جرح الوردة

قراءة نقدية في رواية... "مرايا الروح"

للكاتبة: بهيجة حسين

"مرايا الروح" هي الرواية الثالثة للكاتبة المصرية "بهيجة حسين" بعد "رائحة اللحظات" و"أجنحة المكان".. تقطع فيها صاحبتها خطوات للأمام وتعود أخرى للوراء بسبب الموضة.

تنفتح الرواية على التذكر والخروج للعالم الجديد مصحوبا بالحلم العظيم بالحرية والعدل، حلم امرأة مفعمة بأنوثتها، فخورة بها، عارفة بالآلام التي عاشتها ملايين النساء لمجرد أنهن نساء وكأنهن عار القبيلة وراية شرفها في آن وسوف نجد في طقس الاستحمام المتكرر في الرواية تعبيرا رمزيا لاواعيا عن غسل عار رمزي.

ترقب "مايسة" عبر رحلتها الطويلة وعلى مرايا روحها المتعاكسة جدتها وهي تقدم الخدمات لعشيقة زوجها وهي راضية بهذا الدور دون أي احتجاج، وتتبع مصائر مجموعة من النساء الأقل حظاً في رحلتهن إلى الموت حرقا وغرقاً وكمداً، وموتاً معنويا في الانتظار، وغالبيته موت بسبب الجنس الذي يتم خارج مواصفات وشروط المؤسسة الأبوية القمعية التقليدية المهيمنة. حتى تلك المرأة التي وهبت نفسها أمام الله لرجل أحبها وصدقته واعتبرت ما بينهما زواجاً تتعرض للهجر وتموت، لأن الطرف الآخر في العلاقة ليس إلا عبدا ذليلا للمؤسسة القديمة يخون حبيبته ببساطة ويبرر له المجتمع المغلق هذه الخيانة لأن المرأة منحته نفسها دون عقد يشهد عليه المجتمع.

وتتزوج أمرأة رغم أنفها رجلا لا تطيق رائحته، وتقضي أخرى عمرها في الانتظار الذي لا ينتج إلا عقما في الجسد والروح. والعييط التقليدي في القرية هو امرأة عبيطة كناية عن استلاب العقل والجسد معاً.

إنها حكايات النساء المقهورات المقتولات، وتبرز من بينهن تلك المرأة البطلة التي عاشت طفولة هانئة فتمردت في صباها وخرجت على المألوف وكان لها الحق كل الحق في احتكار ضمير المتكلم في الجزء الأعظم من الرواية.

اختارت "مايسة" لنفسها طريقا آخر مدفوعة برؤية شاملة جديدة للكون، رفضت القبح والقهر، وعندما ارتطمت بصعوبات الطريق عادت القهقرى للعالم القديم ساعية لخلف جزيرتها الخاصة في قلبه مع حنين جارف لقيم العالم الجديد الذي كانت قد اختارته حين التحقت بالمنظمات الشيوعية السرية في الجامعة وتزوجت رفيقا لها من أبناء الطبقة العاملة الأقحاح وتعرضت للسجن أكثر من مرة.. وكان السجن في العلاقة بينهما أشد قسوة من السجن.. السجن.. الذي بدا كواحة جميلة.

وكان طريق الحرية على هذا الدرب الجديد غير المعبد صعبا، فقطعت علاقتها "بإبراهيم" العامل وبكل ما يمت لعالمه بصلة "تركت كل شيء يربطني بالسنوات التي عشتها مع إبراهيم" عائدة إلى حبها القديم لابن الجيران القبطي هي المسلمة، وكأننا بصدد انتقال ضمني يجري تركيزه فنيا من الطبقي إلى الوطني، ومن الارتباط اليومي بحياة الشعب عبر التنظيم إلى ممارسة الشفقة عليه والإحساس بالعجز أمام هول المآسي التي يعيشها وذلك من موقعها الجديد كصحفية تتعامل مع تفاصيل المشكلات اليومية.. وتقودنا البطلة معها في مرثية طويلة لواقع تعيس ومستعمر على التغيير بعد أن طويت صفحة التغيير ومشروعه الثوري.

والتغيير الذي يتم في النهاية هو اتصال "مايكل" الحبيب العاجز جنسيا بالمستشفى لإنقاذه بعد أن حاول الانتحار.. إنه تجدد رغبته في الحياة. تقول مايسة:

"توقفت عند معنى أنه هو الذي اتصل بالمستشفى لإنقاذه".

ثمة خروج على حالة العجز والموت، خروج نفسي ومعنوي وكأنه بديل أو نقيض الخروج المادي عبر الكفاح الجماعي والذي كان مشروعا "لمايسة" ورفاقها سرعان ما انهار وتناثر شظايا.

تتحدث "مايسة" إلى "مايكل " الغارق في غيبوبته بعد أن استردت ضمير المتكلم في الجزء الأخير من الرواية.. لتكشف الطابع السيكولوجي لأزمته:

"وماذا بعد يا مايكل؟.. قم من رقدتك وادخلني مرة واحدة حاول مرة حتى أبرأ من خوفي من الألم وأن تبرأ من إثم الاقتراب مني. لست "إيزيس" أختك.

توقف عن عقابي لأنني تزوجت غيرك ولست مسؤولة عن دم أخويك ولا عن إرث الجثث في حياة أمك..".

إنقاذ ذاتي

وحتى يعلو الطابع "الرمزي" الأسطوري الذي يجسده اختيار اسم الأخت "إيزيس" التي لملمت في الأسطورة المصرية جسد حبيبها "أوروريس" لتنفخ فيه الحياة مرة أخرى تنتهي الرواية بنداء مايسة التي تشتبك مع "إيزيس" الأسطورية "انهض يا ابن مريم من رقدتك".

ويصبح الوعد نوعا من الخلاص الديني المرتقب، بعد أن أفصح "مايكل" عن رغبة في الإنقاذ الذاتي الذي يأتي من أعماق الإنسان الفرد وحده.

إن مثل هذا الإنقاذ لابد أن ينسحب على كل العوالم الصغيرة التي تشكل إطار العالم الكبير الذي يتحرك فيه البطلان.. عوالم الشخوص الذين يواجهون مصائرهم دون عون بعد أن تفكك العالم من حولهم وانهار بكل مكوناته القديمة والجديدة وبقي الأفراد يدورون في ساقية التكرار والخراب.. تلوث في غرفة العمليات بالمستشفى، مآس تتلقاها الصحفية. مسيو علي يلوذ بجنونه.. وأم تربي حفيدا لها جاء بطريق الخطأ وتخلى عنه "مايكل" أبوه.. و"مايسة"، تلوذ بأصدقائها من عجز حبيبها فتغرق في عبادة جسدها الوردي.

ليس في العالم المحكم الصارم في تقليديته وقهره للبشر إلا ثغرة ضيقة للإطلال على عالم آخر ويمكننا أن نلخص البناء العام للرواية التي تدور بين القرية والمدينة على خلفيتين معا.. طفولة هانئة لمايسة التي تكبر فيكون الشقاء في انتظارها وهزيمة 1967 التي أطاحت بكل الأمان القديم وأصبحت منطلقا وأساسا للانهيار العام.

"كل بيوته متلاصقة صانعة دائرة مغلقة تفتح كل أبوابها على الدوار فيما عدا بيت جدي فله بابان واحد على الدوار وآخر على البحر.."

إن في بناء الرواية أيضا كشفا ذكيا لخرافة شائعة هي أن الماضي كان دائما أجمل، فالعالم القديم هنا قام على التمييز والقهر، والرواية تتآلف معه مادام جسدها لم يمس، فجسد المرأة الذي تلمسه النار يصبح موتا، امرأة واحدة في هذا العالم القديم هي عشيقة الجد تعيش في كنفه ويحميها المجتمع الأبوي الطبقي الذي يرجم كل الأخريات ويقتلهن لأنهن لم يحظين بالموافقة وتمردن على القيود. ثمة فضح ضمني للزيف الأخلاقي الذي ينطوي عليه هذا العالم في ازدواجية شخصية الجد الذي يختار لنفسه عشيقة ويعاشرها علنا دون احتجاج من القرية وحين ترفض "زهرة" أن تتزوج رجلاً فرضه عليها أهلها:

"وقف جدي وربت على كتف زهرة، وقال لها هذا نصيبك يا ابنتي ارضي به".. يقول هذا وهو الذي يفرض على زوجته "وداد" ضرة دون أن يرضى بنصيبه معها فهو رجل.

وفي هذا العالم القديم الذي تلطخت صورته بالألم والموت ترتبط المعرفة بالظلم.. فهذا الجد هو نفسه الذي يتحدث إلى شباب القرية عن الجديد في العالم ويعيرهم كتبه "يتحدث عن الحرية والعدل والاشتراكية والشيوعية..".

ويكاد الزمن أن يكون راكداً بل إنه راكد فبعد سنوات وبعيدا عن القرية وفي قلب المدينة وفي صحبة مناضل عمالي اختار الثورة وتعرض للسجن بسبب أفكاره ونضاله، نجد "إبراهيم" صورة أخرى من الجد، إذ إن أفكاره تنفصل انفصالا كاملا عن ممارساته دون أن يشعر أي منهما بالتناقض.

مسام الأرض

وفي هذين الزمنين المتشابهن المكرورين تكبر الراوية. وفي مكان بعيد في القلب يختبئ حبها الطفولي لجارها القبطي "مايكل" حبيب الطفولة ورفيق السعادة الزائلة.. وابن التناغم الجميل والمتحرر من وطأة الجنس- الخطيئة التي عوقبت بسببها النساء.. إنه التناغم في الطبيعة التي سرعان ما يختفي سحرها تماما حين تنتقل الراوية إلى المدينة "الدنس" ولتتسم الحركة بعد ذلك في العمل كله بالآلية والجفاف خاصة في ذهاب "مايسة" وإيابها إلى ومن بيت الزوجية البعيد المعزول المحاط بالقذارة.

ففي القرية..

"غابات من الأشجار المتعانقة تنشر رائحة زهور الفاكهة وخضرة تلمع تحت أشعة الشمس، وتمنيت وأنا طفلة ومازلت أتمنى أن أسير فيها وأنام تحت أشجارها وأتنفس هواءها وألتصق بمسام أرضها.." وحين تعود البطلة في شبابها إلى القرية تكون كتل الأسمنت قد انتصبت فيها وأكلت سحرها القديم.

وكما تصبح الطبيعة الجميلة في الريف الهادىء جزءا من نسيج مشاعر الطفولة فإنها تمتزج مع المشاعر الإنسانية والحب الذي يستيقظ طاهرا في القلوب الصغيرة، بحيث تلوح القرية التي تظهر للمرة الأولى في عالمها الروائي كأنها مفردة من مفردات الطبيعة تتكامل معها وكأننا أمام لوحة زاهية ملونة حيث "جنينة جدي التي يفصلها الشارع عن البيت "وخلفها بحر بلدتنا الصغير وجنياته".

إنه العالم المصنوع من خيالات الطفولة ومخاوفها وحكاياتها عن الجنيات.. والذي سيتقوض في خاتمة الرواية إيذانا ببداية جديدة.

إذ سرعان ما تتكسر النصال على النصال فيقع المزيد من الهزائم الشخصية على خلفية الهزيمة الكبرى الفاجعة في 1967 التي فقدت فيها الأسر أبناءها وفقد الوطن أرضه وكرامته.

وعندما قرر عبدالناصر أن يتنحى.. ويغادر مقعد الأب- الرئيس:

"عشت إحساسا مريرا بالضياع. صوته المهزوم وهو يعلن رحيله كسر روحي. انحناءة أكتاف الرجل وهو يعلن هزيمتنا جعلت الدنيا تنهار في لحظة. فقدت كل شئ. مدرستي. حديقة الأورمان، قناة السويس وهم على ضفتها الأخرى، جامعة الدول العربية. السد العالى والتصنيع الثقيل، التماثيل الرخام والأوبرا على الترعة، ماذا سنقول لجارتنا الفلسطينية، وكنت أغنى مع من يغنى " ما من حاجة تقول لنا لا إشج\حال يوم تحريرنا فلسطين".

لماذا؟

مطرقة قاسية حطمت اليقين. سكين قاس ذبح كل الأمان الذي صنعه الرجل لي، وتظل هزيمته أوجع هزائمي.."

زال الوهم إذن بزوال البناء السلطوي الأبوي القديم بكل ما فيه من كرامة وأمان ولم ينهض شيئ جديد ونقيض مكانه.. لم تحل عناصر أمان أخرى بعد هزيمة الأب الرئيس.. ا لأب الإله الذي جرى إقصاء الأب الواقعي إقصاء تاما لمصلحته.

وبعد هزيمة الأب يسأل آباء آخرون عن أبنائهم "عمي عبدالقادر وعمي صبحي والد مايكل يطرقان باب بيتنا، عمي عبدالقادر يبحث عن ابنه محسن وعمي صبحي يبحث عن ابنه مجدي.. لم يعودا مع العائدين وأخيرا سجلا في سجلات الشهداء..".

كان الأمان الذي يشيعه الرئيس الأب صورة أخرى على الصعيد الشخصي في حياة الراوية "تنفست بعمق وأمان هواء الحجرة وفيما بعد التصقت به أكثر لأشعر بالأمان".

"ومازال الصليب على ظهري أحمله أم أحملك داخلي وأحمل صليبي ولا أريد سواك".

ويكون "الصليب" هو المفتاح الثاني للرواية بعد "الأمان" وهو ما تفشل الرواية تماما في إدخاله لصلب بنائها ويبقى برانيا ومفتعلا وعاجزا عن توليد الدلالات المهمة هو الصليب القادم لمفرداتها من عالم طفولة "مايكل" وديانته.. وحين كبر الحبيبان.

"كان كل منا يحمل أحلامه. كان يحمل معطفه الأبيض وكنت أحمل منشورات لأوزعها على المارة" إنها صلبان من نوع جديد في عالم يتحول.. يخطو من الطفولة إلى النضج لكنهما خارجيان.

صورة نمطية

كان "فريد" عم "مايكل" شيوعياً في السجن تحت التعذيب في المرحلة الناصرية وعاش هو في شقته في القاهرة بعد أن أصبح طبيبا مثله ونام في سريره وأصيب بالعجز الجنسي دون أي جهد يبذله لعلاج نفسه وهو طبيب وكأنه يكفر عن جريمة لم يرتكبها. وتتساءل الراوية التي أهدرت حبها "لمايكل" بعد أن انغمست في النضال السياسي:

"كيف قتلت سنوات عمري وتزوجت " تقول ذلك رغم أن زواجها كان ذروة تمردها على العالم القديم وليبرز لنا اختيارها هذا كاختيار خاطىء وغير عاقل ولكي يبدو كذلك دون مبرر منطقي تختزل العلاقة السياسية مع رفيقها "إبراهيم" عامل المصنع في نوع من الإملاء الغريب بصورة غير منطقية لأنها تتحول أي العلاقة إلى مجرد تجربة جنسية خشنة هي أقرب للاغتصاب، بل هي فعلا اغتصاب تتحمله "مايسة" لكي تقول لنا فيما بعد إنه صليبها.

وتقدم لنا الصورة النمطية الشائعة والمكررة للمناضل الذي يعتقد جازما أن كل ما يقوله ويفعله صواب وأنه لا يخطئ أبدا، وهو ما كانت قد كتبته بصورة أفضل وأكثر إنسانية ومنطقية في روايتها الأولى "رائحة اللحظات".

وهنا يصبح الزواج مفارقة مدهشة مع كونه اختيارها الحر، ويصبح الجنس بدلا من السعادة والفرح بالجسد الذي تحرقه "نيران التطلب" عذابا يوميا يغازل النزعة النسوية الشائعة الآن من باب خفي، وتنشأ الهوة الواسعة بين نبل الاختيار السياسي الحر، وبشاعة العلاقة القهرية بالمرأة التي تتحول من كائن يختار ويحب إلى موضوع للاستلاب الشامل غير المبرر، وتسوق لنا الرواية من منظور المرأة التي تتعرض للاغتصاب بعض الحقيقة وليس كلها عن الحياة الشعبية التي عجزت الراوية التي اختارت العمل الثوري أن تتعاطف معها "فشلت في أن أتعايش معهم وأكون جزءا منهم ".. دون أن نعرف أبدا أنها حاولت ذلك بينما الشيء البارز في عمل الشيوعيين في أوساط الشعب كان غالبا هو القيام بمحو الأمية وتعليم الأطفال كأساس أولى للوعي السياسي، حتى أنها في السجن تنام براحة وتتخلص من آلام جسدها ويتوافر لها ذلك الأمان القديم الذي لم تجده أبدا في الحي البائس الذي قادها زوجها إليه، الأمان القديم الذي افتقدته في بيت الزوجية حين رفضته ورفضت ناسه وبدت كثورية مزيفة في حالة تكاد تكون بغضا لحياتهم التي يتحايلون فيها على القهر والبؤس.

"الجميع يبحث عن طريق لتحقيق أحلامه بعيدا عني وعن حلمي لهم، لن ينتظروا تحقيقه بأوراق أوزعها ولقاءات تعقد في المكان الذي أعيش فيه وخارجة "وإبراهيم" يعمل في أماكن أخرى لا أعرفها يقول كلاما ويوزع أورقا ويقرأ كتبا وأقرأ كتبا ويناقش وأناقش ونتحدث عن اقتراب الثورة. وأصدق لحد اليقين أن هؤلاء لن يحتملوا القهر كثيرا ولابد أن يثوروا على فقرهم وبؤسهم".

وتبدو الثورة كأنها لعبة أو معادلة رياضية لا حياة فيها ولا ملامح لها إلا القبح اليومي والفقر الروحي المدقع الذي لا تمسه من بعيد أو قريب شرارة الفكرة النبيلة المستحيلة والطوباوية.

ولأنها فكرة مستحيلة وطوباوية يكون الشيوعي في هذه الرواية إما شهيدا وقديسا أو رجلا جامدا لا مشاعر له ولا حس جماليا إنسانيا:

"خنقت روحي بمنطقك المتماسك وحججك التي لا تقبل النقاش إنني أرفضك وأرفضها ويرفضك جسدي وروحي، أرفض إحساسك الدائم بأنك لا تخطئ وأنك دائما على صواب. فكر مرة واحدة أننا اثنان أنت وأنا.. ألا تجهد من تقديم ما يؤكد صحة رأيك خنقتني وأريد أن أتنفس هواء لا تتنفسه أنت..".

صورة الضحية

نحن بين صورتين متناقضتين كلية للثوري إذن، الثوري النذل القادم من قلب الطبقة العاملة والذي لا تنعكس خياراته الجديدة بأي صورة من الصور على حياة أهله حتى ولو من قبيل دعوتهم لمراعاة النظافة العامة والشخصية. وبين الثوري الشهيد الذي يموت تحت التعذيب بعد أن نسج علاقة حميمة مع أهله وكاد أن يكون معبودا بينهم شأنه شأن الطبيب المسيحي "برزي النحال" الذي قتلته الجماعات المتطرفة.. وعبثا نبحث عن الثوري الإنسان بضعفه وقوته، بمشاعره، باختياراته لأفكاره. وفشل هذه الأفكار التي تقودنا الرواية عبر دروب كثيرة لليقين بأن فشلها في واقع مناوئ ومعقد يعني أنها هي نفسها خطأ في خطأ ووهم في وهم، وأن فكرة التغيير كلها غير واردة ولا ممكنة.

ويسقط السرد على مدار الرواية في تناقض صارخ دون إدراك له كتناقض، إن إبراهيم يعوف أن للإنسان روحا ومشاعر ويمكن أن يمرض نفسيا، وبريد أن يأخذ "مايسة" إلى طبيب نفسي حين تطلب الطلاق، ومع ذلك يرفض الاستماع إليها ويمارس معها الجنس دون رغبتها. أما هي التي تمردت على الواقع واختارت طريقا لتغييره فتعجز عن أن تتخذ موقف جميلة الشعبية البسيطة التي تصيح في زوجها "لو قربت مني ها ولع في نفسي ابعد عني مش طايقاك".

وهناك تناقض غير مفهوم ويشكل ضعفا مركزيا في بناء شخصية "مايسة" التي تقول عنها أمها إنها عنيدة. تناقض بين اندفاعها الإيجابي الذي يحمل طابع الاختيار الحر للانخراط في العمل والخروج على العالم التقليدي والتمرد على مواضعاته، وبين حالة الانسحاق والخنوع الكامل أمام زوج أختارته هي بكامل إرادتها وأحبته، هو تناقض يصل لحد التفريط في جسدها، ولم نعرف أبدا أن جانبا من الجدل الطويل بينهما دار حول علاقتهما الشخصية حول المرأة في حياة الثوري عامة وفي حياة إبراهيم الذي يعمل كالنحلة خاصة.. رغم أن واقع هذه الحركة يدلنا بوثائقه على أن موضوع المرأة كان دائما موضوعا مركزيا.

فما من موقف أو حوار جانبي بينهما يبين لنا كيف وقع الثوري في مثل هذا التناقض ويكون علينا نحن أن نستنتج أنه اختلاف الثقافة أو برانية الفكرة الثورية فضلا عن أن ولوج الكاتبة إلى هذه المنطقة الضرورية جدا لبناء عالمها سوف يهدم فكرتها النسوية المختزلة البسيطة والمسبقة في حرصها على تقديم المرأة كضحية على طول الخط، دون التفات لحقيقة اختيارها لبطلتها "العنيدة" المتمردة. ويبدو الأمر في نهاية الرواية وكأن المجتمع البورجوازي بتراتبيته الطبقية الصارمة وبنيته الصلبة هو حتمية لافكاك منها أي قدر، وأن العمل الجديد عاجز عجزا مطلقا عن فتح ثغرة ولو صغيرة في وعي هؤلاء البؤساء بذتهم وبمكانتهم في العالم من حيث دونيتها وكونهم هم موضوع الاستغلال والتهميش والامتهان، ودور الطليعة المثقفة في كشف خبايا هذا العالم أمامهم ومساعدتهم على نقده.

تغلق المناضلة الثورية حتى باب المحبة مع المكان وناسه، وكأن ما تتلقاه ممت أفكار جديدة لابد أن يبقى محلقا في الفراغ الكوني عاجزا عن أن يحط على الأرض أو أن يتقبل تلك الأحلام بالغة الصغر التي يجري وراءها المقهورون التعساء ويعجزون عن بلورة حلم آخر كبير يمكن أن يكافحوا من أجله.

ولم نجدها أبدا تتحدث إليهم عن حلمها لهم بل اكتفت بحلمها هي نيابة عنهم دون سبب واضح.. ففي كل عمل فني هناك أسئلة مركزية. إما أن تلقى إنجابة شافية أو تقود العمل إلى دروب ومتاهات التحليل النفسي أو الميتافيزيقا.

لقد عجزت "مايسة" عن نسج الخيوط بين الأحلام الكبيرة والصغيرة، وعندما انفتحت أمامها سكة صغيرة جدا كان بوسعها أن تلج منها إلى وجدانهم حين اكتشفت أن النسوة يتشاجرن ويتبادلن أقذع الألفاظ بالنهار تم يجتمعن في المساء كأن شيئا لم يكن لم تحاول أبدا أن تدخل منها كان نفورها من زوجها أقرب لنفور طبقي من المكان وأهله يكشف بعمق برانية الروح الجديد وهشاشته، وهي برانية لم تنتقد أبدا وبقيت صورة الثوري محصورة في النمطين السابق الإشارة إليهما، على العكس تماما من عوالم "رائحة اللحظات" و"أجنحة المكان" التي بدت منطقية ومتماسكة ومبررة موضوعيا وفنيا حيث اختيار الأبطال بعناية، وتوليد الدلالات بحساسية كبيرة دون تلفيق أو ادعاء فجاءت عوالمها مفتوحة على المستقبل.

أما هنا فإننا بصدد عودة لا واعية لخلاص "بالدين" وكأن كل الأبواب تنغلق أمام الجميع.

وهكذا عندما أطلقت "بهيجة" مجموعة من الحكايات والتيمات غير المبررة كانت تعود للوراء بعد روايتيها السابقتين الجميلتين اللتين حملتا عواطف اجتماعية متأججة إذا ما قارناها بهذه العواطف الخامدة النافرة من حياة الشعب التي تغذيها غواية الانهيار ولعبة إغلاق كل الأبوأب دون أمل التي أصبحت موضة القص في أيامنا، ذلك القص الذي يسقط معظمه في نزعة طبيعية تخاصم كل وعي جديد ولا تجد فيه إلا شذوذا عما يبدو من الخارج أنه المسار الطبيعي للأشياء.

 

فريدة النقاش

 
  




غلاف الرواية