أرقام

أرقام

الغجر

كانت الدول الشيوعية تعيد ترتيب أوضاعها، وكان البعض منها مما تعرض للتقسيم العرقي يحدد من جديد أفراد شعبه، والذين يتمتعون بالجنسية الجديدة.. وكان الأصعب تحديدا هذه الطائفة التي نعرفها باسم الغجر أو الدوما.

إنهم ـ ووفقا لتقرير "حالة" اللاجئين في العالم.. والذي أصدرته مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين ـ ثمانية ملايين ينتشرون في وسط وشرق أوربا.

ليسوا لاجئين بمعنى الكلمة فقصتهم في الترحال تمتد لأكثر من عشرة قرون، وقصتهم في الاستقرار تختلف من مكان إلى مكان.. يعترف بهم البعض فيمنحهم الجنسية، وينكرهم البعض فيحرمهم من الجنسية وحق المواطنة!.

حاول البعض إدماجهم في المجتمعات الأوربية فكانت هناك عقبة الانعزال وحرص الغجر على أن يحموا هويتهم الاجتماعية والثقافية.. وحاول البعض إقصاءهم على اعتبار أنهم من الغرباء فلم تنجح المحاولة في كثير من الأحيان، لأنهم مغروسون داخل الأرض وإن اكتفوا منها بالترحال!. قصتهم تبدأ فيما بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين أصولهم هندية رغم أن ملامحهم الآن تبتعد كثيرا عن الملامح الهندية.

غادروا الهند في ذلك الزمن البعيد واتجهوا غربا عبر بلاد فارس، لكنهم لم يصلوا إلى البلقان إلا في وقت متأخر ما بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر.

ضربات متوالية!

اشتهروا بالترحال.. وبالحياة البدوية وكان ترحالهم بحثا عن الرزق، أو بحثا عن الأمن.. استقر بهم الحال في وسط أوربا وشرقها.. لكنهم كانوا يتحركون غربا في مناسبات عديدة كانت أولاها عندما حط بهم الرحال في أوربا، وكانت المرة الثانية في القرن التاسع عشر بعد إلغاء اعتبارهم رقيقا.. أما المرة الثالثة فكانت في الآونة الأخيرة بعد انهيار الشيوعية، فقد بحثت الدول الجديدة عن شعوبها من جديد.. وبحث "الدوما" عن هويتهم وعن دولة تقبلهم!.

التاريخ امتد بهم، لكن أبرز محطاته: اضطهاد ورق وحرب من الدول الأوربية!.

وطبقا لتقرير مفوضة اللاجئين فإنه في الفترة ما بين "1445 ـ 1856" تم الإبقاء على الغجر "الدوما" في رومانيا التي كان يطلق عليها حينذاك اسم "ترانسيلفانيا".. وكانوا محرومين من المواطنة التي اعتمدت على ملكية الأرض.. وكان الوصف القانوني لهم أنهم من الرقيق.

وهكذا كان اللقاء الأول منذ خمسة قرون أو يزيد، لكن التاريخ أعاد نفسه في القرن العشرين حين حاول النظام النازي إبادة الغجر. قالوا إنهم منحرفون اجتماعيا.. و.. من ثم "ينبغي تقيمهم قسرياً! ومن المحظور أن يتزوجوا من المواطنين الألمان!.

وفي وقت لاحق كانت ألمانيا تسجنهم في معسكرات الاعتقال بزعم إنهم ينشرون الجريمة.. ولم يكن رفضهم داخل المجتمع الألماني على أساس اجتماعي فقط، بل كان على أساس عرقي أيضا، وهو ما أدى لإعدام عدد منهم، من المعتقد أنه نصف مليون شخص!.

و.. تمضي رحلة التاريخ، وتحاول النظم الشيوعية في وسط أوربا وشرقها أن تستوعب سكانها من "الدوما" بدلا من أن تستبعدهم أو تقضي عليهم.. حاولت بلدان مثل بلغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا إدماج الغجر في المجتمع عن طريق الاستيطان الجبري وبرامج العمالة.. وتحسنت أحوالهم نسبيا، ولكن وفي وقت لاحق إبان السبعينيات والثمانينيات اتخذت حكومة بلغاريا خطوات من أجل إلغاء الهوية الخاصة والثقافة الخاصة بالغجر.. فطلبت منهم تغيير أسمائهم ومنعتهم من التكلم بلغتهم.. كانت تلك ضربة جديدة، وإن تمتع الدوما في البلدان الشيوعية بمركز المواطنة الكاملة والحقوق المدنية كسائر الأقليات.

الزحف غربا

يسجل التاريخ أن زحف الغجر كان يتم دائما من الشرق إلى الغرب.. من الهند إلى بلاد فارس، ومن بلاد فارس إلى البلقان، ومن دول أوربا الشرقية والوسطى ـ بعد انهيار الدول الشيوعية ـ إلى أوربا الغربية.

ولم ينجح الزحف إلى دول غرب أوربا التي تقاوم أي مهاجرين جدد، ولم يتم الاستقرار في بلدان الشرق.. ولكن بات التركز شرقا، فبين الثمانية ملايين غجري في أوربا يوجد عدد يتراوح بين "1.8" مليون و "2.5" مليون في رومانيا.. ويوجد عدد يزيد قليلا على النصف مليون في هنغاريا، وعدد يقترب من ذلك في كل من يوغوسلافيا وسلوفاكيا.. كما يوجد عدد يتراوح بين "700 ـ 800" ألف في بلغاريا وأقل من ذلك في كل من تركيا والجمهورية التشيكية وروسيا. إنهم ينتشرون في "18" بلدا أوربيا.. والبعض منهم خارج أوربا.

لقد بدأوا كبدو رحل، ومازالوا يحملون بعض سمات هذا الوضع حتى أن "40%" من المهاجرين من رومانيا لألمانيا أخيرا كانوا من بين الغجر، وكانت صعوبة إعادتهم إلى رومانيا أنهم بلا وثائق سفر أو جوازات.. جنسياتهم غير واضحة، واتفاق ألمانيا ورومانيا عام 1992 بإعادة رعايا كل من البلدين إلى موطنه لن يحل مشكلة الغجر!.

في أوربا يقولون: إنهم أكبر الأقليات، وأسوأها حالا. قرون مضت.. ولم يستقر بهم الحال. لهم مجتمعاتهم الخاصة، غير القابلة للاندماج أو الذوبان. لها جذور آسيوية، ومواطن أوربية، ومهن هامشية.. والبعض منهم جاء إلى بلادنا العربية ولم تتغير أحواله.. "غجري بالمولد، والموطن"!

 

محمود المراغي