أطفال محرومون لا متخلفون

أطفال محرومون لا متخلفون

ما من أم وأب إلا يساورهما الخوف حول ذكاء أطفالهما، لكن كتيراً من مظاهر تدهور الذكاء هي في حقيقتها تعبير عن حرمان من الأمان والحب.

تسألني كثير من الأمهات وعلى وجوههن علامات الجزع والرهبة: هل طفلي متخلف يا دكتور؟ وبعد حوار طويل مع الأهل والطفل، ومع إجراء بعض الاختبارات النفسية البسيطة، يتضح لي جلياً أنني إزاء طفل متوقد الذكاء! وأن ما تشكو منه أمه من عدم إجادته مدرسياً وصعوبة متابعة العملية التعليمية من كتابة وتحصيل واسترجاع، ليس إلا نتاجاً طبيعياً لاحتياجه الى مزيد من الحب وافتقاده الشعور بالأمان.

ولاشك أننا جميعاً نحب أطفالنا، ولا ندخر وسعاً من أجل إشعارهم بالطمأنينة والأمان، ولكن تظل المشكلة دائماً هي كيف نعبر لهم عن هذا الحب؟ وهل ما نفعله يشعرهم حقاً بالأمان؟ ليس عسيراً أن نلاحظ أن الرضيع الذي لم يتجاوز يومه الأول يكف عن الصراخ لا لإطعامه أو تغيير حفاضاته ولكن لمجرد حمله واحتضانه ومن ذلك اليوم فصاعداً يزداد إلحاح الطفل في طلب الحب والأمان، وبدءاً من الأسبوع الثالث أو الرابع يبدو للجميع مظاهر ابتهاج الطفل عندما تحادثه أو تحمله أمه فتهدأ حركة أنفاسه، ويفتح فمه ويغلقه ويميل برأسه أماماً وخلفاً ويتأمل وجه أمه بإمعان. ومع بداية الشهر الثالث يعبر عن فرحته بالابتسام واللغو وتزداد حاجته الى ان تحمله أمه وتحتضنه ونراه يأبى أن يغيب وجهها عن ناظريه. وحتى يتعلم الجلوس واستعمال يديه في اللهو تقل مؤقتاً حاجته السابقة ويصبح أكثر تحملاً للفترات التي تغيب فيها أمه دون صراخ، وعند الشهر التاسع يثير صياحاً وجلبة إذا رأى أمه تحمل طفلاً آخر وإن كان أخاه الأكبر سنا! بعد العام الأول يحتاخ الطفل الى قدر أكبر من الحب والأمان بعد العام الأول فيزداد اعتماده على أهله ويلح في طلب وجودهم معه دائماً. ويزداد هذا الاحتياج في أوقات المرض أو التعب.

فالطفل دائماً بحاجة الى تأكيد هذا الحب من أهله. إنه يريد أن يشعر دوماً بكونه مرغوباً وأن له كياناً مميزاً ومكاناً محدداً في المنزل كأي شخص آخر، ويحتاج للحب الدافق قبل أي شيء حين يكون متوتراً دامعاً أو يعاني مأزقاً لا يملك أن يحسن فيه التصرف.

ويستطيع الأطفال تفسير وتقدير معالم الحب من ملامح الوجه، ونبرة الصوت، ورقة التعامل، والمثابرة في فهمهم، وكذلك من أسلوب الأهل في محادثتهم. فكلما أمعن الأهل في اللجوء إلى أساليب القهر والضغط والإرهاب وبرود الملامح بغية الحصول على طاعة الطفل، أدى ذلك إلى سيطرة القلق والتوتر وسيادة السلبية والإنكار والتعاسة وعدم الأمان والإحساس بالخطر على سلوك الطفل ونفسيته. وكلما حرصنا على تدعيم صورة الذات بداخل الطفل يإعطائه مزيداً من الشجاعة والثقة والعطف، والتسامي به إلى مصاف سلوكي أعلى يرسي لديه القدرة على الاختيار الحر والاستقلال بدلاً من إحباطه والهبوط بمعنوياته، ازدادت بالتبعية استجابته لنا، تلك الاستجابة المحببة، المفعمة بالثقة والشعور النبيل بالامتنان والاقتحام الجسور لعالم الغد.

وهناك من يعتقدون أن حب الطفل هو أن يأخذ أي شيء يريده، أو شراء أغلى الحاجيات التي قد تلزمه أو لا تلزمه، وعلى هؤلاء أن يعلموا أن سعادة الطفل قد لاتتم بإعطائه ملء الأرض ذهباً ولكن بإشعاره بالحب الصادق. فيجب على الأهل ألا يسرفوا في توجيه الانتقاد واللوم إلى أطفالهم لأن ذلك من شأنه إضعاف شخصيتهم وعدم إقبالهم على الحياة، وشعورهم المستمر بالألم والمرارة والهوان الذي يؤدي إلى اضطرابات سلوكية بالغة هم في غنى عنها.

فعلى كل من يتعامل مع الأطفال سواء كانوا آباء أو أمهات أو أقارب أو معلمين أوأطباء أن يرسخ في علمهم أن الطفل كيان آدمي زاخر بالمشاعر، متفجر بالذكاء وأن أي محاولة لتجريحه أو التهوين من شأنه وإن جاءت بصورة عفوية سوف يكون لها أثرها الفادح في اضطرابه فيما بعد.

لماذا المقارنة؟! ومن أكبر الأخطاء التي يقع فيها الأهل هو عقد مقارنات بين الأطفال وأقرانهم لأن ذلك من شأنه أن يدمر أواصر الحب والألفة بينهم ويشعل في نفوسهم لهيب الغيرة الهدامة التي تنعكس بصورة غير مرغوب فيها على تطوراتهم السلوكية ويجتاحهم شعور دائم بالخطر وعدم الاستقرار.

إن الطفل أشد ما يكون احتياجاً الى ان يشعر بأن أهله يحبونه كما هو ويتقبلونه كما هو، دون أن يكدروا عليه صفو حياته بتوجيه الانتقادات الجارحة، ومن هنا فإن على الأهل دائماً مراعاة مشاعر أطفالهم، والاهتمام بما يقولون وما يفعلون دون تورط في توجيه نقد لاذع أو لوم محبط فعن طريق إشعارالأطفال بالحب الغامروالحنان سوف يستجيبون بالقطع للتربية والتوجيه في حدود أعمارهم.

فعلينا أن نعرف جميعاً أن الطفل يثور على أي سلطة تحاول أن تفرض عليه ما لا يقبله أو تمنع عنه ما يحبه. فالساعة مثلاً لاتعني للطفل أكثر من لعبة وهو لايدري معنى الوقت، فيرفض الامتثال للأكل أو الاستذكار بينما هو مستغرق فى اللعب لمجرد أن وقتهما قد حل، وهو لايفهم معنى جزع أهله وحرصهم على إطعامه أو استذكاره في مواعيد محددة.

كما أن علينا أن ندرك طبيعة الاختلافات الكبيرة في شخصيات الأطفال فهي حقيقة أساسية لتفهم مشاكلهم السلوكية.

الانفصال عن الأهل إحساس الطفل بالأمان يمكن أن يعتريه الاضطراب بالانفصال الطويل عن أحد والديه. فالطفل يتعرض لهذا النوع من الاضطراب عند وضعه بصفة مستمرة في حضانة ليتاح للأم متسع من الوقت للعمل. كما أن من العوامل المسببة للإزعاج والاضطراب في شخصية الطفل انصراف الأم عنة معظم الوقت لقضاء شئونها، تاركة إياه في رعاية مربية قد لا يستريح إليها.

وليس هناك ضرر من ترك الطفل لفترات قصيرة محدودة يمكن للأم فيها أن تجدد نشاطها. وبالأخص إذا ترك الطفل أثناء تلك الفترة في رعاية من يشعر تجاههم بالحب والأمان مثل الجدة أو الجد. ولكن الانقطاع المستمر عن.

الطفل يسبب له شعوراً بعدم الأمان.

كما أنه من الخطأ الشائع أن نتصور أن من الضرورة عدم الانفصال عن الطفل نهائياً. فالأم تحتاج الى بعض الوقت لتصريف أمورها وتنظيم أعمالها.

والتفرغ الكامل للتربية والتضحية بما عدا ذلك جمعاً من أعمال مهمة قد تؤثر في نفسية الأم وتنعكس بالتبعية على مشاعر الطفل. إلا أننا يجب أن نضع في اعتبارنا أن انفصال الأهل الطويل عن طفلهم وبالأخص في السنوات الثلات الأولى قد يؤدي إلى نوع من الحرمان العاطفي الذي يؤثر تأثيراً سلبياً بالغاً في شخصية الطفل وأدائه الدراسي. وكلما طالت فترة الانفصال أدى ذلك بالتالي إلى تأتيرات سلوكية من الصعب تداركها. فالشخص الذي يتعرض للحرمان العاطفي في طفولته المبكرة يصبح غير قادر على إعطاء أو أخذ أي قدر بناء عن العاطفة. كما أنه قد يعاني من تعثر في الدراسة وسيطرة الأفكار الخاطئة بما يتهدد علاقاته الشخصية فيما بعد.

 

أحمد الشرقاوي