قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
----------------------------------------

تلقيت من مجلة العربي ملفا إلكترونيا يحتوي على أكثر من خمس وعشرين قصة، وطُلب إليّ أن أنتقي خمساً منها.

ليس من المعيب الإشارة إلى الأسباب التي جعلني أستبعد أكثر من عشرين نصاً يفتقر لمقومات القصة القصيرة، فمرد ذلك ما لاحظته في النصوص المستبعدة من ظواهر لغوية وأسلوبية وسردية ينبغي أن يتجنبها كل من ينتدب نفسه للكتابة؛ فالقصة ليست بخاطرة مفتوحة تقوم على إنشاء وجداني بلغة ركيكة غير معتنى بها، إنما هي ممارسة كتابية تقتضي تثبّتا من كل شيء فيها. وأول ذلك العناية باللغة التي هي وسيلة التعبير الأساسية في الكتابة. وهو أمر لم تعن به النصوص المستبعدة، ووجد له بعض الظلال في هذه القصص أيضا، فيلزم أن يتولاها محررو المجلة بالتصويب قبل نشرها. وربما يعود ذلك عند المبتدئين إلى عدم تقديرهم أهمية هذا الأمر، والحال هذه، فبالإخلال بالشروط اللغوية تنهار مقومات الكتابة بأكملها، فلا ينبغي التساهل في هذا الأمر مهما كانت الأعذار.

وثاني ما ينبغي الوقوف عليه جهل لا يخفى بكيفية تركيب النص القصصي، ولا بأس من الممارسة والتعلم المتواصلين من خلال القراءة المتمعّنة لعيون القصص القصيرة، فهذا بحر لا قرار له، وبحاجة إلى مداومة لا تنتهي من الاطلاع، وحينما يعزم الكاتب على وضع ما كتب أمام العموم، فينبغي عليه أن يعرض نصوصه بأفضل حال ممكنة من ناحية الصوغ السردي، وكلّي أمل في أن ينتفع الكتاب الشباب الذي يجربون النشر لأول مرة، من خبرات الآخرين، قبل نشر نصوصهم، فلا ضير من عرضها على لغويين أو نقاد أو قصاصين لتنقيتها من الشوائب التي تلازم البدايات الأولى.

توافرت في القصص الأربع التي اخترتها ميزات لم تتوافر في سواها، فقد وجدت فيها اهتماماً واضحاً باللغة، وبالأسلوب، وبالحبكة، وبطريقة السرد، وكل ذلك وضع في خدمة موضوعات وقضايا غاية في الأهمية، تتراوح بين المنفى، والانتظار، والحرية، والإغواء، ولمست فيها جهداً يستحق التقدير، وخبرة تستأهل الثناء، ودراية بالكتابة ينبغي أن ترعى، وتصقل، وتلك هي الخطوة الأولى في كل كتابة.

طرحت قصة «لا قرار لا مثوىَ» لأحمد البحر، قضية المنفى على خلفية نزوح ملايين العراقيين بسبب الاستبداد والاحتلال، وما ترتب عليهما من عنف وفوضى، أفضيا إلى مغادرة أعداد كبيرة بلادهم إلى المهاجر والمنافي. يعمل بطل القصة أستاذاً جامعياً، ولكنه يشعر بالاقتلاع عن وطنه، فلم يتمكن من التكيف مع حالته الجديدة حيث يعمل، ولم يكن قادراً على نسيان وطنه، وحينما اتخذ قرار العودة، فوجئ بجندي أمريكي يربض على حدود وطنه. تسبب وجود المحتل بصدمة كبيرة لشخص ينتمي وجدانياً وثقافياً إلى بلاده، وقد أجبر على النزوح، وها هو يعود، فيكون أول ما يرى محتلاً. صورت القصة الأحاسيس المتضاربة في أعماق الشخصية بلغة سردية دقيقة، وكثيفة، فكشفت عن انشطار بين أحساس مكين بالانتماء، وشعور بالاجتثاث.

أما قصة «الجاموس وطائر الإوز» لعمر شبلي، فهي حوارية رمزية بارعة بين حيوان وطير، وتحيل بكل دلالتها على اختيارات الإنسان الكبرى في الحياة، وهي تذكّر بالأحاديث الخلابة بين الحيوانات والطيور في «كليلة ودمنة» وموضوعها الانتظام والتماسك والمسئولية بمقابل التبعية والفوضى والتشتت. يتدرب طائر الإوز على الأدوار القيادية، ويمارسها مع بقية الطيور في السماء، فيظهر النموذج الأكثر تعبيراً عن القيادة الجماعية المنظمة، فيما ينخرط الجاموس في تبعية لقائد أوحد قد يؤدي بالقطيع إلى التهلكة. هذه القصة كناية رفيعة المستوى تكشف اختيارين لا ثالث لهما في الحياة، إما الانتظام، والمسئولية، والشراكة، وعليها تترتب القوة. أو الفوضى، والتبعية، والاتكالية، وينتج عنها العجز.

وتطرح قصة «حارس المقبرة» لإبراهيم فرحان خليل، موضوعها بطريقة جيدة، إذ تعرض حالة إنسانية لحارس مقبرة يساكن الموتى، ويكون شاهدا على نتائج الاستبداد، وكيف يقع طمس آثار الضحايا بعيدا عن الأنظار بتعذيبهم وتقتيلهم. تكشف القصة تجربة الحارس، وحياته، وشهادته على التناقض القائم بين الحياة الآمنة للموتى، وشقاء الأحياء الذين يغتالون ويدفنون سراً. وضع الراوي مسافة بين تجربته وتجربة الآخرين مكنته من رصد تلك المفارقة.

وتتوازى قصة «كروشيه» لبثينة محمد الدسوقي مع الأسطورة الإغريقية في ملحمة «الأوديسة» لهوميروس حيث تقوم «بينلوبي» زوجة البطل «أوديسيوس» بنسج ثوبها نهاراً، وفك النسيج ليلا، لتدرأ عنها إلحاح الخطّاب الملحاحين، بانتظار عودة زوجها من حرب طروادة، فتؤجل كل شيء بانتظار ذلك الحدث. وهذه القصة تعيد تمثيل تلك الفكرة بطريقة جديدة حينما يستبد بالمرأة عشق تظل تنتظره إلى النهاية من دون ملل، فتمضى سنوات عمرها في نسج ثوب ترتديه لمرة واحدة. إنها قصة الصبر والانتظار.

----------------------------------------

لا قرار.. لا مثوى
أحمد البحر- (العراق)

كان منبه ساعة الواقع يرن بلا هوادة ليوقظني من حلم دام لسنتين عندما وقع نظري لأول وهلة على ذلك الجندي القادم من وراء البحار وأنا أعبر الحدود إلى العراق قادماً من بلد عربي استرجعت خلال اقامتي فيه شيئا من ذاتي. بلد أفسح المدى أمامي لشيء يشبه الحياة. ياالله، منذ سنتين وأنا مرتاح لعدم رؤيتي هكذا وجوه. أدركت حينها سبب تعلقي بمنفاي أرضاً ولغة وشعباً إلى درجة أني تخليت حتى عن لهجتي البغدادية، بل وحتى عن جنسيتي عندما كان يسألني سائقو التاكسي هناك عن انتمائي, كأنما يؤدون فريضة ملزمة أو ركناً مهماً من أركان مهنتهم. كنت أجيبهم دوما بأنني من المحافظة الشرقية، وأعمل أستاذاً محاضراً في جامعتها. الغريب إنني كلما نزلت من التاكسي شعرت بوعكة ضمير شديدة أحس معها بأنني كنت مع بني اسرائيل وهم يستمعون لنبيهم يقول لهم معنفا: «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير». نعم، ألست ابن حاضرة الدنيا، وابن شارع المتنبي وبيت الحكمة والجنان المعلقة، .الخ. وبعد هدوء عاصفة الضمير هذه أعود بعدها لألوح بيدي لسيارة تاكسي أخرى ليبدأ سائقها معي طقوس الأسئلة ذاتها ويتكرر المشهد ذاته أيضاً. لكنني أخيراً وجدت إجابة مقنعة لكل علامات الاستفهام التي تراكمت في ذهني جراء بعض السلوكيات التي لم أجد لها أي مبرر وقتها. ومثل ببغاء مدرب على تكرار جمل معينة من دون إدراك, بادرني ذلك الجندي الأسود بلهجة عراقية مؤمركة: «مرحبا، أعطيني الجواز». وعلى الفور أجبته بلسان قومه: «لاداعي لأن تتعب نفسك فأنا أتحدث الإنجليزية».

وبعد سلسلة من الإجراءات الروتينية والأسئلة الأمنية المملة لكلينا, سلم الجندي الأوبامي جواز سفري إلى موظف من أبناء جلدتي لغرض إكمال إجراءات الدخول. مازلت أتذكر ذلك الإحساس الغريب الذي يجمع بين الحنين إلى الوطن والخوف من العودة إليه. هذا الانشطار بين الغربة في الوطن والوطن في الغربة، صرت أرى نفسي كجذع يقف منتصباً حائراً بين جذر يابس مدفون في أرض يباب, وبين فرع أخضر تتطلع أوراقه إلى سماء زرقاء. تذكرت حينها كلمات أحد المسئولين في الجامعة وهو يقول لي عندما ذهبت لألقي عليهم تحية الوداع: «يا أستاذ، أنت مكسب حقيقي لبلدك، وذهابك خسارة لنا». لا أخفي أنني كنت ولا أزال أعاني من موجة هلع تراودني كلما سمعت كلمة «خسارة» حتى لو كان صداها إيجابياً مع أنني لم أمارس أي نوع من أنواع التجارة في حياتي. وأعتقد أنني لمست سبب ذلك وأنا أهمُّ بعبور الحدود عائداً إلى جذوري, تاركاً ورائي اسما وسمعة طيبة وأصدقاء وطلاباً وأشياء أخرى ظلت تدور في فلكي وأدور في فلكها.

لكنني جمعت شتات أفكاري وحزمت حقائبي لإنهاء مرحلة اللاقرار واللامكان واللامصير. كنت كمن خرج من مسرح ليذهب إلى مسرح آخر. ولكنني الآن ذاهب الى مسرح لم يقدم لجمهوره غير الدراما التراجيدية. وكان مصدر قلقي أنني قد ألعب دوراً هنا كما لعبت دوراً هناك رغم اختلاف النص و الشخوص والأدوار.

الجاموس وطائر الإوز
عمر شبلي - (الرياض)

ورد جاموس إلى بحيرة، وأنزل رأسه يشرب، فلفت انتباهه انعكاس لسرب إوز في صفحة الماء!

رفع رأسه ليرى قدوم السرب المنتظم في شكل 7، وغط السرب عند ضفة البحيرة.

تقدم الجاموس من طيور الإوز، وسأل أحدها:

- أتنتقلون دائما؟

رفع طائر الإوز رأسه يشكر الله بعد أن ارتوى، وأجاب الجاموس:

- نحن نتبع تقلبات المناخ، ونقصد الدفء حيث يحل.

وعاد الجاموس يسأله:

- ولكن لم تطير أسرابكم دائما على شكل 7؟ وكيف تسير قطعان الجواميس؟

- نحن نتبع قائدنا، والمعروف عنا أننا قطعان مطيعة سهلة القيادة، فلا هم للقطيع إلا اتباع القائد إلى حيث يريد، دون الاهتمام بطريقة الانتقال أو السير!

ورد طائر الإوز مستغرباً:

- كل همكم أن تتبعوا القائد إلى حيث يريد، ولا تأبهون إلى طريقة السير؟!

- أجل نحن لا نأبه سوى بطاعة قائد القطيع، وأنتم؟

- نحن نتبادل قيادة السرب في ترحالنا.

- هل يعني هذا أن كل طيور الإوز تستطيع قيادة السرب؟

- طبعا!

- وكيف ذلك ؟

- الأمر بسيط، يتدرب الفرخ منا ومنذ بزوغ الزغب في جناحيه على القيادة الذاتية.

- وما حاجتكم إليها؟

- إذا لم يتقن طائر الإوز القيادة الذاتية فلن يتمكن من الطيران في سربه على شكل 7.

- هذا يعني أنكم لا تتمتعون بالحرية في طيرانكم!

- إن كانت الحرية تعني الفوضى؛ فنعم، واعلم أن الطائر منا واحد من جماعة لايتحقق وجوده إلا بها، ولا تكتمل الجماعة إلا به، فإن تكاسل الفرد عن القيادة الذاتية نتج عن ذلك خلل في نظام الجماعة، وقد لا يبلغ السرب رحلته التي يجتاز خلالها مسافات شاسعة.

- إن حياتكم لا شك صعبة لأن النظام يخلق التعقيدات.

- أظن أنكم أنتم الذين تواجهون الصعوبات!

- ولم؟

- ألستم أنتم سكان الأرض أحوج إلى النظام؟

- وما حاجتكم إلى النظام أنتم ولكم السماء ورحبها؟

- نحن نحتاج النظام في طيراننا لأننا نظن أن السماء ليست لنا وحدنا! فهل تعيش قطعان الجواميس وحدها في هذه الأرض؟

- طبعا لا! فهناك مخلوقات أخرى كثيرة، ومتنوعة.

نظر إليه طائر الإوز بدهشة وطار يكمل التشكيل 7 في سربه الذي راح يحلق عالياً.

ومنذ سمعت ما دار بينهما، وأنا اسأل نفسي: أمن الجواميس أنا، أم من الإوز؟!.

حارس المقبرة
إبراهيم فرحان خليل (سورية)

مضى على وجود هذه المقبرة أربعون عاماً منذ أن دشنتها جثة أحد البكوات الأكراد الذين استشهدوا خلال انتفاضة الشيخ سعيد بيران الشهيرة في تركيا منذ أقل من قرن. وإذا استثنينا النوم مع الموتى فبإمكاني القول إنه منذ ذلك الوقت لم يحدث أي شيء يسترعي الانتباه ويستحق أن يرويه المرء لأصحابه في المجالس أو يفاجئ به زوجته المعزولة عن العالم.

عملٌ ممل ولكنه مريح في الوقت ذاته ويناسب رجلاً في مثل سني. منذ عشرين عاماً حين تسلمت هذا العمل وأنا أقول لنفسي كل يوم قبل أن أنام إن من سعادة المرء أن يعمل مع أناس كفّوا عن الحركة بشكل نهائي, بل إن المطلوب منهم لكي يستمر العمل معهم ألا يفعلوا أي شيء يلفت إليهم الانتباه وإلا فسيحرمون من هذا النزل المجاني في هذه المدينة التي تزداد ازدحاماً يوماً بعد يوم.

أنا فلان الفلاني - وبصراحة فإن اسمي غير مهم ولا يمكن أن يضيف شيئاً أو ينقص شيئاً من شهادتي هذه - ما يهم هو أنني في الأصل رجل قروي أو أنني بقيت كذلك مدة ثلاثة عقود قبل أن تجتذبني المدينة إليها ذات موسم جفاف مشئوم فقدت فيه ثلاثة من أولادي في حوادث مختلفة.

في البداية كنت أخاف كثيراً من منظر القبور ولا سيما في الليل حين تمتزج الظلمة بالصمت في مزرعة الموتى هذه, الأمر الذي يجعل الجو ملائماً لظهور الأشباح. ولكن شيئاً فشيئاً وبحكم الاعتياد تناسيت هذا الخوف ولم أعد أرى في القبور من حولي سوى أكوام من التراب وقطع من الرخام عليها كتابات لا أعرف قراءتها وتضم أشخاصاً لا يكذبون ولا يقتلون ولا يرتكبون أي فعل شائن أو غير شائن.

وكما أسلفت فقد مضت كل تلك السنين ولم يحدث شيء ما ولكن بالأمس وقعت لي حادثة تستحق الذكر:

مع أول خيوط الفجر توقفت أمام باب المقبرة سيارة سوداء نزل منها رجلان عرفتهما على الفور, أنزلا تابوتاً, سألني الأول دون أن يكلف نفسه عناء النظر في وجهي:

- هل القبر جاهز ؟

هززت برأسي موافقاً وأنا أغالب نوبة من السعال:

- تقريباً.

- ماذا تعني بتقريباً ؟

- معلومك لم تعد صحتي تساعدني

تولى الرجلان وضع التابوت في غرفتي ودس أحدهما مبلغاً من المال في جيبي, فوجدت نفسي مضطراً إلى أن أضيف:

- غداً صباحاً سيأتي معاوني وهو شاب لم يبلغ العشرين من العمر بعد ولكنه يتمتع ببنية قوية.

- تثق به؟ سألني الأول.

- إنه ابن المرحوم أخي وهو بالإضافة إلى ذلك أخرس.

- جيد، الأخرس مثل الأعمى

وأردف الثاني: احرص على أن تدفنه جيداً, لا نريد أن تفوح رائحته ومن الأفضل ألا يعرف أحد أين دفنته.

حين تأكدت من انصراف الرجلين ألح علي الفضول أن أنظر في وجه هذا الميت قبل أن أدفنه ففتحت التابوت. كان الجسد العاري هزيلاً بشكل غير طبيعي وغير مألوف حتى بالنسبة لي أنا الذي رأى عشرات بل مئات الأموات حتى الآن. دققت في ملامح وجهه كانت آثار الوسامة لا تزال بادية عليه بالرغم من الهزال الشديد وثمة آثار سجائر مطفأة في عنقه. خيل إلي أني سبق أن رأيت هذا الوجه في مكان ما ولكن أين، . أين, لا أدري لعلني لم أره في حياتي ولكن الموت يجعل جميع الموتى متشابهين.

لم يكن من النادر بالطبع أن أنام وإلى جانبي تابوت ولكن في كل مرة يزورني هؤلاء الناس بالذات ويودعون لدي ميتاً أنام تلك الليلة قلقاً لا تكاد الكوابيس تغادرني حتى أنني أخشى أن تقوم القيامة في اليوم التالي.

في تلك الليلة حلمت به. رأيت ذلك الوجه ذاته في مشهدٍ مما يرى النائم كأنني وإياه كنا جالسين على مائدة واحدة عليها أصناف كثيرة من اللحوم والفواكه والمشروبات, وبعد أن أكلنا وشبعنا قال فجأة إنه مضطر للذهاب إلى مكان آخر لأن الشرطة تبحث عنه وقد يشكون في وجوده في هذا المكان وهو لا يريد أن يسبب لي أية متاعب.

لا أدري لماذا كنت راغباً بشدة في منعه من الذهاب, ربما لأنني كنت أعرف في دخيلة نفسي أنني في حلم وأن شخصيات الأحلام تكون قريبة إلى النفس إلى الدرجة التي يتمنى فيها أحدنا اصطحابها معه إلى عالم اليقظة.

والمهم أنه انصرف دون حتى أن يذكر لي اسمه ولا أين يمكن لنا أن نلتقي ثانيةً, شعرت بحزن شديد وكأنه كان أحد أولادي.

أما الأمر الغريب الذي ذكرت أنه وقع لي فهو أنني في الصباح, وكان الحلم قد انتهى, استيقظت متأخراً حين سمعت صوت حركة لدى الباب فقفزت من الفراش كمن تذكر شيئاً ما. كان ابن أخي واقفاً بالقرب من رأسي يشير إلى التابوت المفتوح في زاوية الغرفة ويهز رأسه ويديه معاً. اقتربت منه وكنت على وشك أن أعنّفه بسبب تأخره كالعادة ولكن، . أقسم لكم أنني كنت في كامل وعيي حين نظرتُ إلى حيث يشير ومع ذلك ما أزال حتى اللحظة لا أصدق ما رأيت, لقد كان التابوت فارغاً.

كروشيه
بثينة محمود الدسوقى - (مصر)

عندما قررت شراء هذه الكمية المهولة من الخيوط القطنية السميكة لم تكن تعلم أن هذا سيجعلها محط أنظار العاملين في المحل لدرجة أن يشير أحدهم بيديه جوار وجهه إشارة تنم عن جنونها، أغفلت الإشارة، وأدارت ظهرها وخرجت محملة بتل من البكرات، وإبرة وحيدة طويلة، كانت تدرك دوماً ان هناك من لا يفهم أفعالها ويسيء تقييم جهودها بل وينعتها بالبله أحياناً

لعل هؤلاء الباعة يرونها مجنونة، ولكن لا وقت لديها لتبرر، يقتلها تبرير وجودها أمام الآخرين

هذا الذي تفعله توقفت عن فعله السيدات منذ سنوات، ما من امرأة تضيع وقتها الآن في غزل الخيوط بإبرة وحيدة لتحظى قرب نهاية العمر برداء، إنه ضرب من جنون أن تظل تحيك الخيوط بصبر أيوب أو أكثر، بينما تطالعها في المحال آلاف القطع المنسوجة آلياً بكل الألوان، لن يصدق أحد أنها تفعل ذلك، لن يصدق أحد أنها ستبذل في هذا الثوب من المال ما يمكنه شراء عشر قطع، أو أكثر.

تحمل الأكياس التي تزدحم بالخيوط وتعبر الشارع في عجالة، تستوقف سيارة أجرة فيفاوضها السائق لأن الأكياس ستشغل حيزاً أكبر، تدفع كل ما تبقى معها حتى تصل إلى بيتها، وهناك تفتح دولابها فيسقط منه نسيج لا نهاية له، تناسقت ألوانه عن غير تعمد منها، ربما هي روحها التي كانت تنسج سنين طوالاً، تلتقط آخر نقطة توقفت عندها منذ سنوات، تتلمسها، فتشعر بها مبللة، وكأن الدمع الذى سكبته حين أخفت نسيجها لم يجف بعد، وتبدأ في معاودة فعل تعشقه، تصل الخيط بآخر ثقب في السطر، وتحكم العقدة وتبدأ، لعله أمر غير مفهوم لمن حولها، مستغرب، لكنها كانت تصر على فعله، كانت تريد ان تقول له بعد حين، انظر جيداً فعلتي، أخبرني ماذا ترى بي، كانت تتحاشى الدنيا من حولها لتنسج، تهرب إلى غرفتها، تدير الإبرة في الخيوط وهي تتمتم بآيات فك الكرب.

طال هروبها، وزاد ضيق الحيز الذي يحتوي خيوطها بعد ما اتسع النسيج واستطال الثوب ليصبح من أجمل ما رأت عيناها، ولكنها تطمع في مزيد من البهاء، تعمد إلى التواري بعيداً، لتنسج، لعل أيوب ذاته لم يكن بصبرها

تكررت رحلات الشراء، واعتادت اتهاماً بالجنون

وكرهت أن تضيع وقتاً في مجادلة من لا يعي.

وعندما عجزت يداها عن حمل نتاج سهرها الطويل، حاولت ارتداءه، حاولت، كان بريقه يغريها، وفخامته تأسرها، وأناقته تخلب لبّها، وعندما نجحت أخيراً، حملت أطرافه بين يديها، وتسللت إلى حيث هو يجلس في مكانه كل يوم.

رأت في عينيه الدهشة، وفي شفتيه ابتسامة لم تفهمها، لم ينطق كلمة، ولكنها أحست به يتلمسها عارية. أغمضت عينيها، وتذكرت تلك الحدوته القديمة، عن الرداء السحرى للسلطان، ذلك الذى لا يراه سوى المحبين.

جاذبية!
حنان بيروتي (الأردن)

لمحتُها تسير من بعيد، قوامها ممشوق متناسق وشعرها أشقر مسرّح بغير ابتذال، تتبعها رائحةُ عطرٍ أنثويةٍ ناعمة أشبه بغلالة سحر آسرة للحواس والقلب، لم أستطع إلا أن أسيرَ خلفها أتتبّع خطاها الأنثوية المتهادية، فجأة توجه لي أحدهم وهو يسير جانبي بلهجة مَن يتفق معي بموضوع مشترك: إنها ساحرة! لم أرَ أجمل منها في حياتي!

لم أجبه، أزعجني تطفّله وكسره حاجز الرسمية مع شخص لا يعرفه، لكنّه أضاف بثقة: أراقبها يومياً وأتبعها في طريقها للعمل محاذراً أن تلحظني!

فكرتُ أن أغيّر مساري وأتركه لكني لم أستطع مقاومة حضورها، جاذبية غريبة تمتلكها هذه الأنثى لا يقاومها رجل وحيد مثلي، تفاجأتُ بمرافقي يقول: نعم! جاذبيتها لا تُقهر!

أصابني الفزع، فأنا لم أتحدث اليه كنتُ أخاطب نفسي! طالعتُه باستغراب فقال وهو يبتسم: لا عليك! أنا فقط أتكهّن، . مجرد تكهُّن لما تفكر به! تابعنا السير خلفها، فكرت ماذا لو تجاوزناها أو سرنا بالقرب منها، أسرعتُ بخطاي لكنّي أحسستُ بكفه وهي تطبقُ على ذراعي بشدة لم أتوقعها: إيّاك أن تقترب فقد تتسبب بغضبها وابتعادها وقد نفقدها! انزعجتُ أكثر من تطفُله وفكرت بأني لم أعد أحتمله، رميتُه بنظرة نارية قاسية لكنّه لم يلحظها، كان معلّقا بحواسه كلّها برصد حركات تلك المرأة، التي توقفتْ ولحظتُ تلكؤها المقصود في اعتلاء درجات المبنى القليلة، هتف مبهوراً: لقد وصلنا! موعدنا غداً صباحاً! وتبخّر من أمامي، لكنّي بقيت واقفاً، رأيتُها تستدير وتنظرُ حولها باستطلاع، كان وجهها المشوه إثر حرق ربما تعلوه ابتسامة تمتلئ زهواً انثوياً غامضاً!.

 

 

عبدالله إبراهيم