عزيزي القارئ

عزيزي القارئ

العولمة والأخلاق

عزيزي القارئ..

لاشك في أن العالم يتحول شيئاً فشيئاً إلى قرية صغيرة. قرية دروبها ممهدة بتقنيات الاتصالات الحديثة, وتدفق المعلومات, وحرية التجارة. لكن هذه القرية العالمية المتصلة دروبها, أو التي في طريقها لتعميم التواصل, تحمل جنين الخطر في رحم الفائدة الظاهرة. فهذا الانسياب لحركة الإنسان, والاتصالات, والمعلومات, والبضائع, يحمل طي أمواجه مخاطر نقل المباذل الاجتماعية, والتخريب البيئي, والسياسي, والثقافي, والاقتصادي أيضاً. فسكان هذه القرية العالمية المنشودة ليسوا كلهم ملائكة, فهناك شياطين أيضاً ـ خاصة من الكبار ـ ومع هيمنة قانون المصالح, والتي تعني في كثير من جوانبها المسكوت عنها مصالح الذوات الأنانية, فإن آلام الصغار تكون مرشحة للتضاعف. وليست الرياح الصفراء التي اجتاحت أسواق شرق آسيا إلا عينة من الآلام المحتملة, التي تحول فيها الضعفاء من أبناء النمور الآسيوية إلى كائنات مرعوبة من خطر المجاعة, تتزاحم حول متاجر الأرز, مجرد الأرز, لتختزن منه زاداً لأيام عجاف, ولو في أفق الخيال المرتعب.

أين يكمن الخلل, أو الخطر, وكيف يحمي الصغار والأبرياء أنفسهم من طوفان العولمة الذي انطلق ولاسبيل لإرجاعه إلى الوراء, على الأقل في المدى القريب المنظور?

ومن زاوية أخرى: كيف يستفيد الصغار وأصحاب النوايا الحسنة من الجوانب الخيرة لفيضان العولمة الذي لاشك في أن به بعض الخير, إن لم يكن الكثير من احتمالات الخير?

هذه الأسئلة هي هاجس حقيقي لدى أبناء العالم المسمى بالثالث, أو الجنوب ـ بالتعبير السياسي والجغرافي ـ برغم الاستثناءات القليلة. ولعل مقالة (مبدأ حرية التجارة ..من وجهة نظر أخلاقية) في هذا العدد تتضمن إجابة ما عن الأسئلة المطروحة. فوضع ضوابط أخلاقية أو علامات مرور أخلاقية في دروب القرية العالمية المزمع تدشينها, صار مطلباً في حاجة إلى تمحيص.

لكن, ماذا لو لم تكف اتفاقيات الأخلاق وأعرافها? هذا سؤال يتقد على وهج الأحداث القريبة في منطقة بحر قزوين, والتي ذهب استطلاع هذا العدد إلى أحد بلدانها (أذربيجان). فتدفق النفط هناك أشعل نيران التنافس بين الكبار لاقتناص أكبر فائدة من هذا الكنز بغض النظر عن الكثير من احتياجات أصحاب الكنز أنفسهم.

هنا يكون منطقيا أن ما لم تحمه اتفاقيات وأعراف الأخلاق الإنسانية الدولية, لابد أن تحميه إرادات الإنسان, النابعة من التاريخ, والواقع, والمعطى الثقافي, والإرث الروحي, والجمالي. ولعل هذه الإشارة تكون في ضمير تكوين هذا العدد الذي لم يكتف بطرح الأسئلة المباشرة في موضع أو موضعين بين صفحاته, فتجاوزها إلى ماهو أبعد من المباشرة, أدباً وفناً وروحاً وثقافة.

وإلى لقاء متجدد.

 

المحرر