحياناً إلى نوع من العلاقة الصفرية التي تفترض إما أنا أو هو, ولامجال لتعايش الاثنين. ويبدو أن علاقة الريبة هذه ذات جذور تاريخية, من حيث تاريخية التوتر والريبة, وذات أبعاد نظرية في ذات الوقت. فالسلطة السياسية تركز على مبدأ (الواقع) من أجل استمراريتها. والمثقف يركز على مبدأ (الحلم) من أجل مدينته الفاضلة المرجوة. ومن هنا ينشأ التناقض بين طرف لايهمه إلا الواقع, وطرف لايريد الاعتراف بالواقع, وتكون ترجمة ذلك عملياً علاقات شك وريبة في أكثر الأحيان, وصدام في بعض الأحيان. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فإن الطرفين (السلـطـة والمثقف) إنما يتنافسان على أشكال مختلفة من السلطة, ويمثلانها في ذات الوقت حقيقة: السلطة السياسية, والسلطة المعرفية, وكلاهما يشكل محاولة للتأثير على الأشياء والعلاقات, من حيث إن السلطة تعريفاً (سواء كانت سياسية أو معرفية أو غيرها), هي القدرة على التأثير. مثل هذا التناقض, يمكن حله على مستويين: نظري وعملي. فمن الناحية النظرية, أن يقوم المثقف ذاته, من حيث هو الأقدر على ذلك, بإيجاد صيغة أو معادلة جديدة للعلاقة مع السلطة السياسية. جوهر هذه الصيغة يقوم على تحديد الموقف من القضـية المطروحة, وليس الموقف من الكيان ككل. وفي هذه الحالة قد يتفق الطرفان على قضـية ما, وقد يختلـفان على قضية أخرى, ولكنهما لن يكونا متصادمين طوال الوقت كما هو الحال عندما يكون الموقف من الكيان ككل, كيان السلطة السياسية أو كيان السلطة المعرفية. ولكن مثل هذا الحل يحتاج إلى إعادة التفكير في دور المثقف في المجتمع من قبل المثقف نفسه, وإلا سنبقى ندور في ذات الساقية بلا توقف.

أما الحل العملي, فيقوم على مفهوم (المأسسة). مأسسة الحياة السياسية والاجتماعية يعني وجود مؤسسات يمكن من خلالها تقنين السلطة السياسية وتأطيرها, وإيجاد قنوات للتعبير الثقافي والاجتماعي, وبذلك تكون المؤسسة السياسية والاجتماعية هي نقطة الالتقاء بين السلطتين السياسية (السلطة) والمعرفية (المثقف), في إطار الفعل الاجتماعي الذي يؤطر الجانبين. وإذا كان تعديل صيغة العلاقة بين السلطة السياسية والمثقف (الجانب النظري), هو مهمة المثقف تحديداً, فإن البدء في المأسسة (الجانب العملي) هو مهمة السلطة السياسية تحديداً, وذلك بما يخدم أهداف الطرفين.

الثالوث المتناقض

  • هذا يدفعنا إلى التساؤل عن كيفية جمع الثالوث المتناقض (السلطة/المثقف/الجماهير). كيف يمكن الموازنة بين ما يبدو أنه غير متوازن؟

ـ المنطق المسير للسلطة السياسية هو مبدأ الواقع, والمبدأ المسير للمثقف هو الحلم, والمبدأ المسير للجماهير هو النفع المباشر والعاطفة. من الناحية النظرية والمنطقية, فإن المأسسة المتحدث عنها سابقاً يمكن أن تكون البوتقة التي في إطارها تلتقي المبادئ الثلاثة, فتتبادل التأثير, وتكون النتيجة قراراً أو فعلاً يتضمن المبادئ الثلاثة معاً. دون مأسسة للمجتمع والدولة, فإن المبادئ الثلاثة المسيرة لكل طرف وقطاع, لابد أن تصطدم, ثم تنفجر بشكل أو بآخر. وتحليل بسيط للثورات الكبرى في التاريخ يبين هذه القضية.

  • قلتم في أحد مقالاتكم: (إن المشاريع الثورية المفرطة في ثوريتها, وكذلك المشاريع المحافظة المفرطة في محافظتها, تلتقي في نقطة واحدة هي أنها في النهاية تعرقل حركة المجتمع الفعلية والطبيعية). إذن ما هو الحل في رأيكم لتسريع حركة المجتمع وتحقيق أهدافه>؟

ـ التطرف, سواء كان يميناً أو يساراً, ديناً أو دنيا, يؤدي في النهاية إلى نوع من الشمولية السياسية, التي تحاول ضبط المجتمع ضبطاً كلياً والتحكم فيه من ناحية, وقولبته في إطار واحد من ناحية أخرى. وفي هذا المجال, لافرق في الجوهر بين ما تقوم به الشيوعية أو الفاشية أو الإسلاميون (الإسلام المؤدلج أوالحزبي). والمجتمع بطبيعته تعددي لايقبل القولبة الجامدة, ولا الضبط الكلي وفق مبدأ أحادي, ونظرة واحدة. لذلك فإن الشمولية تعرقل حركة المجتمع حين تقولبه وتضعه في إطار مبدأ واحد لايتغير, ويكون الشلل هو النتيجة. الحل يكمن في طبيعة المجتمع ذاته, أي في التعددية. ففي التعددية تكمن الحركة, وتكمن التحديثات والاستثارات التي هي سر الحركة ودافعها. واستقلالية المجتمع المدني وحريته, دون وصاية شمولية مطلقة من قبل السلطة السياسية, هي نقطة الارتكاز في حيوية المجتمع وفاعليته وإنتاجيته. التعددية والحرية هما كلمة السر في فتح باب الحل.

قولبة الهوية

  • في ظل اندماج أركان المعمورة فيما يسمى (القرية الكونية الواحدة), كيف نستطيع منع تهميش هويتنا العربية والإسلامية, أو طمس خصوصيتنا القومية والثقافية, أو الاستهانة بمصالحنا؟ وكيف يمكن تحويل تلك الخصوصية إلى جسر للتفاعل المنتج بين ثقافتنا والثقافة العالمية؟

ـ أتدري يا صاحبي ما المشكلة؟ إنها في افتراض أن الهوية والخصوصية القومية أو الوطنية أو الثقافية هي من المسائل أو القضايا الثابتة. المشكلة أننا (نقولب) الهوية أو الذاتية والخصوصية ونحوها (كل حسب التيار الذي يتبناه), في مبادئ ومحددات مجردة معينة, ثم نقيس مايجري على أرض الواقع من تغيرات على ما قولبناه, فيصيبنا الرعب والهلع من احتمال فقدان الهوية والذاتية والخصوصية ونحوها, عندما نرى تلك الفجوة المتسعة بين ما قولبناه, وبين ما هو معيش وممارس. فالهوية ليست شيئاً ثابتاً لايعتريه التغيير والتحول, بقدر ما هو متغير بذاته. فالعربي اليوم ليس هو ذات العربي قبل ألف سنة مثلاً, ولكنه يبقى عربياً. وذلك مثل أن تنظر إلى صورة فوتوغرافية لك وأنت طفل وتحاول أن تقارنها بحالك وأنت رجل كبير, فأنت لست أنت وإن بقيت أنت. المشكلة في العقل العربي أنه يريد تثبيت الحالة, بالنسبة للهوية ونحوها, عند نقطة معينة, صورة فوتوغرافية معينة, ومن هنا تأتي القولبة والجمود وما ينتج عنهما من هلع تجاه المتغيرات المحيطة. لذلك فأنا أعتقد أن قضية الهوية والخوف عليها مسألة مبالغ فيها, كما أنها تحولت إلى نوع من الشرنقة التي نحيط بها أنفسنا عندما ندرك في أعماقنا عدم القدرة على التفاعل والمشاركة في متغيرات العصر, وتتحول إلى مشجب عربي جديد, ضمن مشاجب أخرى تعلق عليه الإخفافات والعجز. فلو سألت إنساناً بسيطاً عن هويته, لما وجد أي صعوبة في تحديدها, فهو يمارسها قبل أن يقولبها أو يؤدلجها. ولكن العلة في النخب الثقافية التي تثير قضايا وهمية فراراً من القضايا الأساسية والحقيقية. لابد أن نفتح نوافذنا على العصر بكل اتساعها, فالتفاعل هو الذي يحدد كينونتي وليس القولبة والتحديد. فإذا كنا قادرين, ثقافياً وحضارياً بشكل خاص, على مشاركة العالم في حركته وتغيره, فلا خوف علينا وعلى هويتنا. وإذا كنا غير قادرين, فإن الشرانق التي نحيكها, والقضايا الفرعية التي نثيرها, لن تجدي فتيلاً. آن لنا أن نعرف أننا نعيش في عصر لايرحم من لايشارك فيه, وهو غير عابئ بتخوفاتنا وقضايانا المصطنعة.

استهلاك طفيلي

  • مع نهاية القرن العشرين, تشكلت ملامح ما يمكن أن نطلق عليه حضارة عالمية واحدة.. فأين موقع العرب من تلك الحضارة.. وكيف السبيل إلى إيجاد مكان بارز لنا فيها؟

ـ بكل صراحة ليس لهم موقع حتى الآن, ولن يكون لهم موقع إذا استمرت الأوهام العربية التقليدية, المتحدث عن بعض منها في الأسئلة السابقة. فنحن لانزال من المستهلكين الطفيليين على مائدة الحضارة المعاصرة, فقد استوردنا منتجاتها, ولم نتمثل عقلها وروحها, نستهلك أسماكها ولانفهم كيف يكون صيدها. أما السبيل إلى إيجاد مكان فيها, ولنتواضع ونقل ليس بالضرورة أن يكون بارزاً, فهو مشاركة هذا العالم همومه وقضاياه من منطلق إنساني أولاً, والانخراط فيه دون (بارانويا) مثبطة, وبعيداً عن الشرانق التي نحيط بها أنفسنا, وتلك العظمة والخصوصية الموهومة التي نخدع بها أنفسنا قبل أن نخدع الآخرين, ونخدر بها أنفسنا دون أن نؤثر في الآخرين أو نمنع تغلغلهم. وإذا كان المجتمع الواحد لايتحرك بفاعلية إلا في ظل التعددية, فإن عالم اليوم يتحول إلى مجتمع تعددي واحد, من يسكن ويتقوقع فيه مصيره الانقراض, وهو يبحث واهماً عن بروز وتميز لايوجدان إلا في الذهن.

 



 
  




تركي الحمد





زكريا عبدالجواد





من مجموعة د. تركي الحمد





من مجموعة د. تركي الحمد