شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

المحكمة الطائرة .. واستشهاد عمر المختار

راح الناس يتذمرون من ظلم الحاكم الإيطالي الجائر. وما كانوا قد نسوا بعد ما حل بهم على إثر اقتحام جنود الاستعمار الأسود لبلادهم بقيادة زبانية الدوتشي, حين أطلقوا لشهواتهم العنان وعاثوا في البلاد فسادا, وكأن كل هذا الظلم الشائن لم يكن يكفي المستعمرين الذين راحوا ينقضون بكل القسوة على أبناء الشعب الليبي الذي لم يتوان أبدا عن المقاومة بكل ما كان بين أيديهم من سلاح قديم, فإذا بموسوليني يرسل إليه (الجزار جرازياني) الذي ابتدع ما سماه (المحكمة الطائرة) وأعلن قيامها في 30 أبريل عام 1930.

كان هذا الاختراع الذي تفتق عنه ذهن الجنرال الإيطالي الذي جاء خصيصا لإنهاء المقاومة في (برقة) بزعامة عمر المختار, يقضي بأن تنتقل (المحكمة) بالطائرة فورا إلى المكان الذي يقع فيه الحادث, فتعقد جلساتها في الهواء الطلق بالميادين العامة في المدن والنجوع. وكانت إجراءات المحاكمة والتنفيذ تتم بسرعة لاتتجاوز ساعة ونصف الساعة, فلا يسمح للمتهمين بالدفاع عن أنفسهم, ولاتفحص المحكمة شهادة الشهود, بل يكفي مجرد سرد الاتهام لاستصدار الحكم بالإعدام على المتهمين, ويكون تنفيذ الأحكام على أيدي السلطات المحلية في التو والساعة, وذلك كما يقول جرازياني (حتى يشعر الأهالي بأن العدالة تأخذ مجراها بكل سرعة ودون إبطاء)!

هكذا فعلها الإيطاليون ضد الشعب الليبي, وهكذا فعلوها مع الشهيد عمر المختار الذي لم تستغرق محاكمته من بدئها إلى نهايتها سوى ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة. وبعدها أعلنت المحكمة حكمها بالإعدام!

نظارات المختار وجواده

كان جرازياني حين جاء حاكما على برقة, يحمل تكليفا بتعليمات صريحة من قبل حكومة الدوتشي الفاشيستية بضرورة القضاء قضاء تاما على المقاومة ورجالها. وكان التكليف يقتضي أن يجهز أضخم قوات في استطاعته بصورة سريعة وصارمة, للقضاء على المخيمات واستثارة الأهالي والمجاهدين لدفعهم إلى الاشتباك مع الطليان في معارك فاصلة لابد أن تنتهي باحتلال (الكفرة) العاصمة.

وقد شعر المجاهدون بقيادة عمر المختار بما ينويه جرازياني, خاصة بعد أن بدأ ينفذ سياسة عزل الأهالي الخاضعين مرغمين للإدارة الحكومية عن المجاهدين, وكانت البداية بحشد الأهالي في معتقلات امتدت من (العقيلة) حتى (السلوم), ثم حل زوايا السنوسيين ومصادرة أملاكها وأوقافها. وبدأ (الجزار) بعد ذلك يضيق الحصار على المجاهدين في الجبل الأخضر وما حوله, كما أغلق الحدود مع مصر إغلاقا تاما لمنع وصول الأسلحة والتموين إلى المجاهدين. وكانت كل مجريات الأمور من قبل قد راحت تثبت وتؤكد لدى المختار أن الإيطاليين مصممون على القتال حتى النهاية, فأعاد تأكيد ما جاء في ندائه الشهير إلى أبناء وطنه وسكان برقة وطرابلس فخاطبهم قائلا: (ليعلم كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما هو بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا حتى يتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا. فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوب تعرف أنه في سبيل الحرية سنبذل كل مرتخص وغال من دمائنا وأرواحنا).

وبدأ النضال من جديد بين المجاهدين وبين جرازياني وقواته. وكانت بداية هذه المرحلة الجديدة قد بدأت يوم 11 أبريل 1930. فبدأ المجاهدون هجومهم بالانقضاض على قوة إيطالية. ولكن مجيء النجدات السريعة للطليان واضطرار المجاهدين إلى الانسحاب, ما لبث أن جعل المختار يغير شيئا من أساليبه. وأبلى المجاهدون في المناوشات التالية بلاء كبيراً. واستمر الكر والفر على القوات الإيطالية وبالرغم من أنه أصبح واضحا أن المعركة ميئوس منها فإن المختار لم يضعف أو يستسلم. وفي أكتوبر 1930 تمكن الإيطاليون من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على (نظارات السيد عمر المختار) كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة. وثبت لديهم أن المختار مازال حيا, فأصدر جرازياني منشورا قال فيه متوعدا: (لقد أخذنا اليوم نظارات المختار, وغداً نأتي برأسه)! وواصل جرازياني هجومه المركز على (الكفرة) حيث دارت معارك رهيبة انتهت بسقوطها وانهيار المقاومة.

المحاكمة والإعدام

بالرغم من سقوط الكفرة فإن المختار ظل في الجبل يقاوم الطليان, ولكن بعد أن استشهد من رجاله عدد كبير لم يكن من الممكن متابعة القتال.

ولكن المختار برغم ذلك ظل يقاتل وحده حتى قتل حصانه وسقط فوقه, وتكاثرت عليه القوات حتى غلب على أمره بعد أن جرح وأخذ أسيرا.

عقد جرازياني محكمته الطائرة وجيء بالمختار أمام عدوه مقيد اليدين بالسلاسل والأصفاد. كان يسير بصعوبة وقد غطى وجهه بحرامه وبدا في وقفته وكأنه ولي من أولياء الله لم ينل الأسر شيئا من وقاره وجلال هيبته.

وقال له جرازياني: لماذا حاربت الحكومة الإيطالية هذه الحرب الشديدة?

أجابه المختار: لأن ديني يأمرني بذلك.

قال جرازياني: هل كان لديك أمل في إخراجنا من برقة بهذا العدد الضئيل من رجالك?

رد المختار: كان الأمر يبدو مستحيلا ولكني كنت مجاهدا وكفى. أما ما ينجم من هذا الجهاد فالأمر فيه موكول لله وحده.

في آخر اللقاء عرض جرازياني على المختار عفوا شاملا مقابل أن يكتب بتوقيعه نداء للمجاهدين بالتوقف عن القتال وتسليم أنفسهم وأسلحتهم للحكومة. ولكنه رفض قائلا:

ـ إن هذا العمل لايرضي ضميري وديني, فضلا عن أن أحدا لن يصدق صدور هذا النداء من المختار!

وبعد ساعة وربع الساعة من بدء المحاكمة أصدرت المحكمة الطائرة حكمها بإعدام المختار, بعد أن منعت المحامي الذي اختاروه من إتمام مرافعته. وحين سأله رئيس المحكمة إذا كان لديه ما يقوله, كان كل ما قاله المختار: (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 

سليمان مظهر

 
  




عمر المختار





صورة نادرة للشهيد عمر المختار كما أخذها له الفاشيست بعد أسره