الترجمة طريقاً للتفاهم بين الثقافات

الترجمة طريقاً للتفاهم بين الثقافات

كاتب هذا المقال مستشرق معروف درس العلوم الإسلامية والأدب الألماني والفلسفة في «جوتنجن» ودمشق، و«بيركلي» و«بون». وهو يعيش الآن في «كولن» ككاتب وناقد أدبي، ومترجم ورئيس التحرير لمجلة «فكر وفن».

في عام 1952 كتب عالم الأديان الروماني الشهير «مرسيا إيلياد Mircea Eliade» في مذكراته اليومية الجمل التالية البالغة الوضوح:

«يجب عليّ أن أقول مرة وفي كان ما أن ثورة الطبقة العاملة «البروليتاريا» لم تكن الظاهرة الأهم في القرن العشرين، وإنما الظاهرة الأهم هي اكتشاف الإنسان غير الأوربي وعالمه الفكري. نحن نبدأ الآن بالتعرّف على الأصالة والخصوصية الفكرية لهذه الحضارات الأجنبية. إن الحوار مع هذه الحضارات يبدو لي أكثر أهمية لمستقبل الفكر الأوربي من الجديد العقلي الذي يمكن أن يحققه تحرّر الطبقة العاملة».

لقد كان «إيلياد» محقّا في تقييمه، وهذا يظهر جلياً في أن الحديث عن «البروليتاريا» قد انتهى الآن تقريباً، بينما أصبح «الإنسان غير الأوربي وعالمه الفكري» الموضوع رقم واحد للنقاش والحوار، حيث يُشتكى منه ويُخطب ودّه ويُخاف منه، وهو موضوع خلافي كما كانت «البروليتاريا» ذات يوم. هذه الحالة تكتسب مغزى خاصاً، إذ إن الموقع الاجتماعي المعقد الذي كانت تحتله «البروليتاريا» استولى عليه ناس غير أوربيين.

زد على ذلك فإن خطر «البروليتاريا» ضد الاستقرار الاجتماعي والثقافي والذي بدا داهمًا في يوم ما يُسقط اليوم علي الإرهاب، وعلى موجات الهجرة الإفريقية أو على الازدهار الاقتصادي الصيني.

ولكن هل اكتشاف أصالة الغريب ممكنة؟ أليست القدرة على التجديد والانفتاح الفكري، - اللذين هما الهدف - شرطاً مسبقاً في الوقت نفسه؟ إن هذه الشروط المسبقة ليست متوافرة بسهولة حتى في مجتمع حديث ومتنور.

أهمية النص

عند الإجابة عن السؤال كيف يمكن التعرّف والاطلاع على عظمة الثقافات الأخرى، فإن ما يهمنا بدرجة رئيسية هو الجانب الجمالي للغة والترجمة أيضاً. في هذا المجال، يُتخذ القرار الأولي فيما إذا كان ما طالب به «إيلياد» من إدراك لأهمية النص متوافرا أم لا. من الواضح في هذا الصدد أن للمترجمين دوراً معيناً عليهم تأديته. ولكن ما لا يُعرف كثيراً أن هذا الدور مختلف من نواح عدة، وأكثر تأزماً من دور الوسيط الذي يتحرك في وسط جماهيري ملم بالأمور الثقافية إلى حد ما. مَن يترجم من لغات غير أوربية عليه أن يتصدى لمشكلة لا تتصل فقط بالناحية اللغوية، وإنما تتعلق بنقص المعرفة بالإنجازات النوعية للحضارات الأجنبية. وهذه الحالة هي نتيجة غياب قاعدة التقييم الصحيحة. إن النتاج الثقافي الأجنبي الحقيقي يُحرم من معايير التقييم المعتادة. ومع ذلك، فإذا تجرأ أحد على إعطاء تقييم ما، وهو ما يبدو أحياناً أمراً ملحاً، فإن هذه المعايير تقود غالباً إلى الخطأ وتوحي بوجود نقص أو إنجازات بعيدة كل البعد عن النص الأصلي.

إنه لمن الجرأة التأكيد على أننا لا نستطيع أن نتقبّل في حياتنا الثقافية والفكرية إلا ما يناسبنا، أو ما هو جزء منا أو ما هو قادر على اختراق عالمنا الفكري. إن مهمة المترجم من لغة غير أوربية يجب أن تتركز على تمكين الأعمال الثقافية الأجنبية من الدخول إلى مجالاتنا الفكرية. وفي هذا الصدد، فإن الأمر يتعلق - في الحد الأدنى - بضرورة الانقلاب على المفهوم التقليدي للترجمة التجميلية، والتي طبعت ثقافتنا الأدبية منذ بداياتها.

طبقاً لهذا الفهم التقليدي، فإن الترجمة لا تساهم في تحقيق إضافة لغوية لثقافة غريبة غير معروفة. الأرجح أن ما يُترجم هو معترف به بشكل أو بآخر على أنه يستحق الترجمة. في الوقت الحاضر، فإننا لا نعتبر الترجمة إلا في حالات نادرة ثروة شعرية أو إعلاء لشأن لغتنا الأم.

ومع ذلك، فإن القاعدة لاتزال صالحة، كما كانت حتى الآن بأنّ ما يترجم يجب أن يكون معترفاً به. وهذا ينطبق على الأدب المعاصر بلغاتنا الأوربية كما ينطبق على الترجمات الجديدة للمؤلفين الكلاسيكيين.

إنّ السير على الحواف الذي على المترجم من اللغة العربية - أو من لغات أخرى غير أوربية - أن يؤديه بنجاح يتمثل من جهة في مطالبته بتسهيل دخول الغريب إلى اللغة وجعله يبدو مألوفاً وإلا فلن يتمكن هذا الغريب من الدخول إلى عالمنا الفكري. ومن جهة أخرى، فإن على المترجم أن يحافظ بشكل واضح على خصوصية واختلاف هذا الغريب، وإلا فإنه لن يظهر بأصالته الفكرية الخاصة به ولن يساهم في عملية التجديد الفكري.

إن العمل الاندماجي بحجمه الصغير وبجماليته الفكرية الذي يقوم به المترجم بالترجمة من مجال ثقافي أجنبي، هو العمل نفسه الذي يجب أن تقوم به حضارتنا ككل في المستقبل. وهو العمل نفسه الذي يجب أن تنجزه الآن معظم الحضارات غير الأوربية أو الحضارات التي أنجزته منذ أن جوبهت بالقوة الأوربية العظمى في كل المجالات. وفي حين أن النتائج السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذا التغلغل المتبادل غالبا متعسرة وأحياناً كارثية فإن الرصيد الثقافي يبدو إيجابياً بشكل واضح. هذا الرصيد الإيجابي يتجلى على سبيل المثال في الواقعية السحرية المرغوبة والمحببة والساحرة للآداب الهندية والعربية ولآداب أميركا اللاتينية.

تقريباً كل ثقافة غير أوربية تحتوي حالياً بشكل أو بآخر على عناصر من الثقافة الأوربية. نحن نستطيع الآن أن نتحدث بالمستوى نفسه مع الشعراء العرب المثقفين عن الشعر الأوربي، وكذلك عن الشعر العربي. ولكن لا يمكن الجزم بأن العكس صحيح. ذلك أنّ الشعر العربي بما فيه الشعر الكلاسيكي لايدخل في مناهجنا الدراسية. ولكن يجب علينا أن نقول: لم يدخل في مناهجنا بعد. ومن الواضح أنّ عملية الامتلاك والحوار مع الإرث الثقافي الأجنبي قد بدأت، وليس فقط على المستوى الأدبي، وإنما أيضاً على كل المستويات الاجتماعية. ونظراً للعوامل المتعلقة بأعمال العنف والتي ضربت هذه العملية فقد ازدادت أهمية الدور الذي تلعبه النشاطات الأدبية والترجمة، باعتبارها الصوت المعارض الذي لا يمكن الاستغناء عنه. إذا كان ما هو غريب يقتحم وعينا غالبا بأشكال من التخلف والبدائية والوحشية، فإن من واجب الأدباء والمترجمين بالإضافة لعنايتهم بالإرث الثقافي الخاص بهم أن يعملوا على احترام واكتشاف الثقافات الأجنبية، والاندماج فيها، وبذلك يمكن حماية المجتمع من خطر محتمل لعنصرية جديدة.

 

 

 

 

شتيفان فايدنر