الفضائيات وثقافة الاستهلاك

الفضائيات وثقافة الاستهلاك

الثقافة الاستهلاكية ظاهرة عالمية، لا تقتصر على مجتمع بعينه، أو فئة بعينها من الناس، ولكنها بفضل الفضائيات وما تبثه من إعلانات تتواصل في إلحاح، جعلت من الاستهلاك ظاهرة عامة بين معظم الطبقات.

عادة ما توصف المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، على أنها مجتمعات استهلاكية. فقد تحوّلت هذه المجتمعات إلى الاستهلاك بعد أن نجحت في تحقيق طفرة في الإنتاج، فازداد حجم المعروض من السلع، وتحوّل الإنتاج إلى هدف في حد ذاته، الأمر الذي أدى إلى تكدّس للسلع، ووفرة في أنواعها. وفي إطار هذه العملية، أصبحت الدعوة إلى الاستهلاك جزءاً من العملية الإنتاجية. وانتشر الميل إلى الاستهلاك، وشملت المظاهر الاستهلاكية كل شيء، وأصبحت تسيطر على كل تصرّفات الأفراد وسلوكهم تجاه السلع وطرق إشباع رغباتهم منها، واندمج الإنسان في هذا المجتمع الجديد إلى درجة أنه لقّب بالإنسان المستهلك.

وتتميّز النظرة السوسيولوجية بأنها تنظر للاستهلاك نظرة بنائية شاملة في ضوء التطورات التي خضع - ويخضع لها - المجتمع. فإذا كان الاستهلاك قد أصبح قاسماً مشتركاً بين المجتمعات والأفراد، وإذا كانت ثمة نزعة استهلاكية تتسرّب إلى نفوس الأفراد، وسلوكياتهم الشرائية، فإن مرد ذلك إلى ظروف بنائية، تاريخية، ترتبط بتطوّر النظام الرأسمالي وتطوّر نظم الإنتاج والثقافة داخله.

وإذا كان هناك تأثير لثقافة الاستهلاك، فإنه أوضح ما يكون على الأفراد، وقد ذهب كريستوفر لاش C.Lash إلى أن اقتصاد السوق - القائم على الاستهلاك الجماهيري - قد أدى إلى ظهور نمط الذات المعتمدة أو الموجهة بالآخرين Other Oriented، ولا تعتمد في تقدير نفسها على محددات داخلية، بقدر ما تعتمد على أحكام الآخرين، وقبولهم لها. وهكذا تحوّلت إلى ذات خاضعة لا تملك من أمر نفسها شيئاً.

سمات الثقافة الاستهلاكية

- توصف الثقافة الاستهلاكية بأنها مادية، فهي تستهدف استهلاك السلع المادية. لكن الثقافة الاستهلاكية شهدت تغيرات كثيرة تمثلت في نمو الإنتاج السلعي الكبير، وإقامة أسواق جديدة للسلع الاستهلاكية، وظهور أنماط جديدة للتسوّق Shopping، وليس الشراء فقط buying، وأصبحت هناك المحلات الضخمة ذات الطوابق المتعددة، والأقسام الكثيرة، كما أصبحت «المولات Malls» الجديدة شاهقة المباني، وحديثة التصميم، متعددة الأغراض، لا تقتصر فقط على البيع والشراء، بل تجاوز ذلك إلى متع أخرى يجد مرامه فيها الكبير والصغير، والشاب، مثل دور السينما، والكافيهات، ومركز ألعاب الأطفال، وأحياناً مراكز صحية، وخدمات بنكية وسياحية.

- لا ترتبط الثقافة الاستهلاكية بالنواحي المادية فقط، وإنما تتمثل في جوانب معنوية، تعد أهم جوانب الثقافة الاستهلاكية على الإطلاق، وتتعلق باستهلاك المعاني والخبرات والصور.

- للثقافة الاستهلاكية خاصية إضفاء الطابع الأنيق المتميز Stylish على السلع والمنتجات، بحيث يكون للمنتج، أسلوب متميز يعبّر عن تفرّد صاحبها، وغالباً ما تعبّر الثقافة الاستهلاكية عن ذلك بربط السلع والمنتجات بشخصيات معينة مثل نجوم السينما، أو الشخصيات العامة الناجمة ذات الأسلوب المميز.

- تتسم الثقافة الاستهلاكية بالتحوّل المستمر والسريع، ويظهر هذا التحوّل في مستويات عدة، أولها مستوى عام يرتبط بقابلية المعاني التي ترتبط بقابلية ثقافة مستويات عدة، أولها مستوى عام يرتبط بقابلية المعاني التي ترتبط بقابلية ثقافة الاستهلاك للتحوّل، ولذلك فقد وصف أحد الباحثين ثقافة الاستهلاك بأن «كل شيء فيها يصبح قابلاً للتبادل مع أي شيء».

- إن الثقافة الاستهلاكية تغرس في نفوس الناس طموحات استهلاكية كبيرة، وتخلق في تصوّراتهم أحلاماً وردية، ما هي في الواقع إلا يوتوبيا أو واقع مزيّف، ذلك أن الفرد ما يلبث أن يكتشف أن هذا العالم ما هو إلا حلم جميل عندما لا يتمكن في الواقع من الوصول إليه.

- من طبيعة الثقافة الاستهلاكية أنها ثقافة رمزية، تتأسس على الإنتاج المستمر للعلامات Signs، والرموز Symbols. فالمستهلكون على وعي بأنهم يتحدثون من خلال مظهرهم وملبسهم، والسلع والممارسات التي تحيط بهم. وينسحب ذلك على السلوك في المنزل مثلما ينسحب على السلوك في الأماكن العامة، وأماكن قضاء وقت الفراغ، وأماكن التسوّق.

فالثقافة الاستهلاكية تخلق من الرموز ما يجعلنا نفهم ذواتنا وذوات الآخرين على نحو معين، وتمتد رمزية ثقافة الاستهلاك إلى الجانب التذوّقي والجمالي في الثقافة. وتخضع الرموز والعلامات في ثقافة الاستهلاك إلى التغيّر المستمر. وتتخلل كل المعاني الثقافية القائمة.

- تتصف الثقافة الاستهلاكية بأنها ثقافة قهرية، تدفع الناس دفعاً إلى الاستهلاك والجري وراء طموحاتهم، بصرف النظر عن الفوائد الفعلية المتحققة من ذلك وهي قهرية، لأنها تعتمد على عنصرين قهريين في انتشارها: الأول هو التقليد الذي يدفع الناس إلى تكريس كل حياتهم لأن يحصلوا على كل ما حصل عليه أقرانهم الآخرون، والثاني يأتي من التقاليد التي تنجح الثقافة الاستهلاكية في استخدامها وتوظيفها، ويظهر ذلك في حالة الاحتفال بالمناسبات التقليدية، دينية كانت أم غير دينية، حيث يتحوّل الاحتفال بالمناسبة إلى حفل استهلاكي من الطراز الأول.

الطفل والاستهلاك

الطفل فرد في أسرة، مستهلك للغذاء والملابس واللعب، والمصروف وما تملكه الأسرة من أجهزة وأدوات. والتنشئة الاستهلاكية هي العملية المستمرة التي يتعلم الطفل من خلالها، المعارف والمهارات والاتجاهات التي تتناسب مع السلوك الاستهلاكي المتعلق بالحصول على المنتجات، أو الخدمات واستهلاكها.

إن الأسرة لها دور مهم في التنشئة الاستهلاكية للطفل، فالأطفال يتعلمون السلوك الاستهلاكي من خلال سلسلة من المواقف، ومعاملة الآخرين لهم، والأماكن التي يمارس فيها هذا السلوك.

هذا إلى جانب أن هناك دراسات، أظهرت أن سلوك الأم الاستهلاكي والمعلومات الخاصة بهذا السلوك، والتي تسعى الأم لتعليمها للطفل، لها تأثير في تقويم الطفل للسلعة. وتؤكد دراسات أخرى أن وجود القدوة السليمة، وبخاصة في فترة الطفولة يساعد على سرعة التعلم، وغرس العادات، والقيم والاتجاهات الصحيحة نحو الاستهلاك والتركيز على المفاهيم الخاصة بترشيد الاستهلاك. كما أن توافر الفرصة المناسبة للطفل من الصغر للمشاركة في عمليات الاختبار والشراء، تنمّي لديه القدرة على حسن الاختيار، مع تعويد الطفل على الاقتصاد والتوفير. وتقليل الفاقد في كل نواحي الحياة الاستهلاكية.

وتتشكّل الهوية الاستهلاكية للطفل أيضاً، بتأثير من أقرانه Peer Group، الذين قد ينشرون أو يؤكدون أهمية سلع استهلاكية معينة، قد تكون مجرد سلع ترفيهية يترتب عليها إفراط شديد في استهلاك غاب عنه الترشيد، لكنها تعطيه التميّز، وتكسبه القبول بين ثلة أقرانه.

أما مجالا الإعلام والإعلان، فيشتركان أيضاً في التنشئة الاستهلاكية للطفل، بعمليات الترغيب والتحبيب المستمرة التي تلهب عقل الطفل والمراهق وأنظارهما، سعياً وراء مزيد من الاستهلاك، فالوسيلة الإعلامية تؤثر تأثيراً ديناميكياً على الأطفال.

وثقافة الاستهلاك الترفي ترتكز على إنفاق المال على سلع كمالية وفي مناسبات غير ضرورية. وتكرس الإسراف، والتبذير بقصد التباهي وحب الظهور وتعويض نقص اجتماعي معين.

فهناك - إذن - أنواع من السلع لا نقدّرها لصفاتها الذاتية، أو لاحتياجنا الفعلي لها، ولكن وفقاً لما تمثله من مكانة اجتماعية، والحقيقة أن السلوكيات الاستهلاكية بدأت تتغير، بسبب ثورة المتغيرات، والإنتاجية الكبيرة، أو لأننا ننتهج مسلكاً استهلاكياً لإخفاء شيء ما في نفوسنا، كمستوانا المالي، أو الثقافي مثلاً، ولذا كان خيارنا عشوائياً بحسب ما يمليه ذوق المصمم، أو حسب النص الإعلاني في التلفزيون.

ويعد الاستهلاك الترفي مرضاً اقتصادياً اجتماعياً له مخاطره، وآثاره، ويتأثر الطفل بنمط السلوك الاستهلاكي لوالديه والمحيطين، منذ الصغر، وعملية التنشئة الاستهلاكية، هي عملية مستمرة يتعلم الطفل من خلالها المعارف، والمهارات، والاتجاهات التي تتناسب مع حصوله على المنتجات.

ماذا يفعل الإعلان؟

ويعد الإعلان التجاري عن السلع في وسائل الاتصال الجمعي، وأهمها التلفزيون من الوسائل المهمة التي تلجأ إليها المؤسسات والشركات التي تنتج هذه السلع، والمحلات التي تبيعها. ولقد أصبح الإعلان التجاري يحتل حيزاً ملحوظاً مما تنشره الصحف والمجلات، ومما يرسله التلفزيون يومياً.

وينهض الإعلان التجاري الحديث، في كثير من الحالات، على قاعدة من المعرفة، والحقائق العملية المتصلة بدوافع الشراء لدى المستهلكين، وتصرفاتهم في موقف الشراء، وطبيعة رغباتهم، وأهدافهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم، وعلاقة ذلك كله بالسلعة المراد تسويقها، وبعملية الشراء، فالأخصائيون - الذين يعملون في الجهات المسئولة عن تصميم الإعلانات التجارية - يحاولون الإفادة من تلك المعرفة العلمية. ويحاولون عند إعدادهم للإعلان عن سلعة معينة أن يجعلوا الإعلان قادراً على خلق الشعور لدى المستهلك بحاجته إلى السلعة، ورغبته في شرائها، مستخدمين في ذلك أقصى ما يمكن استخدامه من عناصر التشويق وإثارة الانتباه.

والثقافة الاستهلاكية هي ثقافة صور وتصوير، في جوهرها، ويتبدّى ذلك في تعاظم صناعة الصور المتحركة، وازدياد الإعلانات التجارية المصوّرة في الصحف والمجلات وأجهزة التلفزيون، بحيث صارت تلك الإعلانات أهم قنوات نقل الثقافة الاستهلاكية.

وقد تأثر الأطفال بنوع خاص بالإعلانات التجارية للتلفزيون على اعتبار أن الأخير يعد من أكثر الأجهزة الإعلامية تأثيراً على العديد من المجالات، إن لم يكن أكثرها جميعاً وأشدها تأثيراً وخطراً. ويوصف المجتمع المعاصر - وخصوصاً في المجتمعات المتقدمة - بأنه «مجتمع الفرجة»، ويعني ذلك أن «الصورة» التي تنقلها أجهزة التلفزيون عبر الأقمار الصناعية حلّت محل الكلمة، وأصبحت هي التي تشكّل الاتجاهات، وتصوغ القيم، وتوجه سلوك ملايين المشاهدين، وهكذا تسود ثقافة الصورة على غيرها من الثقافات.

ويلعب الإعلان دوراً أساسياً في مجتمعات العالم الثالث، حين يحاول تنشئة أطفال هذه المجتمعات على قيم الاستهلاك الغربية، وبخاصة الاستهلاك الترفي، وذلك من خلال استخدام الإعلان كوسيلة رئيسية في هذا المجال.

وإذا كان للتلفزيون تأثيره الواضح على الجميع، فإن تأثيره على طفل ما قبل المدرسة هو الأكثر وضوحاً، فهو يبرز الموضوعات في صورها المثالية، وذلك يدفع الأطفال إلى الارتباط العاطفي بمضمون الإعلان، وعلى محاولة تقليده، وأثناء ذلك يتبنى قيمه، والارتباط بالسلعة المعلن عنها.

ومن الممكن أن يتوحّد الطفل مع الشخصية التي يقلّدها، لأنه أعلى مراحل التقليد، حيث يتبنى الطفل نمطاً من السمات والدوافع والاتجاهات والقيم، التي توجد لدى الشخص المتوحد معه. لكننا نلاحظ أن السلوك المكتسب عن طريق الملاحظة والتقليد، يكون من السهل تغييره، أما السلوك الذي يتمثله الطفل عن طريق التوحّد، فإنه يكون ثابتاً نسبياً مع التأكيد على أن الطفل قد يتوحّد مع سلوكيات الشخصيات التي يتعامل معها في الحياة (الأب بالنسبة للطفل، والأم بالنسبة للطفلة)، أو التي يشاهدها في التلفزيون ويتعامل معها من خلال خياله. ومن الملاحظ أن كثيراً من المواد الإعلامية كالمسلسلات، والأفلام السينمائية والإعلانات التجارية، تزيد من ترسيخ قيم وعناصر غريبة، تؤثر على الثقافة التقليدية الأصيلة للمجتمع العربي، وتشوهها، وهي أيضاً تشجع الروح الاستهلاكية، وبخاصة الترفي منها، على حساب الاتجاهات الإنتاجية، مما يشكّل آثاراً سلبية على تشكيل وعي الطفل واتجاهاته نحو مختلف الموضوعات.

ومن اللافت للنظر أن أكثر القائمين بإعداد الإعلانات التلفزيونية للأطفال، يعملون في غياب معرفة شبه كاملة لخصائص جمهور الأطفال الذين يخاطبونه، وسماته، واحتياجاته، ومتطلباته، حيث إن هناك غياباً لحد كبير لرؤية ثقافية تربوية واضحة تتواكب مع أصول الثقافة العربية الإسلامية، وتتفق مع معطيات العصر، ويركزون على كيفية إبهار الأطفال وكيفية الترويج للسلعة في المقام الأول. وهذا يؤدي في الغالب إلى نشر أفكار، ومعتقدات تؤدي إلى تعميق الاغتراب الثقافي والاجتماعي لدى شعوب العالم الثالث بعامة، والشعوب العربية بخاصة.

 

 

 

 

سامية حسن الساعاتي