التربية وثقافة الحوار

التربية وثقافة الحوار

يجمع الكتاب والمفكرون على ضعف أدوات الحوار في ثقافتنا، وغياب مبادئ التعددية المنفتحة، وسيطرة الرؤية الأحادية المغلقة. فنحن نفتقد أدنى قواعد الحوار، ولا نقبل النقد الموضوعي البناء.

ما أن يبدأ الحوار بيننا حتى يتحول إلى صراخ ومهاترة ورفض للرأي الآخر ومعاداته، بالنفي حينا وبالعدوان اللفظي، أو المادي في غالب الأحيان. ونشعر بجرح غائر عندما نتعرض للنقد، وتتسارع ثورة الغضب والانفعال.

ويتخطى هذا القصور، في ثقافة الحوار، الأفراد والجماعات ليصل إلى الأنظمة والمنظمات، بمختلف أشكالها وأحجامها. فلو امتلكنا الحد الأدنى من ثقافة الحوار لكنا أقل تفككا وأقل تباعدا وأكثر تلاحما وتوافقا في الدفاع عن مصالحنا العليا وفي السمو بهيبتنا - كأمة - أمام العدو وأمام الصديق.

يعزى هذا القصور في ثقافة الحوار إلى خصائص الذهنية العربية حيناً، وإلى قصور في المناهج المدرسية في بعض الأحيان. ويعزى في أحيان أخرى، إلى فشل المشروع العربي للنهضة والتنوير وتلاشيه، وبروز الاتجاهات المتطرفة. فهل يفسر ذلك ظاهرة انخفاض القدرة على قبول الرأي الآخر، والإخفاق في تطوير الحوار المنتج، وبلورة عناصر الاتفاق والتوافق وعزلها عن مواضع الخلاف والاختلاف، والبناء على ما هو مشترك وتطويره وتقليص مساحة الاختلاف، وإبداع آليات فكرية لاحتوائها ومعالجتها. فقبول فكرة الآخر ومناقشتها بدلا من رفضها وإشاعة التفكير العلمي المستنير الذي يستند إلى التعددية، دون التقيد بمصدر وحيد في تكوين الرأي أو الفكرة، هو المدخل الرئيس لثقافة الحوار.

عندما كانت أوربا تغرق في الظلام والجهل والتخلف، في ظل سيطرة الكنيسة وشيوع التفكير الخرافي، كانت الحضارة العربية في أوج تألقها، وكانت المدارس والجامعات العربية الإسلامية توفر للعلماء وللباحثين المكانة اللائقة والحرية التي مكنتهم من إجراء التجارب والبحوث واكتشاف أسرار العالم. ففي أثناء الغزوات الصليبية للشرق العربي، كان الطب الغربي يقوم على الخرافة والشعوذة، في حين كان الطب العربي يستند إلى المعرفة بأسرار الجسد وأسرار الدواء والغذاء وتأثيرهما في الشفاء. ولا يستطيع أحد أن ينكر دور الحضارة العربية الإسلامية في يقظة أوربا من سباتها العميق.

التفكير الخرافي

في أيامنا هذه، يبدو أننا تبادلنا الأدوار مع الأوربيين، فأبقينا على الشعوذة والتفكير الخرافي في حين أخذوا عنا العلم والفكر. فمن المؤكد أن الأسس العقلية المعرفية للحضارة الغربية تأثرت، إلى حد بعيد بالعقلانية العربية الإسلامية (فلسفة ابن رشد)، وبالجامعات الأندلسية، التي أصبحت منارات تشع على القارة الأوربية. بزغ فجر الحضارة الحديثة، كنتيجة لسيادة سلطة العقل والتفكير العلمي، في مختلف ميادين الحياة واستبعاد التفكير الغيبي الخرافي.

حدث هذا التطور الحضاري عبر كفاح طويل من أجل الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير، فالكثير من العلماء الأوائل دفعوا حياتهم دفاعا عن أفكارهم ومكتشفاتهم وثمنا للحقيقة. فالحرية هي الحاضنة والإطار المناسب لتنمية ثقافة الحوار، وقبول الرأي الآخر. فأين مجتمعاتنا من كل هذا؟

لم تعد مسألة غياب ثقافة الحوار مسألة ترف فكري بالنسبة للثقافة العربية, بل أصبحت قضية وجود. فما أشبه اليوم بالأمس، عندما وقع العالم العربي الإسلامي بين فكي كماشة، إبان هجوم التتر والمغول من الشرق والصليبيين من الغرب. لقد بدأت كل مشاريع هيمنة القوى الكبرى في بلادنا بالاستناد إلى مبدأ فرق تسد، وعملت على عرقلة وحدتنا وتوافقنا حتى في حدوده الدنيا ودأبت على تعميق خلافاتنا وهي تدرك جوانب ضعفنا وصعوباتنا في تجاوز تناقضاتنا. ودخلنا دوائر، يصعب الخروج منها، دوائر توصلنا إلى حتفنا بأيدينا، لتتجنب هذه القوى تكاليف هذا الإفناء المادية والأخلاقية. فكيف لأمة عظيمة كأمتنا أن ترضى بأن يصيبها كل هذا الهوان ؟ وكل هذا الدمار؟ وكل هذه الدماء، وهي تنظر إلى جلادها يقطع أوصالها ويسلخ جلدها دون فعل، بل تنتظر الفصل الأخير. لقد وقعنا من جديد بين فكي الكماشة : الاستبداد الفكري الثقافي والسياسي من جهة، والقوى الخارجية الطامعة من جهة ثانية، فالأول يمهد السبيل للثاني، أدرك ذلك أم لم يدرك، فمهما تناقضا ظاهريا ينتهي الفعل والسلوك إلى تحقيق مطامع الغزاة. فالاستبداد والادعاء باحتكار الحقيقة يؤدي إلى إنتاج العقم الثقافي والتخلف العلمي والاجتماعي والاقتصادي، حيث يفقد المجتمع مقومات التقدم والإبداع، وينخره الفساد وتصاب دفاعاته بالشلل.

ينشأ الطفل في الأسرة التي تطبعه بطابعها، وتعمل على تحويله من كائن بيولوجي إلى كائن اجتماعي ثقافي، إذ يتمثل الطفل عبر تفاعله مع الأسرة، ثقافة المجتمع ولغته ومفاهيمه وقيمه وعاداته وأساليب تفكيره. ولما كانت الأسرة العربية ذاتها تفتقر إلى ثقافة الحوار، فكيف يمكنها أن تعلم الطفل ما لا تعرفه؟ خصوصا أنها تعيش في إطار اجتماعي تسلطي يغلب عليه القمع والديكتاتورية، يلغي أبسط قواعد الحرية في التفكير وفي الحوار، ولا يسمح بالتعددية.

الطاعة لا التواصل

يقوم التفاعل بين أفراد الأسرة في المجتمعات العربية على المراتبية والطاعة، فالأهل يلقنون الطفل الأوامر والنواهي، ما هو عيب وما هو حرام، وما عليه إلا القبول والإذعان، فالزوج يقرر والزوجة والأطفال ينصاعون لهذا القرار، والأم تقرر وعلى الطفل الرضا والقبول. ويغيب الحوار وتغيب المناقشة للكثير من المشكلات والتساؤلات المشروعة التي تدور في ذهن الأطفال.

تبين الملاحظات الميدانية للتفاعل بين الأهل والطفل (في عمر السنتين) الفروق الواضحة بين عينتين: تعود الأولى إلى أسرة تنتمي إلى إحدى المدن الأوربية، بينما تنتمي الثانية إلى إحدى العواصم العربية. في العينة الأولى، يركز الأهل على التواصل مع الطفل ومناقشته وأخذ رأيه والإصغاء له والاهتمام بما يقول ومخاطبته بمنتهى التهذيب، وكأنه شخص بالغ، يمتلك أدوات المعرفة والتفكير، في حين يقتصر التفاعل لدى العينة الثانية على الأوامر والنواهي، وعدم الاهتمام برأي الطفل ولا بالحوار معه.

إن المؤسسات التربوية المعنية بالطفولة المبكرة، خصوصاً الأسرة العربية، يجب أن تجعل الحوار قاعدة في التعامل مع صغارها، فتجنب الأساليب القمعية وتجنب إصدار الأوامر والنواهي والتقليل من القيود وجعلها في حدودها الدنيا، أصبحت من الأسس المهمة التي تتيح للطفل النمو المناسب. فالطفل يحتاج إلى الحرية، كحاجته إلى الهواء والماء والغذاء، حرية الحركة في المكان المناسب، حرية التعبير، حرية اللعب، حرية التعرف على العالم الخارجي وحرية الحوار وطرح الأسئلة والتفاعل مع الآخرين. فالطفولة لا تحتاج إلى التشدد ولا إلى الكثير من القيود.

إن تربية ثقافة الحوار تبدأ منذ الطفولة المبكرة فهذه مسألة تربوية بامتياز، تبدأ في إطار الأسرة التي تعززها ثقافة اجتماعية مناسبة. فمتى تدرك الأسرة العربية أهمية الحوار في نموها المعرفي والعاطفي وفي تنمية قدرات أطفالها؟ فالحكمة التي بلورتها الفلسفة اليونانية منذ القدم «الحوار يولد العقول» تحكم علاقات التواصل بين البشر في إطار الأسرة أو في النظام التربوي في الحضارة الغربية، منذ عصر النهضة.

عندما ينتقل الطفل إلى المدرسة، يتم تكريس ثقافة البعد الواحد، فالمعلم هو الذي يحمل الحقائق ويلقنها(يشرحها) للتلاميذ. فالحوار غائب أيضا عن أنظمتنا التربوية التي تقوم على الحفظ والتلقين لا على تنمية التفكير العلمي الحر الناقد، ولا تعمل المدرسة على ترسيخ العقلانية بدلا من التفكير الغيبي والخرافي. وهكذا يعيد النظام التربوي إنتاج الكثير من عناصر الجهل والتخلف والأمية المعرفية الثقافية. فالتعليم المدرسي الذي يقوم على تعويد الطفل استقبال «المعلومات» الجاهزة لا يضع الطفل في حالة من التحفز للبحث والاستكشاف والمشاركة في الوصول إلى المعلومة، وفي إبداع الحلول للأسئلة المطروحة، فالتربية في أساليبها الحالية لا تنمي عند الطفل الفضول المعرفي وحب الاستكشاف، بل تعوده الاستكانة والسهولة في تلقي المعلومة الناجزة دون إعمال الفكر وعناء البحث.

لا تستند أهمية التعليم الحديث إلى كمية المعلومات التي يجب أن يمتلكها المتعلم فقط، بل بمدى تأثيره في البنية العقلية المعرفية للطفل بحيث تصبح هذه البنية أكثر فأكثر تطورا ونموا كلما تقدم الطفل في التعلم.

المشاركة طريق التعلم

يقوم التعليم الحديث على نشاط الطفل ومشاركته مشاركة فعالة في التعلم وفي اكتشاف الحقائق والتوصل بنفسه إلى النتائج والمبادئ وتعويده النشاط العقلي وإعمال الفكر وبلورة الرأي الذي يستند إلى القياس والبرهان. إن أفضل أنواع التعلم وأكثرها رسوخا هو الذي يتوصل إليه المتعلم بنفسه، بحيث يكون دور المعلم دورا موجها يتدخل فقط عند عدم قدرة المتعلم على التقدم، ويتوقف هذا التدخل مادام الطفل تمكن من التقدم بمفرده، فالطفل هو محور النشاط في غرفة الصف الحديثة، وهو في حالة تحفز عقلي، لا ينتظر المعلومات الجاهزة، يقدمها المعلم الواعظ، وإنما يجهد بنفسه للوصول إلى المعلومات، وإلى اكتشاف الأشياء وخصائصها.

إن الحوار مسألة تربوية، وثقافة الحوار تضرب جذورها في الطفولة المبكرة. وتعميق هذه الثقافة يرتبط بإعادة التفكير في النظام التربوي برمته.

كما أن الشخصية الإنسانية برمتها هي محصلة لمنظومة متداخلة من الخبرات التربوية التي عاشها الفرد، تتأثر خصائصها بطبيعة النموذج التربوي الذي عرفته. فالتربية القائمة على الحوار، والديمقراطية تؤثر تأثيرا عميقا في استجابات الفرد وفي انفعالاته، تنمي القدرة على تبادل الأدوار والقدرة على الإصغاء وضبط السلوك والسيطرة على الانفعالات، على عكس النموذج الآخر الذي لا يتيح حرية التعبير ولا يسمح بتقديم الكثير من الفرص لضبط السلوك والانفعال مما يفسر سرعة الانفعال التي كثيرا ما تعطل الحوار في الثقافة العربية.

لا يزال بعض المربين يتحدثون عن مدرسة الضرب، وعن العقاب كوسيلة تربوية. وهذا يشير إلى أي مدى كانت قضية التربية القائمة على الحوار، ومازالت مهمشة في الواقع العربي.

يجب إن يُلغى مصطلح الضرب من قاموس التربية الحديثة إلغاءً نهائياً بحيث يصبح جزءاً من الماضي التربوي غير المشرق. لأن الضرب يضر بالطفل ويعرقل نموه وتعلمه وتطور قدراته المختلفة، إنه جزء من ثقافة الاستبداد، ونقيض الحرية والديمقراطية والحوار.

آن الأوان لإشاعة التفكير الناقد الحر القائم على تحكيم العقل وعلى الحوار واحترام حق الآخر بالاختلاف والتعبير عن أفكاره.

يرى د. محمد جواد رضا في كتابه: «العرب والتربية والعالم» أن التربية، بواقعها الحالي، تعمل على تنشئة أجيالنا على أن يفكروا. إنهم غير قادرين على التفكير وبهذا تعطل فيهم فعل العقل وتقتل روح الإبداع والقدرة على تحمل مسؤولية الرأي الصريح الصادق وتحقق فيهم مقولة ابن خلدون «إن من كان مرباه بالعسف ألف العبودية ونبغ في النفاق, وتعود الاتكالية العقلية». شيء ما سرق منا نحن العرب روح العقلانية ووجوب القياس العقلي التي رسخها الكندي وابن رشد، فطريق العقلانية والحرية طريق الخروج الأوحد من الهزيمة والسقوط.

لا تزال مناهجنا الدراسية تعاني من الازدواجية حيث تضع جنبا إلى جنب نمطين فكريين: النمط العقلي والنمط الغيبي ولم يحسم الموقف لمصلحة المنطق العلمي، مما يترك غموضا ضارا في فكر الناشئة. إن انقطاعنا وتوقف تجربتنا الحضارية سمح بعودة التفكير الخرافي والشعوذة التي تطبع حياتنا اليومية، وأصاب مؤسساتنا التعليمية العقم وتدني الفاعلية.

الأسرة والديمقراطية

أصبحت الديمقراطية ركيزة مهمة من ركائز التربية الحديثة داخل الأسرة وخارجها، فالعلاقة التي تقوم على الحوار، وتنظر إلى الطفل على أنه شخص قائم بذاته، تنمي شخصيته، وتنشط تطوير قدراته المعرفية واللغوية والانفعالية، وتفتح أمامه آفاقاً رحبة للنمو من مختلف الجوانب. فالعلاقة التربوية القائمة على الحوار تجعل الطفل معنياً بما يدور حوله، فاعلاً في هذا العالم ومؤثراً فيه، يتعود تدريجياً تحمل المسؤولية، وتنمو لديه الثقة بالنفـس. كما أن الحوار يعوّد الطفل ضبط السلوك وتبادل الأدوار وينمي عنده قدرات التواصل ومهارات التبادل مع الآخرين. مما يمكنه من دخول الحياة من بابها الواسع، واثقاً من نفسه متفائلاً، نشطاً في دوره، وباحثاً عن تحديد مكانته.

ليست الديمقراطية مسألة سياسية، فقط، وإنما هي مسألة تربوية أيضاً يجب أن تبدأ في البيت العربي في المراحل الأولى من نمو الطفل وفي علاقاته الأولى مع الأسرة «فالحوار يولد العقول» هذه المقولة اليونانية القديمة تصبح أساساً مهما من أسس التربية الحديثة. ما أحوجنا الى تطوير مهارات الحوار عند الصغار والكبـار، بين الأهل وبين الطفل وبين المربين والتلاميذ. فالحوار ضرورة تربوية وهو بالنسبة للطفل حاجة من حاجات نموه وتفتحه.

 

 

 

 

فايز نايف القنطار