واحة العربي
جمال العربية
حنين طائر لم يكن العقاد بعيدا عن الحقيقة حين وصف على الجارم بأنه راس مدرسة دار العلوم في الشعر. وكان العقاد يرى أن مدرسة دار العلوم تتمثل في صناعة الديباجة الشعرية والحرص الشديد على فصاحة اللغة وجزالتهـا والاتصال الحميم بينابيع الشعر العربي، وجعل الصدارة للغة في النص الشعري. ولم يكن الجارم وحده مثالا أو نموذجا لشاعرية دار العلوم، فقد سبقه الشاعر الذي لقب بالشاعر البدوي - لاتصال شعره بنسيج الشعر العربي في عصوره الأولى ومحاكاته ومحاذاته - وهو محمد عبدالمطلب. وكان هناك من معاصريه حفني ناصف، كما كان هناك أيضا من شعراء مدرسة دار العلوم: محمود غنيم وعلي الجندي، لكن علي الجارم كان بين هؤلاء جميعا أقربهم إلى روح المثال الشعري الكلاسيكي - في جزالته وجهارته ونصاعة عبارته وفخامة لغته وقدرته على التصرف والافتنان في شتى مجالات الشعر، ولعل طموحه إلى أن يكون خليفة شوقي - بعد رحيله في عام 1932 وحلمه المستبطن في ثنايا قصائده بأن يكون أمير شعراء زمانه - هو الذي جعله يعكف على تجريد شعره ومد قامته، بما يسمح بالمقارنة أيضا بينه وبين كبار شعراء التراث العربي خاصة البحتري والمتنبي، في قصائد يمكن أن تدخل في باب المعارضات الشعرية. لكن الجارم أيضا كان يمتح من مصدر شعري آخر، عندما أتاحت له بعثته الدراسية إلى إنجلترا - لدراسة التربية وعلم النفس - فرصة للاطلاع على نماذج من الشعر الإنجليزي، وقراءة مختارات من الآداب الغربية، مما جعل للعمود الشعري في قصائده دواوينه مذاقا مختلفا، وشميما لا نجده في شعر محمود غنيم أو على الجندي، وبالطبع محمد عبدالمطلب.وأصبح ينظر إلى علي الجارم باعتباره رأس مدرسة المحافظة الشعرية أو مدرسة دار العلوم - كما سماها العقاد - حتى تغير المناخ الشعري وسطعت مواهب شعرية من بين شعراء دار العلوم، لكنها تنتمي إلى المدرسة الحديثة في الشعر - تلك التي جمعت بين خصائص جماعتي الديوان: بنزعتها التأملية العميقة، وأبوللو: بنزعتهـا الوجدانية الرومانسية. وتمثلت هذه المواهب في أسماء ثلاثة هي محمود حسن إسماعيل وأحمد مخيمر وطاهر أبو فاشا، عاشت حقيقة التجديد الشعرى وشاركت فيه بقدر ما سمح لها تكوينها التراثي العتيد وثقافتها الأجنبية المحددة وطبعها الشعري الأصيل. ولم يحل شعر على الجارم من ومضات وجدانية تمثل رهافة حسه الشعرى وتأثره بالنزعة الرومانسية التي غمرت الساحة الشعرية على امتداد الوطن العربي منذ منتصف الثلاثينيات وسادتها مع بداية الأربعينيات وكان من أعلامها إبراهيم ناجى وعلى محمود طه ومحمود حسن إسماعيل في مصر وأبو القاسم الشابي في تونس والتيجاني يوسف بشير في السودان وغيرهم في أقطار عربية أخرى. هذه الالتماعات الرومانسية - في صورتها المجنحة، والعميقة التعبير عن نجاوى الذات وفيض الوجدان - نعثر عليها في شعر الجارم كلما ابتعد عن طغيان المنـاسبة الخارجية وتأثيرها القوي العارم، وكلما أصغى لشجن الـروح وهمس النفس، كـما حـدث في قصيدته الجميلة "حنين طائر" التي كتبها وهو بعيد عن الوطن، مغتربا في إنجلترا - في مطالع القرن بين عامي 1908 و 1912، حيث أقام سنة في مدينة تـوتنجهام يدرس اللغـة الإنجليزية، ثم التحق بكلية المعلمين في إكسترا ومكث بها ثلاث سنوات درس من خلالها علم النفس وعلوم التربية والمنطق والأدب الإنجليزي. وهكذا تمثـل الشاعـر على الجارم حال الطـائر الذي يتملكه الحنين لعشه الذي غاب عنه، وهو هنا يعيد إلى الذاكرة أبيات العباس بن الأحنـف - الشاعر العباسي الـذي قصر شعره على الغزل والوجـد والصبابة، ولم يخض فيما خاض فيه معاصروه من فنـون المدح والهجاء وهي أبيات شديدة الرقة، قوية الأسر، عميقة التأثير في النفس، يقول العباس:
كما تذكرنا قصيـدة علي الجارم - على اختلاف الموقف والمجـال - بقصيدة شوقي عن الوطن التي يستهلهـا بقوله:
والتي يقول في ختامها:
ولعله ممـا يستلفت النظر ويستـدعي التأمل اشتراك الشعراء الثلاثة في هذه القافية النونية، والنون في رأي نقادنا القـدماء وذوقهم حرف رنان ووتر شجى يناسب مقام اللوعة والوجد والحنين، كما يستلفت النظر تماثل قصيـدتي "العباس بن الأحنف وعلى الجارم في البحر الشعري: وزنا وموسيقى، والقدر الواضح من المفردات المشتركـة بين القصيدتين وكأنهما تمتحـان من رصيـد أو معجم شعري واحد، تلتمع فيه مفردات الطائر والوطن والفنن والسكن والبدن والبكاء والدمع، وهو معجم يتسق مع لوعة الاغتراب وضراوة الحنين وقسـوة التفجع وانهمار الدموع. وهناك من يرى أن قدرة علي الجارم اللغوية أكبر من مـوهبته الشعرية، وأن نشـاطـه المجمعي وهو نشاط موفور تمثل في عديد من المقالات والبحوث والدراسات المجمعيـة باعتباره من الأعضاء الأوائل في مجمع اللغة العربية بـالقاهـرة منذ إنشائه، يفوق بكثير آثاره الأدبية والشعرية. وهـو رأى يجافي الحقيقـة ويظلم شاعرية الجارم التي قدرتها مصر حين منحته وسام النيل وقدرها العراق حين منحـه وسام الـرافدين وقدرها لبنان حين منحه وسام الأرز. صحيح أن الجهد اللغوي قد شغل مساحة كبيرة من عطاء الجارم وحيـاتـه التي امتـدت بين عامي 1881 و 1949، إلا أن ديوانه الشعري - في أجزائه الأربعة - ثم في مجلده الكامل الـذي أشرف على تحقيقه وإصداره ابنه الدكتور أحمد الجارم - يقـدمه إلى قرائه ودارسي شعره جيلا بعد جيـل باعتبـاره علما على مدرسـة شعرية، مـوصولـة التقـاليـد، عميقة الانتماء إلى شجرة الشعر العربي. يقول علي الجارم في قصيدته "حنين طائر":
|
|