مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

ذاكرة العطاء والإنماء

من خلال الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية

هل تصفح الذاكرة ينحصر في جزئيات الخصوصية الذاتية بكل أبعادها, أو يتجاوزها لتقصي مضامين عامة تهم الجميع في سياق شمولي أوسع? سؤال طرحته على نفسي منذ دعيت للكتابة في زاوية (مرفأ الذاكرة), وأجد أن المدخل إلى مقاربة مثل هذا السؤال, هو الحديث عن شقه الثاني, لأن فيه فاتحة للحياة العامة, ويمكن به استيحاء الدروس والعبر الكثيرة اللازمة للأجيال العربية الحالية والقادمة لزيادة معرفتها بكل ما تختزنه الذاكرة الجماعية.

وهذا ما يبرر لنا استحضار لمحات تختزنها الذاكرة حول مسيرة متميزة لصندوقين إنمائيين هما الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية, والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي, اللذان شاءت الأقدار أن أقضي معظم حياتي المهنية فيهما, وأن أتابع نشأتهما وصعودهما, وبفضل الخبرة المباشرة أتمكن من الحديث عنهما في (مرفأ الذاكرة) فهما من أهم قنوات العمل العربي المشترك, وعلى الأخص في مجال العون الإنمائي المؤسسي, وقد تصاعد تأثير فعلهما الإقليمي على امتداد العقود السابقة في تعبئة الموارد العامة لتمويل المشاريع التنموية في جميع القطاعات الاقتصادية, وفي تقديم المشورة والخبرة للدول المستفيدة.

لقد تعزز عمل هذين الصندوقين لكون العون المقدم منهما منزهاً عن أي استغلال, ولا يرتبط بأي شروط تجارية أو سياسية بأي شكل كان, ولا يشكل أي تهديد للدول المتلقية, فلا تخشى هذه الدول ضغوطاً سياسية لاتباع أو تبني موقف سياسي محدد ولا هيمنة محتملة, إضافة إلى أن قروضهما تتسم بشروط أكثر يسراً من مصادر التمويل الدولية, ويتمثل هذا اليسر في انخفاض سعر الفائدة وطول فترتي السماح والسداد, الأمر الذي ينعكس إيجابا على نسبة عنصر المنح, الذي يرتفع في العون المقدم من الصندوق الكويتي والصندوق العربي لاشتماله على معدلات من الهبات والمنح التي تميزت بالاستقرار طيلة السنوات السابقة, إذ تراوحت في المتوسط بين 43% و45% على عكس العون المقدم من الدول المانحة المتقدمة اقتصادياً, الذي يرتبط بشروط مجحفة بحق الدول النامية, إذ تميل هذه الدول إلى فرض قيود على اختيارات الدول المتلقية في أشكال عدة تتضمن شكل المساعدة وتوقيتها وطرق إنفاقها.

يضاف إلى هذا أن قروض الصندوقين موضوع البحث, توفر قدراً كبيراً من حرية الاختيار في أوجه استخدام أموال القروض التي تقدمها, حيث تتبع مبدأ المنافسة الدولية عند التعاقد مع المقاولين والموردين والاستشاريين, وبهذا يختلف العون المقدم منهما عن معظم المعونات التي تقدمها الدول المتقدمة اقتصادياً, التي تجبر الدول المستفيدة على شراء منتجاتها وخدماتها بالأسعار والمواصفات المتوافرة في أسواقها.

والشيء اللافت للنظر أن أعمال هذين الصندوقين تتلاقى وتتضافر وتتقارب وتتخذ لها مسالك متشابهة تنعكس في علاقات وروابط متعددة لا تقتصر على التعاون الذي يجمعهما في إطار مجموعة التنسيق مع بقية الصناديق العربية الوطنية منها والإقليمية, وما يقومان به من تمويل مشترك في إطار هذه المجموعة, بل تمتد لتشمل أمرين أساسيين, يتصل أولهما بكون دولة الكويت هي المقر الرسمي لكل منهما, إضافة إلى دورها في تأسيسهما ولا سيما دعوتها التي وجهتها للدول العربية في عام 1967, لإنشاء مؤسسة إنمائية عربية, تجسدت في النهاية بإنشاء الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي, ويتصل الأمر الثاني بقيام الصندوق الكويتي بكل إجراءات تأسيس الصندوق العربي عند إنشائه, وصياغة عدد من أنظمته الأساسية, وتولي إدارة رأسماله, واستكمال تلك الإجراءات وتكوين مجلس إدارته كي يتولى أعماله.

الانتماء القومي

النشأة والملامح الأساسية:

سعت دولة الكويت منذ نيل استقلالها الكامل في عام 1961 للمشاركة في جهود التنمية الاقتصادية العربية, انطلاقا من إيمانها بضرورة التعاون العربي, وتحقيقا لذلك سارعت في 31/12/1962 إلى إنشاء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية, كأول جهاز مؤسسي عربي للعون الإنمائي, عبرت بإنشائه عن انتمائها القومي بأمتها, وإحساسها بالمصير الواحد مع الدول العربية, ورغبتها الأكيدة في توثيق الروابط الاقتصادية معها, وتدعيمها وجعلها إحدى ركائزها الأساسية لما فيه خير هذه الدول قاطبة وصلاح اقتصاداتها.

لهذا لم يكن إنشاؤه ـ كما أشار إلى ذلك تقريره السنوي الأول ـ (وليد ظرف عابر ينتهي بانتهائه, إنما هو تعبير مجسم لشعور حقيقي فياض لدور الكويت في المساهمة في دفع عجلة التقدم في الدول العربية), في وقت كانت فيه تلك الدول بأمس الحاجة إلى هذه المساعدات, فقد شهدت اقتصاداتها خلال سنوات العقد الخامس, وبداية العقد السادس من القرن الماضي معدلات نمو وتطور متواضعة, وعانت من مشاكل هيكلية عميقة الجذور, ومن صعوبات في الحصول على الموارد المالية الإضافية من مؤسسات التمويل الدولية.

على الرغم من بداية الصندوق الكويتي المتواضعة عند إنشائه, فإننا على قناعة بأن مساعداته مع محدوديتها في سنيه الأولى قد ساعدت على زيادة موجودات البلدان المقترضة من العملات الأجنبية, إما مباشرة, أو عن طريق رفع القدرة التنافسية لصادراتها, إضافة إلى مساعدتها في تخفيض العجز في ميزان مدفوعاتها, وتمكينها من خدمة ديونها الخارجية وتسديد أقساطها, ولا أريد أن أرهق القاريء بتفاصيل البدايات الأولى لمسيرة الصندوق, فلدينا منها الكثير, وأكتفى فقط بالقول إن السودان قد كان أول بلد طلب قرضاً لتمويل مشروع لسككه الحديدية وتحسينها بمبلغ 7 ملايين دينار كويتي, تم توقيع اتفاقيته في عام 1962 بعد أقل من ثلاثة شهور من تأسيس الصندوق الكويتي, في وقت لم يكن قد استكمل جهازيه الفني والإداري.

وكان الأردن البلد الثاني الذي تلقى قرضا في عام 1962 بلغت قيمته نحو 5,7 مليون دينار كويتي لتمويل ثلاثة مشاريع هي مشروع نهر اليرموك للري والطاقة الكهرومائية, ومشروع الفوسفات, ومشاريع مؤسسة الإنماء الصناعي.

وخلال العام الثالث قدم الصندوق الكويتي قروضاً لثلاث دول عربية أخرى, هي تونس والجزائر ومصر, حيث قدم عام 63 قرضاً لتونس بلغت قيمته نحو 4 ملايين دينار كويتي لتحديث محطة كهرباء حلق الوادي لتوليد الكهرباء قرب تونس العاصمة, وقرضا آخر بقيمة مليوني دينار كويتي لمشروع إحياء وادي مجردة للري واستصلاح الأراضي, كما قدم قرضاً للجزائر بتاريخ عام 1964 بلغت قيمته 5,7 مليون دينار كويتي لتمويل خط أنابيب النفط بين حقل حاسي مسعود في الصحراء إلى ميناء ارزو على ساحل البحر المتوسط, وقرضاً لمصر بتاريخ عام 1964 بلغت قيمته 8,9 مليون دينار كويتي لتمويل مشروع توسيع قناة السويس وتحسينها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن تلك المشاريع في الدول السابق ذكرها قد كانت مهمة لأنها استهدفت دعم استقلال هذه الدول من الضغط السياسي الذي كانت تواجهه من الدول المستعمرة لها سابقا, أو من مؤسسات التمويل الدولية, كل ذلك في السنوات الأولى للاستقلال.

.. على قدم المساواة

بنهاية عام 1965 بلغت إجمالي قيمة القروض التي قدمها الصندوق الكويتي نحو 38 مليون دينار كويتي, وبعد ذلك توسعت عملياته بتسارع كبير وامتدت أنشطته في النصف الثاني من عقد الستينيات إلى المغرب ولبنان وسوريا, وازداد تعامله مع الحكومات العربية على قدم المساواة بغض النظر عن أنظمتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومع نهاية عام 1971 كان الصندوق قد قدم تسعة عشر قرضاً بلغت قيمتها 71,6 مليون دينار كويتي, وكانت له أنشطة في تسع دول عربية.

مع توسع أعماله, سرعان ما زاد اجتذاب الصندوق الكويتي للخبراء العرب المتميزين للعمل فيه دون غيرهم من شتى الاختصاصات, لأن قرار مجلس الإدارة كان واضحا بأن يدار بكفاءات عربية لبناء جهاز فني يمكنه بالإضافة إلى مد الدول المستفيدة بالمساعدات المالية, التعاون معها في جميع الأمور الفنية والاقتصادية والمالية والقانونية المتعلقة بتنفيذ مشروعاتها, وتقديم النصح والمشورة لها في مختلف المراحل التي تمر بها من مرحلة تحديدها, وإعدادها, وتقييمها, وذلك حرصا منه على تحقيق أكبر قدر ممكن من المنافع المرجوة من المشروعات التي يسهم الصندوق في تمويلها.

ولعله من المناسب في هذا المجال الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من هؤلاء الخبراء قد تولوا فيما بعد مناصب ومسئوليات كبيرة في بلادهم, حيث خدم الكثيرون منهم في مناصب وزارية, وحتى رئاسة حكومات عربية.

مشاريع وتنمية موارد بشرية

وحين نرجع البصر في حيثيات العقد الأول من مسيرة الصندوق الكويتي, نجد أن مساهماته في الدول العربية في هذه المرحلة لم تنحصر في تقديم القروض فحسب, بل امتدت لتشمل أيضا تقديم منح وجهت لتنمية الموارد البشرية, والأجهزة المؤسسية, قدم الصندوق أول منحة منها لليمن في منتصف الستينيات من أجل تمويل مسح اقتصادي بكل ما يعكسه من حيثيات تتصل بمجمل المقومات الاقتصادية اليمنية, وإمكاناتها, وأسسها الارتكازية, وتحديد لأولوياتها القطاعية والإنمائية.

كما قدم الصندوق الكويتي في تلك المرحلة لأغراض المعونة الفنية, منحة قدمت إلى مشروع التنمية الحيوانية في اليمن, وتمويل دراسة حول تصنيع الأعلاف من مسحوق الأسماك في اليمن الجنوبي, ومنحة لتمويل دراسة قطاع أولويات النقل في السودان, ومنحة أخرى قدمت لليمن في أوائل السبعينيات لبناء مؤسسة قادرة على توجيه التخطيط الاقتصادي والاجتماعي للبلاد التي كانت ترزح تحت سيطرة نظام متخلف لم يرغب في مسايرة العصر, وقد أسهمت هذه المعونة في استحداث هيئة تخطيط مركزية, أنيطت بها مهمة تنسيق التنمية الاقتصادية, كما غطت هذه المنحة نفقة تدريب عدد من أبناء اليمن لاكتساب مهارات في مجال التنمية.

بحلول عام 1974, وفي أعقاب تصحيح أسعار النفط وارتفاعها بمقدار أربعة أمثال عما كانت عليه من قبل, أتيح للصندوق الكويتي زيادة رأسماله وتوسيع أنشطته خارج الدول العربية لمساعدة الدول النامية الأخرى, التي اشتدت معاناتها كثيرا في عقد السبعينيات, بسبب المشاكل الاقتصادية الكثيرة التي خيمت على مفاصل اقتصاداتها, بما فيها مشاكل خدمة الدين, والفقر الذي ضرب جذوره عميقا في كثير من تلك الدول وبخاصة في إفريقيا جنوب الصحراء وغيرها من المناطق الأخرى.

الامتداد إلى البلدان الفقيرة

هكذا مر الصندوق الكويتي من حيث انتشار نشاطه جغرافيا بمرحلتين متكاملتين لبعضهما البعض, اقتصرت عملياته في المرحلة الأولى على الدول العربية وحدها, وامتدت من عام 1962 وحتى أواسط عام 1974, وقدم الصندوق خلال هذه المرحلة 47 قرضا بلغت قيمتها 134 مليون دينار كويتي, استفادت منها 12 دولة عربية, وقد وجهت هذه القروض لتلبية احتياجات تمويل المشاريع ذات الأولوية الملحة في إطار خطط التنمية في هذه الدول, وتمتد المرحلة الثانية من مسيرة الصندوق الكويتي من أواسط عام 1974 حتى الوقت الراهن, وقد اتسع فيها نشاطه في مجال التغطية الجغرافية بسرعة كبيرة, فخلال الفترة ما بين أواسط 1974 وأواسط 1975, قدم قروضا إلى عشر دول خارج الوطن العربي, خمس منها في إفريقيا وخمس في آسيا, ومنذ ذلك الوقت, والدول النامية المستفيدة من معوناته حتى النائية منها في ازدياد عاماً بعد عام, مما أدى إلى اتساع نشاطه في منتصف عام 2000 في 96 دولة, بينها 16 دولة عربية, و40 دولة إفريقية, و30 دولة آسيوية وأوربية, و10 دول في أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي.

ولا يفوتني الإشارة في هذا السياق إلى أن الصندوق الكويتي قد وسع عملياته في دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي, بعد تحرير دولة الكويت, كما أنه وسع عملياته في بلدان الكتلة الشرقية سابقاً في السنة المالية 1992/1993, كما قدم مساعداته لإريتريا التي استقلت في عام 1993, وكان الصندوق الكويتي أول مانح أجنبي لها, إذ قدم قرضاً لها بقيمة 5 ملايين دينار كويتي لتمويل مشروع بناء محطة كهرباء بليزا بقدرة 15 ميجاواط في العاصمة أسمرة.

دون محاباة.. ولا انحياز

من نافلة القول أن الصندوق الكويتي قد صمم منذ بدء امتداد نشاطه للدول النامية على عدم التأثر بأي محاباة سياسية أو دينية, والتقيد بمبدأ عدم الانحياز لأي دولة كانت, ويتبدى لنا صدق هذه المقولة من خلال انتشار مساعداته في دول ذات انتماءات دينية وأنظمة سياسية مختلفة, ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أنه قدم أول قرض إنمائي للصين الشعبية عند انفتاحها على العالم الخارجي في عام 1980, وسبق بذلك جميع مصادر التمويل الأخرى, كما أنه قدم مساعداته أيضا لفيتنام في وقت كانت فيه مقاطعة من الدول الغربية, وغير قادرة على الحصول على أي مساعدات منها, كذلك قدم مساعداته لأنغولا وزيمبابوي اللتين لم يكن مرحباً بهما في كثير من الأوساط.

بالإضافة إلى هذا اعتمد الصندوق الكويتي منذ بدء نشاطه على عدم تقييد مساعداته أو إخضاعها لأي شكل من الشروط, وتنفيذ المشاريع التي يمولها بسرعة وكفاءة لمصلحة الدول المتلقية دون أي تهديد, فلا تخشى هذه الدول ضغوطا سـياسـية تضم الكلمة أو تبني موقف سياسي محدد, ولا هيمنة خارجية محتملة, إضافة إلى أن المساعدات التي يقدمها الصندوق الكويتي تقدم بالعملات الصعبة التي تتسم بمحدودية توفرها في الدول النامية, وتشكل هذه المساعدات وسـائل ضرورية لإتمام مشاريع إنمائية مهمة, وأدوات أساسية للتـخفيف من وطأة العوائق الحقيقية التي تعرقل حركة التنـمية الاقتصادية.

الصندوق في المنفى

وهذا ما أثبتت صحته العقود الأربعة الماضية من مسيرته التي اتسع فيها نشاطه, وتمكن خلالها من تأصيل التضامن والثقة مع كل الدول المستفيدة, ومواصلة العطاء معها عاماً بعد عام حتى في فترة الغزو العراقي الغاشم للكويت, فقد سارعت إدارة الصندوق الكويتي بعد أسبوعين من الغزو إلى اتخاذ مقر مؤقت لها في المنفى في مدينة لندن, واستطاعت من هذا المقر بالتعاون مع الدول المقترضة والمؤسسات التمويلية العربية والدولية, من إعداد ملفات لكل المشاريع الممولة بما فيها اتفاقات القروض والمراسلات الخاصة بها وتقارير المناقصات, مما مكنها من مواصلة الوفاء بالالتزامات المترتبة على الصندوق, حسب الاتفاقات الموقعة مع البلدان المقترضة, حيث بلغ حجم المبالغ المسحوبة خلال فترة الاحتلال العراقي للكويت, وفقا لاتفاقات القروض الموقعة, (500) مليون دولار أمريكي, كما واصل الصندوق الكويتي من مقره المؤقت أداء عملياته الإنمائية, واستطاع استكمال كافة الإجراءات اللازمة لعقد أحد عشر قرضاً, ووقع سبع اتفاقات قروض لتمويل تنفيذ مشاريع جديدة وواصل العاملون في الصندوق السفر في بعثات تقييمية على نطاق واسع, لدراسة مشاريع مقترحة, ومتابعة اتفاقات سارية.

وقد اشتملت القروض الموقعة على ثلاثة قروض للدول العربية, وقرضين لبلدين إفريقيين, وقرضين لبلدين آسيويين, واشتملت قروض الدول العربية على قرض بقيمة (20) مليون دينار كويتي لمشروع استصلاح 400 ألف فدان من الأراضي الصحراوية في شمال سيناء, في مصر, وقرض بقيمة 30 مليون دينار كويتي قدم إلى المغرب لتمويل مشروع بناء سد المجاعرة, أما بالنسبة للقرضين المقدمين إلى إفريقيا, فقد قدم أحدهما لغينيا, وبلغت قيمته 5,9 مليون دينار كويتي وخصص لتمويل مشروع طريق سيريدو ـ نزربكوري, وقدم القرض الثاني للنيجر وبلغت قيمته 3 ملايين دينار كويتي, وخصص لتمويل مشروع توفير مياه الشرب في القرى والأرياف, وأما الدول الآسيوية, فقد قدم للصين قرضا بقيمة 8,7 مليون دينار كويتي, لتمويل مشروع لرقائق الألمنيوم, وقدم لباكستان قرضا بقيمة 6 ملايين دينار كويتي لمشروع إعادة تأهيل السكك الحديدية.

نموذج رائد

وهكذا يمكننا القول إن إنشاء الصندوق الكويتي كان مثلا رائدا لما يمكن للدول النامية أن تفعله لتزيد اعتماد بعضها على بعض علاجاً لأوضاعها, وتخفيفاً لوطأة تخلفها, وتبعيتها الاقتصادية للدول المتطورة اقتصادياً. لقد كان إنشاؤه نموذجاً استثنائياً وحيداً لجهاز تمويل له أبعاده الاقتصادية والحضارية, أسسته دولة نامية صغيرة قليلة السكان وغير صناعية, تواجه تحديات التنمية, بما في ذلك تنويع القاعدة الإنتاجية لاقتصادها, وتطوير وصيانة بناها الأساسية بما يكفل العيش الكريم لأجيالها الحالية والقادمة, وتعتمد في مواجهة أعبائها والتزاماتها المالية الداخلية والخارجية بما فيها التزاماتها في إطار العون الإنمائي الذي تقدمه على إيرادات بيع سلعة استراتيجية مآلها النضوب, وتتعرض أسعارها لتقلبات في الأسواق العالمية من الصعب التنبؤ بها مسبقاً.

من الجلي أن هذا هو الذي يفرق ما بين مساعدات الصندوق الكويتي والمساعدات التي تقدمها الدول الصناعية, فهي تمثل فوائض مالية تقدمها دولة نامية إلى دولة نامية أخرى, أي أن دولة الكويت تحول جزءا من ثروتها, إلى الدول المتلقية, بينما العكس بالنسبة للدول المتقدمة صناعياً التي تقدم مساعدتها من دخل متجدد, وتخضعها لشروط تعكس طابع التبعية والارتباط السياسي والاقتصادي بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية, وتعود بالنفع الواضح عليها كإتاحة فرص العمل لمقاوليها وخبرائها ومكاتبها الاستشارية أو سفنها, أو إتاحة الفرصة لشركاتها لتوريد المعدات وغيرها, مما يرفع من تكاليف المشاريع الممولة بنسبة تتراوح بين 20 ـ 30%, زيادة على تكاليف اختيار البضائع والخدمات من خلال المناقصات الدولية المفتوحة, وفي المقابل يمنح الصندوق الكويتي قروضاً غير مشروطة, ولا يقتصرها على شراء البضائع والخدمات من الكويت, كما هو الحال في معظم القروض الأخرى, ويسمح لها بالحصول عليها, بما في ذلك اختيار المقاولين عن طريق المنافسة الدولية المفتوحة, متيحة للدول المتلقية الاستفادة القصوى من المساعدات باختيارها أفضل العروض المقدمة, وخفض تكاليف المشاريع وبالتالي تحقيق وفورات مالية لا يستهان بها.

وهناك فوارق أخرى كثيرة, تثبت أن للصندوق الكويتي تأثيرا كبيرا على تحسين الترتيبات التعاقدية وشروط العقد وأداء الاستشاري والمقاول, بينما في المقابل تسعى الدول الصناعية المانحة الهيمنة على مصير المشاريع بواسطة الاستشاري, وصياغة الترتيبات التعاقدية لصالحها, والتي تتنافى في كثير من الأحوال مع الأعراف التعاقدية, وشراء المعدات اللازمة في بعض الأحيان من شركاتها دون طرحها في مناقصة عامة.

التجربة.. والنموذج

لا ريب أن الخصائص المميزة لمساعدات الصندوق الكويتي قد تأصلت في تجربته منذ سنواته الأولى, وتمكن خلالها من جذب الاهتمام الدولي لقضايا واحتياجات الدول النامية, والتأثير في حجم وتدفقات العون العالمية, واعتماده كنموذج في الدول الخليجية وبعض الدول العربية الأخرى, لإقامة مؤسسات متعددة الأطراف, أو مؤسسات وطنية, كان تجربة الصندوق الكويتي محل نظرها عند الإنشاء, وعند صياغة هياكلها ونظم إدارتها, واختيار أساليب العمل وبدء النشاط.

وهذه المؤسسات هي: الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي (1971), والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا (1973), وصندوق الأوبك للتنمية الدولية (1975), والبنك الإسلامي للتنمية (1975), ومن الصناديق الوطنية, صندوق أبوظبي للتنمية (1974) الذي اقتصر نشاطه في البداية على الدول العربية, من ثم بدأ في عام 1975 تقديم مساعداته للدول النامية, والصندوق السعودي للتنمية (1975) الذي أجاز له قانون تأسيسه منذ البداية بمنح القروض للدول العربية وغيرها من الدول النامية على حد سوء, وتشكل كل هذه الصناديق منظومة مميزة في عالم اليوم لما تقدمه من قروض ميسرة ومعونات فنية على شكل منح لدعم المشاريع التنموية في مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.

وهذا ما ينقلنا إلى القول بأننا لا نبالغ إذا عممنا أن تأثير تجربة الصندوق الكويتي في إنشاء هذه المؤسسات قد ساعد أيضا على إحداث ما يسمى بظاهرة (العون الإنمائي العربي المؤسسي) التي تبلورت في العقود الثلاثة الماضية وتمكنت من أن تحقق قدرا مرموقا من النجاح في جذب الاهتمام الدولي لقضايا واحتياجات الدول النامية, والتأثير في حجم وتدفقات العون العالمية, والاستجابة للالتزامات الدولية في مؤازرة الدول النامية بشكل لا يقل أهمية عن الجهات الدولية المانحة للعون بمعيار نسبة التدفقات, إذ تجاوزت نسبة تدفقات العون الذي تقدمه الدول العربية إلى ناتجها القومي الإجمالي نسبة 0,7% وهي النسبة المحددة من قبل الأمم المتحدة كهدف للمساعدات الإنمائية المقدمة من الدول الصناعية المتقدمة, إذ بلغ على سبيل المثال حجم المساعدات الكويتية في بعض الأحيان نسبة 8% من الناتج القومي الإجمالي للكويت, وهي تفوق بأكثر من عشر مرات النسبة التي استهدفتها الأمم المتحدة, كما بلغ المتوسط السنوي لحجم مساعدات الكويت 4% طيلة الفترة الممتدة ما بين 1962 ـ 1999. وبلغت في عام 1999 نحو 1,2% بالرغم من الضغوط الاقتصادية الناشئة عن انخفاض العوائد النفطية, وهي نسبة تزيد كثيراً على النسبة المقدمة من دول لجنة مساعدات التنمية (داك) الخاصة بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في نفس العام, والتي بلغت 0,23% من الناتج القومي لهذه الدول.

من الحقائق الخالية من أي مغالاة أن المساعدات التي تقدمها الكويت للدول الأخرى, لا تنحصر في مساعدات الصندوق الكويتي فحسب, لأن الصندوق في حقيقته ما هو إلا قناة من قنوات أخرى متعددة تتدفق من خلالها هذه المساعدات, كقناة الترتيبات الثنائية المباشرة ما بين حكومة دولة الكويت, والحكومات الأخرى العربية, وغيرها من الدول النامية, وقنوات المؤسسات الرسمية كالهيئة العامة للجنوب والخليج العربي (وزارة الخارجية), وبيت الزكاة, وبيت التمويل الكويتي, وكذلك قنوات عدد كبير من المؤسسات الشعبية, كالهيئة الخيرية الإسلامية العالمية, فضلا عن قنوات أخرى تتمثل بالمنظمات العربية والإقليمية والدولية التي تساهم فيها دولة الكويت. وتقدر المساعدات الرسمية التي تدفقت من دولة الكويت عبر كل القنوات الرسمية, بحوالي 65 مليار دولار أمريكي منذ عام 1962 وحتى الآن.

 

عبداللطيف يوسف الحمد

 
 




مبنى الصندوق الكويتي للتنمية





رئيس الصندوق العربي للإنماء ووزير المالية السابق عبداللطيف الحمد





الحمد في أحد اجتماعاته مع الوفود الأجنبية من اجل التنسيق لعمل الصندوق





مبنى صندوق الانماء العربي