مساحة ود

مساحة ود

شويقة

قد يصح تصغير اسم المرة من الشوق لتتحول شوقة إلى شويقة، فتوحي بهذا اللعب اللغوي الذي يعمد إليه الناس في أحياء مصر الشعبية ليـدللوا الأسماء والأشياء، ويدلوا على الكثير الكثـير بأقل القليل، ربما اتقاء للحسد، وربـما اتساقا مع ما جبلوا عليه من فرط الحياء. هكذا كان يناسب الاسم المسمى، فقد كان شوقا عارما للحياة والناس، وإن كان يخبئ ذلك فى عمق صدره العريض الذي يبدو معه وكأنه ريـاضي يشق دروب الحياة بصدره. فتيا كان، وحييا، وعالي الجبين خلقة وخلقا.

يا الله.. ما أقسى أن يتمثل الإنسان خـاطره أنه لن يرى مثل هـذا الرجل مرة أخرى. لن يهل علينا بطلعته الرضيـة، ولن يتحرك أمامنا بكيانه الفتي، ولن يطلق من عمق صـدره ومن ناضح محياه المرحب: "أهـلاااااان" - يقولها هكذا، ممدودة، ما شاء لها من الامتداد، وكأنه بات على الشوق إلى اللقيا سنين، رغم أن المرحب به قد يكون التقاه منذ يوم أو يومين، بل في صباح اليوم نفسه كـما حدث معى مرة.

قبيل سفره، ربما فى الليلة للسابقة مباشرة على السفر، أخذني في سيارته لنتجـول في شوارع الكويت، فأنا لا أسوق، ولن يكـون بمقدوري توديعه في اليوم التالي.. وتحول قلب الكويت الصغير، في ضـوء مصابيح الشـوارع الخالية الأنيسة، وفى فيض من نسائم مناخ استثنائي، فى مدى لا ينتهي من حكـايات العالم، والضحك، والألفـة. وبـدا الشـوق إلى مـلازمـة "تشويقة" لا ينتهي. لكنـه كـان لايني يردد: "وجبت". "واللايعنى". فلا أكتشـف سر الكلمتين إلا الآن. حيث كان أوان رجـوعه قد حـان ليأتنس ببيته وأولاده قبيل السفر الكبير. وحيث كان كـل شيء يهون، مادم آن أوان السفر. وأي سفر .

شويقة.. شوق حار إلى الناس والصحبة، رغم أنه لم يختر منهم إلا العدد القليل. لهذا كان فرحه بهذا القليل كبيرا.

صباح يوم عطلة قادني شوقي إلى كوب شاي معه إلى بيته الانفرادي الصغير، وفتح الباب فكأنه أشرق بمفاجأة كونية، وأطلقها: (أهلااااان)، ممدودة بأكثر ممـا تحتمل تقاليد الكتابة على الورق، وحارة وعميقة كأصفى ما تكون مودة البشر. ثم بدا وكـأنه يريد إهدائي البيت كله، فرحا وامتنانا بهذه الزيارة الصباحية المفاجئة، رغم أن فرحي وامتناني كانا بلقائه وللقائه.

كان يعـد الشاي بينما يعصر البرتقال، ووضع أمامي أكداساً من كتبـه لأختار منها ما أشاء، وأراد أن يهديني "التلفزيون" لولا تأكيدي له أن عندي جهازاً، والراديو، بل حتى المنضدة والكنبـات. كل هذا لأنى فاجأته بزيارة فى الصباح! وهو لا يدري أنه كان أفضل ما وجدته فى هذا الصباح، واكتشفته.. كنزا من خبرة التجوال العريض فى الدنيا والحياة، يخفيه التواضع.

محمد شويقـة.. ما أفدح إلا يكون هناك أي سبيل في لقاء معك فى أي صباح، غير صبـاح ناء جداً جدا عن عالمنا. نوى موحش لا يخفف من وحشته إلا استـذكار مستودع الشوق في الصدر العـريض، وفيض المودة والـترحيب فى صفحة الوجه الطيب، وبريق الكرامة فى الجبن العالي.

ما أفدح الشوق ياشويقة.

 

محمد المخزنجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات