المستشرقون والثقافة العربية

المستشرقون والثقافة العربية

هل الاستشراق كله خير؟ أم أنه إلى جانب خيره هناك شر لا يمكن قبوله؟ وهذا الشر هل هو نتيجة لخطأ غير مقصود؟ أم أنه مقصود؟ وإذا كان هذا الخطأ، مقصودًا بالفعل فما هي مخططاته؟ وهل هذه المخططات تؤدي مثلاً إلى التشكيك في ماضينا الثقافي وزعزعة مقومات الثقافة العربية الحديثة واستبدالها بثقافات أخرى هي بالتأكيد ثقافات هؤلاء المستشرقين؟

لعل شيئًا من هذه الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها يبدو فيما أدلى به بعض المفكرين العرب من آراء حول الاستشراق والمستشرقين. فنجد أن هناك من يؤيده مع مناقشة أهدافه، وفي الوقت نفسه هناك من يرفضه تمامًا. فنجد مثلاً من المؤيدين لجهود الاستشراق والمستشرقين مع مناقشتها الدكتور طه حسين الذي يتساءل: «كيف نتصور أستاذًا للأدب العربي لا يلم بما انتهى إليه المستشرقون من نتائج علمية حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ويلم بهذه النتائج ويناقشها..»، وشبيه بهذا الرأي ما نلمحه لدى د.محمد حسين هيكل حين قال: «بحوث المستشرقين مهدت لأبناء الإسلام والشرق عامة أن يتزودوا ثقافيًا من بحوث تخص ثقافتهم ومناقشتها»، كذلك نرى محقق التراث الراحل عبدالسلام هارون يطالب بعدم تجاهلهم، ولكن لا نأخذ آراءهم دون بحث أو تمحيص فيقول: «إن المستشرقين إخواننا في الإنسانية، وشركاؤنا في البحث، ولكن ليس من الحكمة في شيء أن تكون خطانا متأثرة بخطاهم في كل أمر من أمورنا الثقافية، وأن نستعير عقولهم وقد منحنا الله القدرة على حسن الفهم والدرس لما كتب بلغتنا وبوحي من نفوس أجدادنا العرب..»، كذلك يقول المفكر الفلسطيني د.إدوارد سعيد: «إذا كان الاستشراق يشكل شبكة المصالح الكلية التي نستحضر تأثيرها بصورة لا مفر منها في كل مناسبة، وأن الهدف الديني كان وراء نشأته طوال مراحل تاريخه ولم يستطع التخلص منه بصفة نهائية وحتى نهاية القرن التاسع عشر، فينبغي تأمله ومناقشته» وينبه المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى حيل المستشرقين الخبيثة فيقول: «إن جانب المدح والثناء من بعض المستشرقين لنا قد يكون له تأثير تخديري علينا، فتجعلنا نغمض عيوننا مستسلمين لتلك الأحلام السعيدة التي تذكرنا بالعز الذي كان، ونركن إلى ذلك ونعتمد على مجد آبائنا وأجدادنا ونظن أننا عظماء لأن أجدادنا كانوا عظماء» ويخصص الأستاذ نجيب العقيقي ثلاثة مجلدات للحديث عن المستشرقين يقول فيها: «لو لم يقدر لثروتنا الثقافية تلك الأيادي البيضاء فتنشرها، لما توصلنا إلى معرفتها». ويقول مفتي فلسطين الشيخ موسى الحسيني: «الهدف الديني لم يكن هو كل شيء بالنسبة للمستشرقين، فقد كانت هناك أيضًا أهداف أخرى للاستشراق تقترب أو تبتعد من الهدف الديني منها الأهداف العلمية والتجارية والسياسية، ويجب تأملها ومناقشة علاقتها المتشابكة».

ولكن في المقابل نجد أيضًا من يرفض الاستشراق والمستشرقين ومن هؤلاء: المرحوم فارس الشدياق حيث يقول: «إن هؤلاء المستشرقين لم يأخذوا العلم العربي عن شيوخه، وإنما تطفلوا عليه تطفلاً، ومن تخرج فيه بشيء على غير العرب توهم أنه يعرف شيئًا وهو يجهله تمامًا»، كذلك يقول أمير البيان شكيب أرسلان: «إن هؤلاء المتنطعين إذا عثروا على حكاية شاردة أو نكتة فاردة، في رواية أو كتاب قد يكون محرفًا سقطوا عليها كالذباب وجعلوها مقياسًا لأبحاثهم في تعميم مخل...». ويصفهم العلامة محمود محمد شاكر بالعجز في لغاتهم وثقافاتهم قائلا: إنه بسبب هذا العجز آثروا أن يكون لهم ذكر بالكتابة في شأن لغات وثقافات تجهلها أقوامهم، وجهل أقوامهم يستر عوراتهم». ويشير د. محمد البهي إلى ما يضمرونه من حقد على الإسلام وتاريخه ضاربًا بذلك مثلاً كتاب مجد الإسلام لجاستون فييت قائلاً: «إن هذا الكتاب ينضح بالحقد والطعن في الإسلام وتاريخه لأن جاستون فييت كغيره من المستشرقين اختار النصوص التي تتفق مع الاتجاه الذي اختاره هو سلفًا، وهو اتجاه يتسم بالعداء والكراهية للإسلام والمسلمين..» ويجمل د. حسين مؤنس موقف بعض المستشرقين بالنسبة للإسلام قائلا: «الإسلام الذي يعرضه هؤلاء المستشرقون في كتبهم، هو إسلام من اختراعهم، وهو بالطبع ليس الإسلام الذي ندين به..» وإذا كان هذا هو موقف بعض المستشرقين من الإسلام فنحن نرفض كتاباتهم كما يقول د. محمود حمدي زقزوق: «نحن نرفض منهج المستشرقين في دراسة الإسلام، وهو منهج مصطنع جاء وليد اللاهوت الأوربي، لأنه منهج يقصر عن فهم طبيعة الأديان السماوية، ويحاول وضعها في صعيد واحد مع الاتجاهات الفكرية الإنسانية».

أخطاء يقترفها المستشرقون

هذا الاختلاف بين آراء المفكرين العرب كان نتيجة لما وقع فيه المستشرقون من أخطاء منها تعصبهم لدياناتهم. فإذا كتب المستشرق عن ديانات غيره فإنه لا يستخدم المنهج الموضوعي الذي يستخدمه حين يكتب بصفة عامة عن العلوم والآداب والفنون. وأقرب مثال على ذلك ما يصنعه المستشرقون اليهود في مناقشاتهم للإسلام. لأسباب دينية وأخرى سياسية. فأما الأسباب الدينية فإنها تتمثل في محاولة إضعاف هذا الدين بكل الوسائل وأهمها استخدام المناهج الملفقة للتشكيك في قيمة هذا الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى لإثبات فضل اليهودية عليه، وذلك بادعاء أن اليهودية - في نظرهم - هي مصدر الإسلام، وأما الأسباب السياسية فإنها تتصل بخدمة الصهيونية كفكرة، ثم كدولة، وفي الأمرين معًا ندرك تعصبهم.

ولهذا السبب لا يفضل اليهود - خاصة الإسرائيليين - أن يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم مستشرقين إسرائيليين، وإنما بوصفهم مستشرقين أوربيين، وبذلك يستفيدون مرتين: مرة حين فرضوا أنفسهم على الحركة الاستشراقية باعتبارهم أوربيين محايدين!! ومرة حين حققوا أهدافهم في النيل من الإسلام.

كذلك من أخطائهم عدم فهم آراء فلاسفة الإسلام وصوفيته، كأن يكتب ماتينو أن عمر بن الفارض أول من دعا إلى قرار المرأة لأنه كان يعشقها وهذا ادعاء وافتراء، أو كتاباتهم المغلوطة لمقدمات التاريخ الإسلامي بأسلوب كاذب مقصود، كما فعلت المستشرقة الإسرائيلية حافا لاروس في بحث لها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنوانه «عمر بن الخطاب بولس الإسلام» تناولت فيه ظاهرة الرجل الثاني في الأديان لتدعي أن هناك من الباحثين من يعتبر ابن الخطاب الرجل الثاني في الإسلام وليس أبا بكر رضي الله عنه، بل ويضعونه في مكانة أرفع من مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم!! وهذا كذب وتحريف. وسوء الفهم نفسه نجده لدى المستشرق زكاري لوكمان في كتابه تاريخ الاستشراق وسياساته الذي فيه تشويه للإسلام، ومن هذه الأخطاء التي اقترفها المستشرقون تعمد بعضهم الاستنتاجات الخاطئة كأن يترجم المستشرق كازميرسكي قول الله عز وجل للملائكة: «أسجدوا لآدم» إلى «اعبدوا آدم» استنتاجًا لسيادة الإنسان على سائر المخلوقات!!

لكن الخطأ الأكبر الذي يؤخذ على المستشرقين، ولا يمكن التهاون في شأنه، بالطبع إلى جانب أخطائهم الفاضحة في تفسير جوانب من العقيدة والدين، وهو منهجهم في تقويم الآداب العربية القديمة حيث يرون أن البحث الحر المتجرد يقتضي إنكار بعض الأعمال الأدبية والشعرية، خاصة المعترف بها منذ بدايتها حتى ساعة الشروع في تقويمها، وهذا هو الشك بعينه، الذي فعله المستشرق الإنجليزي صمويل مرجليوث في تقويمه للشعر الجاهلي الذي نشره في يوليو 1925 بمجلة «الجمعية الملكية الآسيوية» في مقال استغرق 32 صفحة عنوانه «نشأة الشعر الجاهلي» وفكرته الأساسية الشك في وجود كل الشعر الجاهلي قائلا: «إن هذا الشعر الجاهلي الذي نعرفه لا وجود له، وأنه في الحقيقة شعر إسلامي صنعه الرواة المسلمون ونسبوه إلى أهل الجاهلية».

وبهذا الفهم الخاطئ - بقصد أو بغير قصد - لنشأة الشعر الجاهلي وتاريخه، اختلف مرجليوث وأمثاله من المستشرقين الذين ذكرهم د. عبدالرحمن بدوي في كتابه «دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي»، مع النقاد والأدباء العرب القدامى في الثقافة العربية، بدءًا من ابن سلام الجمحي وانتهاءً بطه حسين، حيث يرى هؤلاء النقاد العرب قديمًا وحديثًا أن الشك في (بعض) هذا الشعر وليس (كله) لأننا لو شككنا في كل الشعر الجاهلي كما فعل المستشرقون فإننا نشك في وجود أساس الثقافة العربية، وهو الشعر ديوان العرب وحكمتهم منذ القدم.

بدايات الاستشراق

والآن، لعلنا نتعرف على بدايات الاستشراق وحقيقة المستشرقين، وعملهم مع الاستعمار من ناحية، والتبشير من ناحية أخرى، وذلك بالرجوع إلى عدد من المصادر ومنها: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» للأستاذ محمود محمد شاكر، و«دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي» للدكتور عبدالرحمن بدوي، و«الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» للدكتور محمد البهي، و«الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري» للدكتور محمود حمدي زقزوق، و«الاستشراق» للدكتور إدوارد سعيد، و«المستشرقون» للأستاذ نجيب العقيقي، فنجدهم يتفقون على رأي يكاد يكون واحدًا خلاصته أنه ليس هناك تاريخ محدد لبدايات الاستشراق، وإن كان بعض الباحثين يرى بداياته الأولى كانت في أواخر القرن التاسع وبداية القرن العاشر، وأن هذا لا يتعارض مع الآراء القائلة بأن هذه البدايات كانت بعد ذلك على يد الراهب الفرنسي جرير أورلياك الذي قصد الأندلس عام 999م وعاش فيها.

إلا أن الثابت توافد ممثلي شعوب أوربا إلى حواضر الأمة العربية الإسلامية ينهلون من فكرها وعلمها، وينشرون ما يحصلونه بالأساليب التي تخدم أغراضهم الدينية، حيث بداية التفكير الأوربي في استعمار بلدان العرب والإسلام، ومن أجل تحقيق ذلك كان عليهم أن يبحثوا في المصنفات العربية الإسلامية، وشرحها بعد ترجمتها ثم طباعتها، وهو عمل المستشرقين الحقيقي.

يضاف إلى ذلك أمور تدخل في طبائع المستشرقين وسلوكهم كفئة تهدف إلى البحث والتحصيل وهو ما يمكن تفسيره بأن لهم فضلا على أهل الثقافة العربية الإسلامية بطريق غير مباشر، حيث إنهم أكثر صبرًا على العمل وأحرص جهدًا على التدقيق فيه، لشعورهم بالمسئولية تجاه من يكلفونهم في أوطانهم سواء من ممثلي السلطتين الدينية أو السلطة السياسية.

وعلى الرغم من أن الاستشراق يمتد بجذوره - كما رأينا - إلى أكثر من الألف عام فإن مفهوم كلمة مستشرق لم تظهر في أوربا إلا في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، حيث ظهرت هذه الكلمة في إنجلترا وفرنسا في عام 1779.

وليس المهم البحث عن البدايات المحددة للاستشراق، لكن المهم كما يرى د. محمود حمدي زقزوق هو متى بدأت الدراسات العربية والإسلامية في أوربا؟ ذلك لأن تاريخ الاستشراق هو في حقيقته تاريخ للصراع بين العالم الأوربي والعالم الإسلامي على كل الأصعدة.

أمران لا نغفلهما في دراستنا للاستشراق

وفي هذا السياق، ينبغي ألا نغفل أمرين مهمين في دراستنا للاستشراق لأن إغفالهما يؤثر بشكل أو بآخر في بحثنا عن الحقيقة التي ينبغي أن نعرفها عن المستشرقين، والأمران حدثا تحديدًا ما بين سقوط الإمبراطورية الرومانية عام 476 ميلادية وبداية عصر النهضة الأوربية في القرن السادس عشر.

أما الأمر الأول فيدور حول الحرب الصليبية التي بدأت عام 1096 وانتهت بالإخفاق واليأس عام 1291 أي بعد ستة قرون من سقوط الإمبراطورية الرومانية، وخلالها امتد الإسلام بدينه وثقافته وعلومه من حدود الصين شرقًا إلى أقصى الأندلس غربًا، ومن قلب إفريقيا جنوبًا إلى سواحل البحر الأسود شمالاً، في حضارة متكاملة حاصرت الرقعة الشمالية وفيه ذلك الهمج المعروف اليوم باسم أوربا، وظل الصراع مشتعلاً بين الطرفين خمسة قرون، وهنا تدبر الأمر رهبان الكنيسة وملوك الإقطاع وأمراؤهم المعروفون جميعًا بتعصب القرون الوسطى، فرأوا أن يتجهوا شمالاً حيث هذا الهمج الأوربي الذي لا دين له ينتمي إليه ولا وطن يجمعه، ليكوّن منهم مدداً لجيوش صليبية جرارة تطبق على ثغور دار الإسلام وعواصمه في الشام ومصر، وتسفح في طريقها دماء أهل المسيحية الشرقيين، وأهل الإسلام على حد سواء دون تفريق بين مسلم أو مسيحي. ذلك لأنهم - أي المسيحيين الشماليين - وهم من الهمج الأوربي الذين قامت عقيدتهم على الحقد والبغض الذي تلقنوه من المتعصبين في العصور الوسطى يختلفون عن المسيحيين الشرقيين الذين هم أهل الكتاب الحقيقيين، الذين كانت تجمعهم أوطان الشرق، ودينهم المسيحية الحقة التي تدعو إلى المحبة والسلام، ولهذا فقد حارب هؤلاء جنبًا إلى جنب المسلمين في حربهم ضد المسيحيين الشماليين.

وأما الأمر الثاني فقد كان في سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك المسلمين عام 1453، واهتزاز العالم الأوربي كله هزة عنيفة خرج من بعدها بالخزي والعار ومن يومئذ بدأت المسيحية الشروع في الخروج من هذا المأزق، فبدأت معركة أخرى هي معركة العلم. نعم العلم الذي هيأ لهؤلاء المسلمين الغلبة والانتصار فانبعث من وسط ذلك الهمج الأوربي رجال يطلبون هذا العلم من أرض الإسلام، وكان منهم رجل جاهد في سبيل دينه هو القديس «توما الإكويني» الذي رأى أن يزيل بعضا من تعصب العصور الوسطى، وفكر في تحصيل أكبر قدر من العلم الإسلامي متكئاً على ما عند فلاسفة المسلمين ومتكلميه كابن سينا وابن رشد وغيرهما طالبًا بذلك إصلاح ما دب في المسيحية من خلل في العصور الوسطى، وتبع ذلك حركة أخرى متمثلة في جهود كل من الراهب الألماني «مارتن لوثر» والراهب الفرنسي «جون جالفن»، وفي الوقت نفسه تم القضاء على سيطرة اللاتينية التي مثلت العائق اللغوي لتحل محلها لغات أخرى لكل إقليم.

اليقظة الأوربية وعلوم الإسلام

وبدأت اليقظة الأوربية، ومعها تفجر أعظم سبيل يكتسح أمية الهمج الأوربي، وكان كل مددها مستجلبًا من علوم الإسلام، وكان السبيل لمعرفة هذه العلوم هو معرفة اللسان العربي قبل كل شيء، وبالمكر والدهاء، بالملاينة والمداهنة مقرونًا كل ذلك بعدم استثارة المسلمين وجرهم إلى مواجهات حربية مرة أخرى، زاد عدد الذين يجيدون اللسان العربي، حتى يتمكنوا من حل رموز علوم الإسلام، وكان من أولى الخطوات إلى ذلك إعداد بعثات تسيح في أرض الإسلام لجمع كتبه بالشراء أوبالسرقة، وليعودوا بعد ذلك لإتمام عملين كبيرين أولهما إمداد علماء اليقظة بهذه الكنوز العربية الإسلامية النفيسة بعد ترجمتها، وثانيهما إطلاع رهبانهم وملوكهم على أحوال دور الإسلام حتى يتأهب الرهبان بالتفكير في التبشير، ويتأهب الملوك والأمراء بالتفكير في كيفية استعمار هذه الأمة العربية والإسلامية.

على هذا النحو نشأت طبقة المستشرقين التي نعرفها اليوم كأعظم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوربية الحديثة، وما هو إلا قليل حتى كانت آلاف الكتب العربية الإسلامية موزعة في كل أرجاء أوربا تدرس بدقة وتعاون كامل بين علمائهم وإن تباعدت بينهم الأوطان.

ثقافة المستشرقين وموقفنا منها

ولعلنا نتساءل الآن عن حقيقة المستشرقين ومستوى ثقافتهم، وللإجابة نرجع إلى كتابات الدكتور محمد البهي والأستاذ محمود شاكر وغيرهما من العلماء فنجد ما خلاصته أن المستشرق فتى غير عربي، نشأ في لغته وعاش في آدابها وثقافتها، حتى العشرين أو الثلاثين، بعد ذلك تحوّل فجأة ليتعلم ألف باء اللغة العربية، من غير عربي مثله في بضع سنوات قلائل لا تسوغ له معرفة أسرار ثقافتنا، أو فقه لغتنا، أو أساليب فكرنا إلى آخر هذه الجوانب التي تشترطها أي ثقافة على الأرض، وفي هذا السياق يمكن القول إن غاية ما يمكن أن يحوزه أغلب المستشرقين من ثقافتنا العربية يساوي ما يحوزه صبي عربي في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر، أو ما يحققه طالب في الابتدائية أوالإعدادية كمستوى علمي لا أكثر ولا أقل.

والعجيب والغريب بعد ذلك أن يعتبر البعض منا كتابات هؤلاء المستشرقين بلا استثناء مراجع لنا في شئون علومنا، وثقافتنا وآدابنا، بل وفي تفسير عقيدتنا!! وتستلحقهم في مجامعنا اللغوية والعلمية، والأغرب والأعجب أن نتفاخر بذلك ونعتز، وكأننا نعيش في دراما مليئة بالمضحكات المبكيات.

وبهذه المناسبة لعلنا نتساءل، عزيزي القارئ: هل رأيت رجلاً من غير الإنجليز أو الألمان مثلا مهما حقق من العلم والمعرفة كان مسموع الكلمة في لغة الإنجليز أو الفرنسيين وثقافتهم؟ يدين له علماء الإنجليز والفرنسيين بالطاعة والتسليم لما يقول؟ أليس ذلك من قبيل المستحيل؟ وأليس غريبًا أن يكون غير الممكن عند الآخرين ممكنًا في ثقافتنا دون ثقافات البشر!

إننا نقبل المستشرق إذا نظر في ثقافتنا ليستفيد أو يسأل أو حتى يناقش ليفهم ثقافتنا، أما إذا دخلها عالمًا أو مفكرًا، مفتيًا أو فقيهًا فلن نقبله. فمستحيل أن تقبل منه رأيًا أيًا كان علمه أو فكره، في قرآن الأمة أو في سنتها أو في شرائعها أو حتى في تاريخها أو شعرها أو لغتها، مستحيل أن نقبل منه ذلك، لأنه ممتنع عليه، امتناعًا لا يملك الفرار منه.

-------------------------------

العينُ لا تنفكُّ من نَظـرٍ
والقلبُ لا ينفك من وطـرِ
ومحاسنُ الأشياءِ فيك معاً
فملا لتيِكَ ملالتي بصري
مُتعاتُ وجهك في بديهتها
جدُّد وفي أعقابهـا الأخَر
فكـأن وجهك من تجـدُّده
متنقـلٌ للعينِ في صـور

ابن الرومي

 

 

سامح كريم