بيضة الحمامة

بيضة الحمامة

شيء ما معتم مستدير كان يتحرك بين أصص الزهور. لم تستطع المرأة الرقيقة أن تتعرف على كنهه من كرسيها الخيزراني. بلا وعي اتكأت بظهرها وكأنها تحاول أن تتحاشى منظرا كريها.

«إنه الحمام»، قالت صديقتها.

«زوج من الحمام يعشش في المزراب. حاولتُ دون جدوى أن أمنعه. ولكنني الآن أحبه. لقد وضعت الحمامة بيضة ترقد عليه, وزوجها يأتي بالغصون الصغيرة وبالحبوب لإطعام خليلته».

حاولت المرأة الرقيقة أن تداري ذعرها، إلا أن يديها ظلتا متقاطعتين على صدرها. ثم قالت في ارتباك إنها لا تستطيع التغلب على نفورها إزاء الحمام، والطيور عموما. إنها تخاف من تلك الرفرفة الفجائية والعرامة المتمردة. تتخيل دوما أن بإمكان الطيور أن تهاجم وجهها بأجنحتها ومخالبها ومناقيرها.عندما تتطلع إلى عين طائر محملقة تتوقع هجوما تشعر أنه يتخلق في دماغ هذا الطائر، خلف تلك العينين الضئيلتين الشريرتين الجامدتين. «الحمام لا يغادر مكانه بين أصص الزهور على الإطلاق»، قالت الصديقة. «إنني سعيدة بأنني لا أفزعه عندما أسقي النباتات على الشرفة. صحيح أن الذكر يختفي، إلا أن الأنثى تظل راقدة على البيضة. أتمنى لو استطعتِ أن تنظرى إلى هذه البيضة. إنها كاملة الجمال: عاجية اللون، دقيقة المسام، وخافتة اللمعان كأن طبقة من دهن تعلوها. إنها موديل لك. سترغبين على الفور في رسمها».

كانت المرأة الرقيقة تحدثت قبلها لما تشتت انتباهها بسبب الظلال بين الأصص عن الطبيعة الصامتة التي تعد لها في الوقت الحالي. في مثل هذه الحالات لا تترك شيئا للمصادفة. القراءة تسبق الرسم. تدرس وصفات قديمة لخلط الألوان، وتتمعن طويلا في أهمية الشيء الذي اصطفته موديلا. في محل أنتيكات في مارايس وقعت عيناها على مجموعة من الأرفف الصينية الصغيرة. «هذه الرفوف الصغيرة الحمراء هي مصدر إلهام للوحتي. على هذه الرفوف الصغيرة الثلاثة أستطيع الآن أن أضع الأشياء متجاورة التي جمعتها للوحة». ليس التداخل الزخرفي هو مبتغاها، بل الصف والترتيب والتنظيم الذي يكاد يقترب من الهوس. كما في متجر أو فترينة متحف، هكذا ينبغي عرض القطع. «وعارية أيضا!»، أضافت الرسامة. إنها تبغي الوصول إلى الوضوح المطلق للمعروضات. الانطباع الأول للمتأمل لابد أن يسبب رعشة في يده، تدفعها إلى أن تمتد وتمسك بالقطعة وتنزلها من الرف الأحمر. عندما تنخدع العين ينخدع الإنسان كله. مَن يعتبر المرسوم حقيقيا، يتحول هو نفسه لبرهة إلى رسم.

من جديد أخذت الرسامة تتحدث باسترخاء. نسيت الحمام. «لدي مثلا لؤلؤة كبيرة تثيرني منذ فترة طويلة كي أرسمها. لؤلؤة شرقية، غير متناسقة، ذات نتوءات وبروزات. تكاد تبدو للعين كالغدة، أو كدموع متحجرة. عندما يراها الإنسان يلحظ على الفور أن جسما دخيلا تسبب في إفرازها. إنها عاقبة مرض. أرسطو يقول إنهم كانوا يعتبرون اللؤلؤة قلب الحلزون. هذا أيضا مايخطر على بال مَن يتأمل لؤلؤتي ويدحرجها في كفه. إبراهيم أبو الأنبياء كان يعلق لؤلؤة كبيرة. من نظر إليها كان يُشفى. ولكن بريق إفرازات الجسد المتجمدة يثير الغثيان أيضا. العين تسحر من يراها، لكن الإنسان لا يريد أن يعضها. شيء من هذه الثنائية يكمن في اللآلئ. أريد أن أمنح لؤلؤتي شيئا من ذلك».

«غاغو، غاغو» يهدل الحمام في حكاية سندريلا، وأيضا الحمام في المزراب يهدل بخفوت ووضوح: «غاغو، غاغو.» تهمس الصديقة: «إنهما يتبادلان الحديث.» ثم تنحني وترسل بصرها خلف الأصص. «لو نظرت نظرة واحدة للبيضة!».

«أود لو ألقي نظرة على البيضة»، قالت الرسامة، «أيضا لا اعتراض لدي على رؤية الريش، ولكن فقط إذا كان الطائر ميتا. الريش شيء رائع في شكله المصطنع حتى أن المرء ينسى من أين جاء. قد يظن المرء أن صانع مراوح قد اخترعه. في «طبيعتي الصامتة» ستكون هناك أيضا ريشة صغيرة، ربما بيضاء ذات خطوط زرقاء فاتحة، مأخوذة من جناح «أبو زريق» - ريشة يلمع فيها بريق يخترق غمام سماء ربيعية. هل تعرفين أن الإنسان يحتضر وقتا أطول على الريش؟ لهذا كانوا قديما يوسّدون المتوفى الأرض. الريش يُمَكِّن الطائر من الطيران، لكنه يجعل البشر يتأرجحون بين الحياة والموت بطريقة تستعصي على الفهم. أنت نفسك تعرفين كيف تجلب ريشة الطاووس الشؤم. ولكن ريشة الطاووس لا تتواءم مع طبيعتي الصامتة. ألوانها أكثر من اللازم، ومختالة بنفسها أكثر مما ينبغي، ورمزها فج مبتذل في وضوحه».

كانت الصديقة تهتم اهتماما كبيرا بخطط الرسامة. لذلك مرت تلك الساعة الصيفية التي شربن فيها الشاي على الشرفة الواقعة في ضاحية هادئة من المدينة الكبيرة وكأنها تحقيق. على الرسامة أن تفصل بكل دقة في أي شيء تفكر، أو ماذا تنوي أن تفعل. هل يشي هذا الفضول الودي بالرغبة في الاندماج مع الحركة الفنية؟ في بعض الأحيان كانت الرسامة تتردد وتعجز عن اتحاذ قرار. لم تكن الصديقة تسمح بهذا: «ينبغي عليك...»، هكذا كانت تبدأ العبارات التي تنصح بها الرسامة المتأرجحة. اليوم قالت لها: «ينبغي عليك أن تضيفي بيضة إلى طبيعتك الصامتة».

«بيضة؟» ردت الرسامة حالمة. «ما أحتاجه بالفعل هو مرجانة صغيرة. لدي غُصين من المرجان تشع أطرافه لونا فضيا.. به ثقب. تميمة. شجيرة المرجان هذه التي تبدو كالعروق التي تخثر فيها الدم تقلقني وتجذبني. يمكنني تأملها ساعات. ولهذا أفهم أيضا لماذا يتصيد المرجان النظرة الحسودة ويستحوذ عليها ويمتصها. ضد العجز الجنسي كانوا قديماً يعلقون في العنق كيسا به أغصان مرجانية ووردة وجذور حشيشة ست الحسن. على مثل هذا الكيس المخملي المخضر سأضع مرجانتي حتى تتألق على الخلفية الحمراء على خير وجه. يؤلمني أنني أبخل من أن أجرؤ على طحن مرجانة حقيقية لخلطها بألواني ألن يكون هذا نصرا فنيا: رسم المرجان بالمرجان؟».

أومأت الصديقة برأسها. إن الكيفية التي تضع بها الرسامة الأشياء على رفوفها الصغيرة تشبه سلوك الحمام الكبير السمين في المكان الضيق بين أصص الزهور والمزراب. بصدرها المرتفع وريش ذيلها الطويل المتصلب تستطيع الطيور الاستدارة بخطوات قصيرة على أرضية لاتتعدى مساحتها الكف. لا يني الحمام يستكشف كُنه هذا المكان المُعذب في ضيقه والذي اختاره الحمام بنفسه، وكأنه مرغم على أن يبرهن كل دقيقة على مزاياه. صمتت الحمامتان وكأنهما اعتبرتا أن من الحكمة عدم التدخل في الحوار الدائر بين الصوتين النسائيين، ولم يصدر عنهما في فترة صمت الصديقتين سوى هديل متفاهم واضح النبرات؛ وكأنهما شعرتا أن الرسامة لن تنفر من وجودهما طالما لزمتا مكانهما في تواضع.

«كالبيضة تبدو الحصاة المستديرة الملساء الوردية ذات العروق البيضاء التي أفكر في وضعها على الرف الأوسط»، قالت الرسامة. هل تعرف ما يقولونه عن حياة الأحجار؟ لقد مرت أيام كانت فيها كل الأحجار صغيرة. كانت تنمو على الأرض حتى ميلاد المخلص. عندئذ توقف نموها، إلا إذا واصلت نموها سرا عندما تلاحظ أنها بمنأى عن المراقبة. «ثمة أحجار تعرق، وأحجار تدمي عندما تُطعن. عندما أتناول الحصاة الوردية المعروقة في كفي يسري فيها الدفء بسرعة حتى أنني أعتقد أنني قد نشطت دورتها الدموية. ثم أظهرت لها راحة يدها الطفولية المغطاة بشبكة من التجاعيد الجافة. حتى في شبابها كانت راحة الفنانة متغضنة على هذا النحو.

بجانب الحصاة أُثبتُ بدبوس فراشةً لونها رمادي دافئ كالدخان والحرير. الغبار يعلو أجنحتها، ليس لونا بالمعنى الصارم للكلمة، نغمة لون فقط تبين الاختلاف الرقيق والضئيل في البشرة ذات الظلال الواهية. الفراشات أرواح. مثل هذه الفراشات الرمادية تخرج من أفواه الموتى، ثم تحط على صدورهم، وفيما بعد على توابيتهم. وفي النهاية ترفرف الفراشات لبرهة في محيط الموتى تكفيرا عن آثامه. أود أن أعرف لمن كانت الروح التي أدخلت فيها الدبوس».

الآن تصب الصديقة عصير خوخ في كئوس طويلة. أظلمت السماء، ولكن حتى لو هطل مطر غزير فلن يصيبهم تحت سقف الشرفة إلا قطرات قليلة. ألم يكن عش الحمام على حافة مزراب المطر مهددا أن تدمره سيول الماء وتجرفه؟

«لا شيء يحدث لهذا العش!» قهقهت الصديقة. كان الإعجاب يطل من عينيها. لا شيء يدمر هذا العش الواهن. تعيش الطيور في فقاعة غير مرئية، تحميها من جميع التقلبات الجوية. خرير الماء يحيط بها، إلا أنه لا يتغلغل، بل يتساقط على الأجنحة التي تبدو في لمعانها وكأنها من معدن.

انحنت الرسامة بينما بدأ الهديل يرتفع بحذر فوق أصيص الزهور. في البداية لم تتعرف على شيء هناك، ثم انشقت العتمة عن جسم لامع مستدير كالدائرة رأس صغير ذو لونين؟ قطعة زجاج؟ بل عين طائر. لما تعرفت الرسامة عليها شعرت بعودة ذلك الشعور بالجمود الذي كانت قد تغلبت عليه، لذا أشاحت بوجهها سريعا.

أخذت الصديقة الآن تتودد إلى الرسامة. لقد شعرت أنها تقاوم رغبتها، لذا فكرت أن تكسح هذه المقاومة بطوفان من الثناء، تماما كما يزيح تيار الماء المندفع في ماسورة المطر شبكات العنكبوت وأوراق الشجر الذابلة من طريقه. إن ما يتجمع في رأس الرسامة، ثم على الأرفف الحمراء الصينية، ولاحقا بأفخر ألوان التمبرا والزيت على اللوح الخشبي الناعم الأملس هذه هي صورة العالم. بأي الرموز تبوح أشياؤها؟ من يرد أن يدرك كنه الصورة الناشئة ويلم بجميع أسرارها لابد أن يعرف أولا كيف يقرؤها. من أين لها أن تعرف كل تلك المعاني؟ إنها على كل حال لم تؤمن حتى الآن بالخرافات والخزعبلات.

كلا، إنها لا تؤمن على الإطلاق بالخرافات، تقول الرسامة. إلا أن الأساطير والحكايات الشعبية وحكايات السحر كانت دوما تثير اهتمامها، حتى أثناء دراستها الجامعية. في الأرشيف الذي يضم هذه الحكايات تختبئ كنوز وكنوز.

«وكالكنز أريد أن أُظهر على لوحتي الأشياء التي جمعتها، وهي أشياء عديمة القيمة أساسا. أهدف إلى أن أثير انطباعا بالكمال. من يرَ هذه الأشياء على الرفوف لابد أن ينتابه الشعور بأنه ينظر داخل الدماغ، وأن أمامه شفرات الوعي. بجانب الحجر أضع قوقعة ..».

«لقد رسمتِ قواقع كثيرا».

«نعم، إنها تكاد تغدو علامة التعرف على فني. هذا السلم الحلزوني الذي يضيق ويضيق، ويتواصل في الآن نفسه بلانهائية. إنها بالنسبة لي صورة للفكر الذي لا يني يتعمق ويحفر في الواقع، ليصل عندئذ إلى رؤى تثقل على النفس أكثر فأكثر. قديما كانوا يعتقدون أن الحلزون يولد من الطين والعشب والندى، وهو ما يعني بالنسبة لي الإنعاش والإحياء لشيء ميت. وليس هناك ماهو أكثر فظاعة من أن تعود الحياة الكاملة لشيء كان يُعتقد أنه ميت.» ثم خيم الصمت على المرأتين من جديد.

وفجأة قالت الرسامة: «ينبغي عليّ بالفعل أن أضم إلى مجموعتي بيضة، بيضة طائر صغيرة. ألا تستطيعين أن تعطيني ببساطة بيضة حمامتك؟».

لبرهة تلون وجه الصديقة بالبهجة والموافقة. أما الآن فإنها لم تستطع أن تخفي رفضها، بل واستياءها. انتزاع البيضة من الحمامة؟ سرقة طفل من أمه؟ وهل تحملت طوال هذا الوقت رائحة زبل الحمام على الشرفة حتى ترتكب الآن جريمة قتل طفل؟ لو أرسلت الرسامة فقط بصرها إلى أسفل الرسامة تعارض لرأت منظرا يمس شغاف القلوب: الحمامة المنشغلة ببيضتها عن الدنيا. هذا الرقاد على البيضة وما يعنيه من شعور بالواجب هو أمر يكاد يكون إنسانيا. على الرسامة أن تأخذ بيضة دجاجة وتصغرها. كل الرسامين يزيفون. الآن كان على الرسامة أن تكظم شعورها بالاستياء.

لا بيضة، إذن. إلا أن الأمر لن يمر بمثل هذه السهولة. لقد أشادت الصديقة بالبيضة إشادة عظيمة حتى أنها لم تعد تتصور الرف من دون بيضة الحمامة. «لدي شيء آخر لك. على مكتبي محارة جميلة من الأطلسي. سأعيرك إياها».

«المحار يرمز إلى جمال المرأة»، قالت الرسامة بسأم.

«إذن فهي مناسبة جدا».

«نعم، ولكن فقط مع البيضة».

«سأخرج هذه البيضة من رأسك.» ونهضت الصديقة. الغرف خلف الشرفة كانت تسودها شبه عتمة صيفية. تردد صدى خطواتها فوق الأرضية الباركيه، ثم ضاع الصدى.

كم أغضبها هذا التدخل غير الفني في تخطيطها للوحة. ويا للوقاحة أن تحاول الصديقة أن تئد هذه الخاطرة التي ألحت عليها، ثم ما لبثت أن ملكت عليها زمام نفسها. ألم تكن الصديقة بحمامها المثير للفزع هي التي أولت البيضة كل هذا الاهتمام؟ بيضة صغيرة تلمع لمعانا خافتا. رأتها الصديقة أمام عينيها. لم يعد هناك مجال للاستغناء عن البيضة. ألم تخطط اللوحة كلها في الحقيقة من أجل البيضة؟ إن الرسامة خبرت في عملها مثل هذه السلسلة السببية التي تبدو للعقول المتوسطة كأنها سببية مقلوبة: أن يخطط المرء لصنع تشكيل ما، وفي مرحلة متقدمة للغاية من العمل يطرأ بالمصادفة شيء آخر، ثم يكتشف المرء أن هذا الشيء البيضة مثلا ليس تكملة مُلهَمة فحسب، بل شيء ينتظره المرء في السر منذ مدة طويلة، كلا، إن التشكيل لا يكتمل إلا بهذا الجسم الذي لم يكن في الحسبان. أين ذهب خوفها من الطيور؟ نعم، من الممكن أن تطير الحمامة في وجهها برفرفة صاخبة أثناء انحنائها على أصص الزهور، ولكن حتى هذا التصور المهول لم يعد يستطيع أن يلجم فضولها الجامح.

أغصان صغيرة تناثرت على الأرض، وفي منتصفها توهجت البيضة، بيضاء وشهية. الحمامتان طارتا بعيدا. بأدب جم، وبكتمان بالغ أخلَتا الشرفة المزدحمة بأصوات المرأتين. كانت الرسامة بمفردها مع البيضة. لم ترجع صديقتها بعد. أضحت البيضة الآن أجمل مما وصفتها الصديقة الغائبة. لمعت القشرة الدهنية في خفوت. بدت مختلفة كل الاختلاف عن القشرة المألوفة لبيضة الدجاجة، القشرة الخفيفة الخشنة التي توحي بالتفتت. بدت البيضة ثقيلة وراسخة كالصخر. كم يبلغ وزنها؟ عندما مدت يدها الصغيرة إلى البيضة توقعت الرسامة أن ينشق الظلام عن طائر يائس بمنقار ضخم. لم يحدث شيء. خفيفة ملساء استقرت البيضة في راحتها المتغضنة. لم تتأملها طويلا. من شنطة يدها انتشلت منديلا ولفت فيه البيضة. عندما انزلق الطرد الصغير بأطرافه المثنية واتخذ مكانه في الشنطة، تناهت إلى سمعها خطوات الصديقة فوق الباركيه. اتكأت الرسامة إلى الوراء وأرسلت بصرها باسمة مترقبة. وضعت الصديقة محارة صغيرة مسنونة الأطراف على المائدة، وانحنت على الفور فوقها ناظرةً إلى أصص الزهور. «لابد أن أتطلع أولا إلى الحمامتين. هناك تجلسان. هذا الرقاد الساكن كم هو مُخْلِص! إن أمومة هذه الحمامة تهزني من الأعماق».

«المحارة قبيحة»، قالت الرسامة. لكنها بدت ودودة في سخريتها حتى أن الصديقة لم تستطع أن تأخذ كلامها على محمل السوء.

بعد وقت قصير كانت الرسامة تقف في منزلها، في الأتيلييه الهادئ أمام النافذة الضحمة المقسمة إلى عدة ألواح زجاجية. من النافذة سقطت عليها أشعة بيضاء باردة وكأنها غطاء كبير أُلقي فوقها. فوق قاعدة نهضت الرفوف المطلية بالأحمر، وعليها ريشة وحصاة وقوقعة. هناك ستضع الآن بيضة الحمامة. ستشكل البيضة المركز الخفي للوحة. بالرغم من أنها بطبيعة الحال لن توضع في المركز، إلا أن العين ستنجذب بتلقائية إلى البيضة، إلى هذا الانغلاق المليء بالأسرار، هذه العتمة المفعمة بالنبوءات.

جلست الرسامة على كرسي الرسم المنخفض ذي الثلاثة أقدام. على ركبتها شنطة اليد. فتحت الشنطة. كانت اللفة - المنديل قد هوت إلى عمق الشنطة، بين أدوات التجميل وجراب النظارة الجلدي. راحت الأنامل الرقيقة تتحسس القماش. قشعريرة انتابت جسمها كله. كان القماش مبلولا.

بأقصى درجات الحذر أخرجت اللفة. إنها الآن ترقد على راحتها المتغضنة بأدغال الخطوط. بقعة دم على القماش. تجمع ضوء نافذة الأتيلييه كله وتركز على هذه البقعة الدموية. شعرت الرسامة بوجهها يحمر، قلبها يخفق. بأظافر الأنامل فحسب وضعت اللفة على الرف بين الريشة والقوقعة. من هناك لمع الدم. وكأنها في حلم وضعت أيضا اللؤلؤة والمرجانة. ألا تستطيع أن تحاول رسم هذا التشكيل؟ لا قوة في العالم سترغمها الآن على فتح اللفة الصغيرة.

  • مارتين موزيباخ (من مواليد 1951) أحد أبرز الروائيين الألمان المعاصرين. حصل على عدد كبير من الجوائز، من أهمها جائزة بوشنر عام 2007، وهي أهم وسام أدبي في ألمانيا. من رواياته: «ليلة طويلة» و«أمير الضباب» و«الزلزال».

 

 

مارتين موزيباخ