قراءة نقدية في رواية «الحارس».. التهكم على طريقة كافكا!

قراءة نقدية في رواية «الحارس».. التهكم على طريقة كافكا!

يمكن قراءة رواية «الحارس» لعزت القمحاوي, كمحاولة لاستقراء فكرة المؤسسة, أيا كانت عسكرية أو دينية أو اجتماعية

يشعر من سُرق حذاؤه بباب الجامع باضطراب عظيم، اضطراب ليس سببه أنه سوف يعود لبيته دون حذاء ولكن لأن عليه أن يلبس حذاء آخر لايخصه. وكأن عليه ألا يكون نفسه لبعض الوقت. فهل معنى ذلك أن الإنسان يتحول بمرور الوقت إلى حذاء؟، خصوصا حين ينخرط فيما يسميه البعض «العادة» وما يسميه البعض «المؤسسة»!

إن أفكارا مثل هذه قد تمر بعقلك حين تبدأ في رواية عزت القمحاوي الجديدة «الحارس»، وهي قطعا لن تغادرك إلا بانتهائك من قراءتها, وغالبا ما سوف تفعل ذلك في جلسة واحدة، فالسرد الذي سوف تبدؤه بجملة «كم إبرة تبلغ هذه الحجرة؟» لن يتركك لحالك أبدا قبل أن تقرأ جملة النهاية «لا شيء بالمرة سوى النفايات التي كانت هناك دائما».

«الحارس» عنوان الرواية هو موضوعها وبطلها كذلك، حيث تبدأ الرواية مع «وحيد» في اليوم الأول لخدمته كملازم في كتيبة الفرسان ضمن كتائب حراسة السيد الرئيس أثناء دخوله أو عودته من وإلى قصره الفخم وحتى وصوله إلى مشارف رتبة العقيد وتسلمه قيادة الكتيبة نفسها التي كان يخدم فيها. ورغم ذلك فإن الرواية لا تعبأ بوحيد ولكن بالنظام الذي سوف يصبح وحيد جزءا منه وحلقة من حلقاته. كذلك لا تتناول الرواية موضوعها بشكل تقليدي في ضوء ثنائية الجلاد والضحية - وهي ثنائية انشغلت بها الرواية العربية طويلا - ولكنها بالأحرى تذيب طرفي هذه الثنائية حيث النظام الذي يبتلع الجميع، والذي يصيب الجميع بالإعياء.

يشترك وحيد في حراسة الرئيس الذي يتشكك في وجوده بمرور الوقت، مثلما يتشكك زملاؤه أيضا، رغم أن أحدهم يقول إن نسبة وجود الرئيس هي واحد على ثمانين وذلك بحساب عدد المواكب الأرضية الأربعين وعدد المواكب الجوية الأربعين أيضا التي يتزامن خروجها من القصر. إن هذا الشخص يحاول أن يقنع نفسه والآخرين أن هذه النسبة هي نسبة معقولة جدا كاحتمال أن الرئيس موجود سواء بسواء. والسرد يتهكم على هذه النسبة باستمرار كما يتهكم على هذا التطمين الزائف، إن طاولة الشطرنج التي قدمها الملازم أول فوجئ وحيد بأنها لا تضم ملكا ولكن لا بأس

ما دام الملازم أول هذا قضى عشرة أعوام في حراسة رئيس لم يره.

بل إن الخريطة التي مُدت أمام بصر وحيد كانت تخلو من القصر الذي ينام فيه الرئيس، هذا الغياب الدائم للرئيس/الملك/ القصر كمركز في حضور المحيط - محيط المركز - يحيل الحراسة إلى جنون، ولذا يتشكك وحيد ـ في لحظة طيش مدنية ـ في جدوى وجود فرقة الفرسان نفسها التي ينتمي إليها.

إن هذا الغياب لا يعني إلا حضورا أكثر كثافة للنظام الذي يبتلع الجميع، حيث يتحول الحرس إلى حراس للنظام نفسه دون أي أهمية لما وضع هذا النظام من أجله، أي أن النظام نفسه يصبح غاية نفسه، ويكون الولاء للنظام - نظام الحراسة ـ أهم من الانتماء للمحروس - حتى هذه الفكرة لا تسلم من تهكم السرد حيث يشير السرد إلى التدريبات التي كان يخضع لها وحيد والتي كانت تقوم على حراسة اللاشيء باعتبارها الأكثر عنفا في مسيرته المهنية، يقول وحيد: «منع الهواء من الاعتداء على بدلة ورابطة عنق تطوق الفراغ أصعب بمراحل من الحفاظ على بدلة ورابطة عنق ممتلئة بجسد حقيقي» ذلك لأنه ببساطة «ليس للآخرين موقف من الفراغ». ففي حالة البدلة الممتلئة بالمحروس يكون التعامل مع الأعداء منطقيا جدا، أما محاربة طواحين الهواء من أجل بدلة خالية والذي يماثل تأمين موكب لا رئيس به يكون جنونا.

إن هذا الجنون المنظم جدا يحيل الأفراد حتى القائمين عليه إلى مسخ إنساني فاقد لأي هوية مميزة ولذلك يتلاشى الفرق الحدي التقليدي بين الجلاد والضحية، فالفرد (أيا ما كان وضعه على خريطة القوة) لا يكون أكثر من رقم (هكذا يتم الإعلان عن محاكمات الجند كأنما ليست ضد أحد)، كذلك لا يكون الفرد إلا بدلته العسكرية (لذلك فإن وحيد يشعر بالاغتراب والخوف في إجازته الأولى حين يفقد هيبته بسبب ملابسه المدنية)، ولا يكون الفرد إلا نسخة من أفراد عدة ينتمون للنظام (رأى وحيد القائدين كأنهما رجل واحد يتجادل مع نفسه في المرآة)، كما يفقد الفرد مشاعره تدريجيا باعتباره إنسانا سابقا (إن نظام تبديل الحجرات والجياد لا يسمح بأي مشاعر إنسانية قد تتسرب إلى أحدهم) ومع مرور الوقت يتحول الفرد نفسه إلى حارس لنفسه من مثل هذه المشاعر التي كان يسميها وحيد أسوة بقائده: مشاعر مدنية.

لذلك فإن عزت القمحاوي لا يشير إلى وحيد أبدا باعتباره «وحيد» ولكن دائما ما يذكر السرد وحيد باعتباره «الملازم» «الملازم أول» «ملازم الشجاعة» وهكذا حتى «نائب كتيبة الفرسان»، وهي حيلة ذكية جدا للدلالة على فقدان الهوية الشخصية لأفراد النظام، رغم أن الرائد يحاول تمرير ذلك وتبريره بحجة أن «الناس يكونون بحاجة إلى الأسماء عندما يعيشون لأنفسهم، أما الحراس الذين يعيشون من أجل الرئيس فلا حاجة لهم بالأسماء» ولكن إذا ما تذكرنا أن الرئيس هذا قد لا يكون موجودا أصلا أو أنه - وفقا لإشاعة سارية - قد مات، يكون هذا المنطق عبثا.

كذلك فإن وحيد نفسه بمرور الوقت يفقد احساسه بالعبث، ما دام هذا العبث هو ما يمنحه القوة. ولذلك فإن وحيد لا يشعر بالتطمين إلا بوجوده داخل المعسكر أو داخل بذلته العسكرية، كما أنه صار يخشى الخروج في إجازة كأنما سوف يُسلب حياته عند بوابة القصر. حتى أن العالم في الخارج أفزعه جدا لمجرد أنه خارج سياق النظام الذي عرفه بالداخل، إن فوضى المرور أزعجته، ومناوشات خطيبته نوال أزعجته، والطبيخ البيتي لحماته أزعجه، بل إن رغبته الجنسية - التي لم يكن حساء الشجاعة قد قضى عليها بعد - أزعجته كأي من مشاعره المدنية الحية التي قاومها حتى أفناها طواعية. واثقا جدا من أن الله قد خلق النظام في الكون «وترك للضباط السهر على تنفيذه».

ومرة أخرى يعاود السرد تهكمه فإن وحيد بمرور الوقت لا يفلح في ممارسة الحياة اليومية دون تعليمات وأوامر، إن إنفلات الحياة اليومية الصاخب من كل قانون سبّب النفور الذي أبداه وحيد تجاه العالم خارج حدود القصر. حتى ولو كان يتحرك في الداخل كإنسان آلي «حركات لايمكن إدانتها، لكنها في العمق بلا حماس».

هذه الآلية تكفي وحيد مغبة الانفلات من رحم النظام، وتمنحه تطمين سر العبارة المقدسة «علم وينفذ» والتي تمنع عنه أي ازدراء قد يتعرض له لو أنه استسلم للمفاسد المدنية كما كان يسميها قائده، وهي المفاسد التي يمكن تلخيصها في كلمة «لماذا».

ولذلك فإن وحيد يستغرق في أحلامه حول تطوير نظام الأمن متوهما إمكان وضرورة التحكم في العالم نفسه كما يتحكم الإنسان في شاشة التلفزيون فور الضغط على زر. يحلم وحيد بنظام أمني قادر على توقيف الحياة نفسها حتى عبور - السيد الرئيس - وعودته سالما. ففي نظام يضع ضمن خططه استراتيجيات مواجهة احتمال «أن الشمس قد تنطفئ فجأة» يتصور طبعا أن مجال هيمنته تمتد إلى السماء نفسها.

وبسبب هذيان وحيد الجنوني الذي يماثل النظام نفسه الذي يشترك فيه فإنه يفقد حنينه إلى العالم تماما، حتى إن لحظات الحنين النادرة في الرواية تبدأ وتنتهي كأنما تخص شخصا آخر. وفي مشهد من أجمل مشاهد الرواية على الإطلاق يستدعي وحيد الحلاق ذات مساء بسبب «الرغبة في لمسة يد، أية يد» كلحظة إنسانية نادرة ورائعة، ولكن يبدو كأنما يبترها وحيد بسرعة خوفا من الاستسلام للدفء.

تفرض الرواية على قارئها التورط فيها حتى يفقد الترتيب الهرمي التقليدي (مؤلف ـ رواية ـ قارئ) معناه، لأن المؤلف والرواية والقارئ والجلاد والضحية يتحولون جميعا إلى سجناء لنظام لا يبدو أنه سوف ينتهي أبدا. ولعل هذا هو سبب تسرب الحس الكافكاوي إلى الرواية، خصوصا وأنها - أي الرواية - تتعامل مع مفهوم المؤسسة كآلية تخضع لقوانينها الذاتية التي وضعها مجهول في زمن غير معلوم كما يقول كونديرا في كتابه الرائع «فن الرواية». كما أنها تعتمد صيغة التهكم الكافكاوية كصيغة لصيقة على امتداد السرد. إضافة إلى تجرد اللغة من أي رطانة أو حتى بلاغة يمكن أن تدفئ صقيع المؤسسة والخضوع لآلياتها المهيمنة. وأعترف أني لم أنتبه في الصفحات الأولى للطريقة التي قدم بها القمحاوي بطله، لقد تصورت للحظات أن هناك خطأ في تصوير الشخصية، ولكني استدركت بعدها وفهمت أن تقديم وحيد بلا روح تقريبا ليس إلا حيلة مقصودة لأن وحيد قد فقد روحه تماما، وما الهذيان الذي ينتهي إليه إلا بسبب الغثيان الذي قد تسببه المؤسسات المهيمنة بكل صورها. ولكن هذا الغثيان لا يحدث كما يحدث لشخصيات سارتر مثلا (روكانتان) أو شخصيات كامي (الغريب) بسبب اكتشاف العبث، ولكن الغثيان هنا يسببه النظام الذي يتماهى مع حراسه حد الموت.

وفي النهاية أظن أن الرواية كان أفضل لها ألاتشتبك مع الواقع في تفاصيله، وذلك كي تحافظ على نقاوتها كرواية تطمح ألا تخضع لهيمنة تفسير واحد (وهو هنا التفسير الاجتماعي) ففي رأيي أنه يمكن قراءة الرواية كمحاولة لاستقراء فكرة المؤسسة أيا كانت عسكرية أو دينية أو اجتماعية.

-----------------------------------

يقـول الحبيب وطالبتُهُ
تمنَّيْتَ ما النجمُ في بُعدِهِ
يطيعك قَلْبي في غَـيِّـهِ
وقلبُك يَعْصيك في رشدِهِ

ابن الرومي

 

 

حاتم حافظ