الحمراء: أثر الحضارة العربية الثقافي والاجتماعي على الأندلس وإسبانيا

الحمراء: أثر الحضارة العربية الثقافي والاجتماعي على الأندلس وإسبانيا

ترجمة: عبدالكريم ناصيف
والدكتورهانى يحيى نصري

قرون ثمانية كانت فيها جامعات قرطبة وطليطلة واشبيلية وغرناطة تشكل منارات للإشعاع الحضاري الذي يشع من الأندلس على العالم، عاكسة مدى الازدهار الذي تحقق على يد هؤلاء "الذين فتحوا وحكموا وازدهروا، ثم بادوا بسبب تعصب الآخر الديني".

هذا مما حدا بكاتب أمريكي محايد هو "واشنطن إيرفنج" لأن يقول: "إن فتح العرب لإسبانيا قد حمل معه حضارة أرقى وطرازا في التفكير أنبل، فالعرب أناس شاعريون، لامعو الذكاء سريعو البديهة، أصحاب إباء وشهامة وحكمة، وعقل، وقد تشربوا علوم الشرق وآدابه، وحيثما كانوا يقومون بتشريب وصقل الناس الذين يفتحون بلادهم. وليس هناك من أثر يعبر عن عصره وأناسه أكثر من الحمراء: تلك القلعة المهولة خارجاً والقصر الباذج داخلا، الحرب تكشر فوق أسواره، وأنغام الشعر تنسرب في قاعاته بلا مقاومة حين كانت إسبانيا العربية الإسلامية منطقة إشعاع للحضارة والنور وسط أوربا الغارقة في الظلام ".

عندما أطل القرن الثامن عشر كانت الأمة الأمريكية قد أصبحت دولة عظمى تمتلك تصورا محايداً للعالم بسبب وجود الأجناش والأعراق التي تشكل بنيتها السكانية ومن ثم الثقافية والفكرية.

وكما نعرف فإن الكثير من الهجرات غير المنظمة الهاربة من اضطهاد البروتستانت والكاثوليك من أوربا التي ازدحيت بالتعصب الديني وما تسبب عنه في سقوط دولة المسليين بالأندلس، ردا على التعصب التركي الذي بدأ بدوره يفتح البلدان الأوروبية لتشيع روح التعصب الديني المقيتة.

في تلك الحقبة ولد "واشنطن إيرفنج" (1783- 1859) ، حيث كانت الحاجة تستدعي وجود باحث يقوم بجهد فكري وعلمي له صبغة أكاديمية يربط فيه بين ذلك الجديد البازغ والعالم القديم المثقل بالتاريخ والمعارف، والنظر بإمعان إلى حقيقة الوجود الكونية متسلحا بمعارف تراث الماضي وأصالته.

هكذا يقدم لنا "واشنطن" بعد المعرفة والقراءة وبعد النظر وإمعان الفكر وزيارة الأماكن في الغرب الإسلامي بعد أن غدا طللاً دارساً يغمره الخراب والعفاء.

وبرغم ان "واشنطن إيرفنج" كان يعيش في نيويورك ومات بها وعين وزيرا مفوضا بإسبانيا بعد زيارات متعددة لها فإنه اشتهر كباحث أكاديمي في الأصول التاريخية لتشكل الشعب الأمريكي، بعد ان أصدر الكتب الآتية:

تاريخ نيويورك عام "1828 "، حياة ورحلة كريستوفر كولمبوس "1828"، غزو غرناطة "1829"، الحمراء "1832"، محمد وخلفاؤه "1849".

ويظل إيرفنج أحد الكتاب الكلاسيكيين الأمريكيين الذين حظوا بسمعة رفيعة، وأداء فكري وأدبي جيدين في أواسط المعرفة الأكاديمية، واستطاع عبر كتابه "الحمراء " كما يقول المترجم "هاني يحيى نصري": أن يقدم "نتاج كل هذا الجهد الأكاديمي التاريخي الضخم، ويحوي في خلفيته القصصية الأدبية أصول تشكل الشعوب في العالم الحديث ".

كتاب "الحمراء" هو رحلة إلى الأندلس ، ما تبقى من الأندلس، " وهو قصر "الحمراء" والنفاذ من هذا الطلل لإعادة بناء ما كان عبر المخيلة، إعادة بناء الزمان بشخوصه، وأحداثه،؟ ومدارسه الفكرية، وخصوماته وضغائنه وأمجاده وتحالفاته، أساطيره التي حوتها صحائف التاريخ، وبطون الكتب المخطوطة بخط اليد، والتي بقيت في ذاكرة الزمان دلالة على ذلك المجد الغابر.

يهدف الكتاب إلى "رسم الواقع الاجتماعي والفكري والحضاري لتاريخ الأندلس القديم من خلال الحكايات وعلى نفس هذا السياق يتضمن القسم الأول منه تصويرا للواقع المذكور لإسبانيا القرن التاسع عشر في الأندلس. لا من خلال الحكايات والقصص التي تعتمد على حدث تاريخي سابق ، بل من خلال حكايات وقصص حدثت مع المؤلف نفسه، في رحلته إلى غرناطة وإقامته بقصر الحمراء فيها".

قام المترجم د. هاني يحيى نصري بترجمة الجزء الأول الذي يتضمن رحلة "واشنطن ايرفنج " إلى غرناطة وقصر الحمرا ليضع المتلقي في عمق الرحلة ، بكل معانيها الأدبية والجمالية والتاريخية، كشفا عن معنى النص الكامن بلغة عربية جمالية رائعة. كما قام المترجم الآخر عبدالكريم ناصيف بترجمته البديعة لغة ومضمونا وتفسير الجزء الكتاب الثاني الذي يضم الحكايات التي قصها المؤلف وانتزعها من سياقها التاريخي محملة بالدلالات والتأويلات علاقة على غنى هذا التاريخ ومدى عمق ما يحتويه من كنوز الرواية والفكر والأسطورة معبرا عن الشخصية العربية بشقيها الشرقي والإسباني.

تبدأ رحلة الكتاب التي قام بها المؤلف برفقة الأمير الروسي "دول جوركي" عبر "سييرا نيفادا" حيث التقيا الجبال والقطعان والقرى المتناثرة وصفات من الشرق لاتزال كائنة بالمشهد الإسباني. إن الرماح وركض الجياد والمزاج الخاص الذي أفرزته أخطار الطرق وسروج الجياد، ومستودع الأغاني الضخم والنغمة المغناة، والقوالب الشعرية، ومناورات القوافل، وقامات الرجال، وملامحهم السمراء، وأشكال قطاع الطرق، كلها تعكس وراثة العرب هناك، ولعل الصفة الأساسية من صفات الريف الأسباني هي منظر الطاحون هناك، تلك الطاحون العربية القديمة التي تنتصب دائما على جداول الأنهار الأندلسية.

وفور أن يغادر "أوسانا " يتذكر "علي العطار" الذي كان يقود الثورات ضد "فردناندو وإيزابيلا" وكان والد زوجته "أبو عبدالله "- بابدول- آخر ملوك الأندلس ألذي قالت له أمه عند الرحيل الأخير لحظة رأته يبكي قولتها الشهيرة "ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال" ، تلك المقولة التي تتردد في قلب كل عربي حتى اليوم علامة المأساة، ودلالة خراب مجد العرب هنا وهناك.

وعند المرور على "فونتانا لابيدرا"- نبع البيدر- المدينة العتيقة ذات الشهرة الحربية الواسعة، وبرفقة دليله الإسباني، وعندما كان المؤلف ورفيقه يخترقان المكان تعرفا هناك على أسطورة الكنز ثم يتوجهان إلى غرناطة.

هناك يبدأ التعرف على "الحمرا" "كعبة زوار إسبانيا من الذين ينسجون الجانب التاريخي والشعري الرومانطيقي لتلك البلاد، فكم من أسطورة وتقليد صحيح ووهمي، وكم من قصة وأغنية عربية وإسبانية حول الحب والحرب والفروسية مرتبطة بهذا الركن التاريخي".

هناك مكان سرير ملك العرب حيث يحوطه الفن الجميل الذي يكرس الجنة السماوية عند المسلمين. والقصر الملكي يشكل الجزء الأساسي لحصن الحمرا الذي تمتد جدرانه بأبراجها المرتفعة المحيطة بدائرة كأنها سور الأبدية.

والحصن الذي كان يستوعب جيشاً لا يقل عن أربعين ألف مقاتل. وظل قصر الحمرا قاعدة لملك النصارى بعد أن خضعت المدينة لهم فسكنه الكثير من ملوك القشتاليين قتل الإمبراطور "شارل الخامس". ويشير "إيرفنج" إلى أسطورة اسبانية ترى أن الذي بنى "الحمرا" كان ساحرا كبيرا وضع كل هذا الحصن تحت هذا الرمز الذي يشكل تعويذة سحرية أبقت على "الحمرا" مئات السنين بينما تهدمت باقي حضارة العرب هناك، تذكر الأسطورة أن هذه التعويذة ستظل إلى أن تصل اليد المنحوتة وتقبض على نحت المفتاح حينئذ سيتداعى القصر إلى حطام.

اجتازا قاعة البركة عبر قوس عربي إلى قاعة السباع التي لايزال يخرج الماء من أفواها. وهناك قص عليهما الدليل قصة الأصوات الخافتة التي تشبه الهمس وهي أرواح من قتلهم "ابن سراج " فالمكان المسكون بأرراحهم ليلا حيث يستعيدون آلامهم مطالبين بثأرهم. للأرابسك والبورسلين الذي أدخل إلى إسبانيا مع الفتح العربي في عمارة "الحمرا" مهمة إظهار التفاصيل المعجزة في فن النقش الدقيق الذي لا يظهر إلا للعين الفاحصة المدققة لاكتشاف آيات الفن الرائع الفريد، والنحت العربي يشكل فنا قائما بذاتة كأنه محاولة للنفاذ حيث الخيال السماوي الراقي. ومع سكان "الحمرا " من ذلك الزمان من الفقراء والغوغاء، يبدأ المؤلف تعرفه على قصر أبي "عبدالله" حتى يصل إلى قاعة السفراء، عند الباب المخفي يكتشف العرش الملكي الذي يحمل طابع الملك "يوسف الأول الذي أكمل بناء الحمرا" وجعلها سرير ملكه، وتمد صمم شيء في القاعة ليحيط العرش الملكي النبيل.

وهناك البرج الراسخ الذي يحتوي هذه القاعة التي تشرف على وادي "داروه"- داره-.

وفي شرفة "الحمرا بالقرب من قاعة السفراء كان يجلس "إيرفنج" ليطل من على عمارة القصر، والأشجار خارجه حيث تتجلى منطقة "البيسين "- البائسين- وفي لحظة تأمل هذا الجمال الإلهي يتذكر مقولة الملك "شارل" عندما جلس نفس الجلسة قديما ولحظتها ردد لنفسه: "سأظل أدين الرجل الدي فقد كل هذا".

هل كانوا سحرة؟

بعد أن يضعا "ايرفنج" في هذا الجو السحري، يعود ليتعقب هؤلاء الذين شيدوا الحمراء معجزة فنية حيث صدقوا أن مؤسسها كان يتعاطى السحر وكانوا يطلقون عليه "الكمى" أو "السيميائي " الذي كان بمقدوره تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. لكن المؤكد أن الذي بدأ البناء هو أحد نبلاء بني نصر "محمد بن الأحمر" الذي طالع المنجمون برجه وتنبأوا له بمستقبل ماجد. وفي غمار حرب الطوائف، جعل "ابن الأحمر" من غرناطة قاعدة لملكه، وبسبب حروبه مع النصارى وإغارتهم على ملكه تحصن "ابن الأحمر" خلف أسواره ممتثلاً للمثل القديم "اشتر ثياب الشتاء في الصيف، وتسلح للحرب وقت السلم".

لقد بدأ البناء بعد أن عاد من "إشبيلية" منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وأشرف على البناء بنفسه. وعمر "ابن الأحمر" حتى بلغ السابعة والتسعين يقضي جل وقته في الحمراء حتى مات 1272م، وكان قد خرج لرد غزوة لكن رمحه انكسر فنفر من الأمر ولزم "الحمراء" مريضاً، لم يشفه الطب أو الدواء حتى مات هذا المؤسس لملك "بني النضير" في إسبانيا آخر الممالك العظيمة لملك المسلمين في الجزيرة "الأيبيرية".

بعد إنجاز "ابن الأحمر" المعماري، جاء يوسف أبو الحجاج" الذي كان يكتب اسمه في الإسبانية "هاكسس" وهو واحد من "بني نصر" حكم غرناطة حتى 1333م.

ترك هذا الملك بصمات خالدة من زمن العرب في غرناطة حتى قالوا عنها: "لقد كانت غرناطة في أيام "يوسف" إبريقا من الفضة المملوء زمردا". وقالوا أيضاً: "غرناطة مدينة لمن يريد أن يحلم". "إن السحر الخاص لقصر الأحلام القديم هذا هو: في القوة الغامضة فيه التي تجعلك تستعيد صور الماضي".

منارة الحضارة

هكذا يقول "إيرفنج"، وهكذا ينتهي الأمر معه حيث ينظر لهذه الحضارة العريقة باعتبارها منارة أضاءت أمام النهوض الأوروبي، فالعرب من وجهة نظره أمة نتجت عن مد موجة الفتح الإسلامي على شواطئ أوربا، ليعملوا على توطيد حكمهم في إسبانيا كفاتحين حصلوا مقابل بطولتهم: أن شكلوا أمة فريدة زودت العالم بكل الفنون والعلوم الراقية التي ساعدت على النهوض، والخروج من قرون الظلام، متسلحاً بإنجاز الفكر والعلم والثقافة العربية التي شعت على الغرب المسيحي، حتى أن الجوامع في "قرطبة" و "الكزار"- القصر- في "إشبيلية" و "الحمرا" في "غرناطة" تشهد على تأثر الحضارة المسيحية بهم، كما ظلت الأرض لهم على مر القرون مدة تفوق دخول "النورمانديين" إلى إنجلترا.

يأتي الجزء الثاني من الكتاب هو: مجمع "الحكايات" حيث تلعب فيه الأسطورة والمخيلة دورها في إعادة صياغة الحكاية التاريخية عبر رؤية إبداعية راقية، مختلطة بالتاريخية التي تمكننا من النظر إلى مجمل الحكايات، وتمكننا من تأويلها تأويلا ينعكس فيه الواقع، ويمتزج بالتاريخي، وفيه يوجد ما هو زمني، ومكاني عبر خيال أشخاص خرجوا من بطون المتون ليطلوا علينا باعثين فينا قدرا من الدهشة أحياناً، والأسئلة العميقة أحياناً أخرى، ساعين بنا عبر طريق المعرفة الطويل لمكننا الوصول إلى إجابات حول هذا التاريخ الذي يخصنا.

ومن خلال حكايات: "المنجم العربي" وتجواله في الصحاري والتلال، وحرب صليبية لسيدة القنطرة العظيمة، وحكاية الجندي المسحور، ودم المؤلف في غرناطة، وعيد في الحمراء.

نتمكن من معرفة التاريخ ليس باعتباره سردا لسير الناس، لكنه مادة لخلق ما هو إبداعي وفني، ونعيش الزمان في الماضي باعتبار الماضي أصدق الأزمنة وأخلدها، وبأن الحاضر والمستقبل يتحولان بدرامية قدرية إلى الماضي.

وتتجلى أحوال البشر عبر الحقيقة والخرافة، وفي انتصاراتهم وهزائمهم كأنما ما حدث لهم لا يخصهم وحدهم، ولكن يخص الإنسان، سواء كان هناك بعيدا في شبه الجزيرة الأيبيرية أو هناك في قرية كائنة بالصحراء العربية.

كل هذا قد أنجز بلغة بديعة، راقية، ومعرفة موثقة، تنهض على ثقافة تعيننا على الفهم، وتبعدنا عن ذلك الغموض الزائف.

 

سعيد الكفراوي

 
  




غلاف الكتاب





احدى لوحات الكتاب وتشير إلى معركة يخوضها فارس عربي