الألياف الصناعية

الألياف الصناعية

لم يكن النفط مصدراً للطاقة فحسب، بل كان ولايزال مصدراً لصناعات عدة، عادت على الإنسان بالنفع العميم. ولعل أهم الصناعات التي واكبت استخدام النفط كمصدر للطاقة هي صناعة «البتروكيماويات» والتي تقوم على المواد الكيميائية العضوية الناتجة من تكرير النفط.

تعتبر «الكربونات المائية «Hydrocarbons»، من أهم المواد الناتجة عن تكرير النفط. وعليها قامت صناعة «الألياف الصناعية» بمختلف أنواعها. وقد اقتحمت الألياف الصناعية عالم المنسوجات في أوائل الستينيات من القرن العشرين. ومنذ ذلك الوقت وهى تحتل مكانا ثابتاً في صناعة الملبوسات من كل الأشكال والأنواع.

على أن تطور صناعة الألياف الصناعية، في غضون السنوات القليلة الماضية، أدى إلى إنتاج جيل جديد من الخيوط الصناعية لا يقتصر استخدامها على صناعة الملابس فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى حقول لم تعرف من قبل هذا النوع من الاستخدام! فالأجيال الجديدة من الخيوط الصناعية تستخدم في البناء، وفي رصف الطرق، وفي صناعة هياكل السيارات والطائرات. بل ولها مكانها في حقل الطب، وفي وقاية الإنسان من الحريق، وأيضاً كدروع واقية من الرصاص لحماية الأشخاص المعرضين للاغتيال!

وهذه الثورة في صناعة المنسوجات من خيوط صناعية فائقة القوة، تستحق منا وقفة تعرف، نستجلي فيها الجيل الجديد من الخيوط الصناعية وتطبيقاته المتعددة.

الكربونات المائية

ينتج عن تكرير النفط وكذا عن تقطير الفحم مركبات كيميائية تتكون من عنصري الكربون والهيدروجين. وهذه المجموعة من المركبات تسمى «الكربونات المائية» Hydrocarbons، وهي القاعدة التي انطلقت منها الألياف الصناعية.

وقد عرف «النايلون» أول ما عرف من الألياف الصناعية. وأعقبه ظهور «بوليستر»، ثم «أكريلك». واحتلت هذه الألياف منذ ظهورها مكانة تتزايد مع الأيام في صناعة الأقمشة والملبوسات. وتهافت الناس عليها وقت ظهورها تهافتا منقطع النظير. فقد كانت شيئاً جديداً في صناعة الملابس، وللجديد دائماً جاذبية. كما أنها رخيصة الثمن بالمقارنة إلى أنواع المنسوجات من الألياف الطبيعية كالقطن والحرير.

ولكن الجيل الجديد من الألياف الصناعية يتميز بخصائص غير موجودة في الجيل القديم منها. فمثلا «ألياف الكربون»، وهي خيوط رفيعة من الكربون النقي سوداء اللون حريرية الملمس، يمكن تقويتها بحيث تصبح أقوى من أي خيوط معدنية. وتتميز ألياف الكربون، إلى جانب قوتها، بمرونة تشبه مرونة «الحرير الصخري». (الحرير الصخري Asbestos، معدن غير موصل للحرارة ولا يحترق، ويوجد في الطبيعة على هيئة ألياف تتخذ منها الأقمشة والمنسوجات).

وخصائص ألياف الكربون تجعلها مادة فريدة لتصميمات تتطلب مزيداً من المتانة، خصوصاً عند درجات حرارة مرتفعة، مثل محركات الطائرات النفاثة والصواريخ! ولهذا الغرض، تضغط ألياف الكربون في حزم متماسكة، يحتوى السنتيمتر المربع منها على ستمائة ألف ليفة. ويستخدم القماش المصنوع من هذه الحزم في تقوية المعادن ومواد البناء، وذلك بتغليفها بطبقة من «قماش الكربون».

وهناك نوع جديد آخر من الألياف الصناعية اسمه «بولي بروبيلين» Polypropylene، يصنع من غاز له الاسم نفسه، ويتصاعد أثناء تكرير النفط. وهذه الألياف الجديدة لا تمتص الماء وإنما تطفو على سطحه! كما أنها تقاوم عوامل التعرية الجوية بحيث لا تتآكل بالمرة!

وقد استخدم هذا النوع من الألياف في رصف الطرق، في محاولة تجريبية قامت بها هولندا. والغرض هو الاستفادة من خصائص الألياف في مقاومة آثار مياه الأمطار على مادة «الأسفلت»، والتي تستخدم عادة في رصف الطرق.

وفي هونغ كونغ، استخدمت ألياف «بولي بروبيلين» في تدعيم وتغطية جدران الجسور المقامة على مجار مائية. ومن المنظور أن تتعدد تطبيقات هذا النوع من الألياف في المستقبل، سيما وأن الأبحاث أظهرت أنها تمتص النفط بالكيفية نفسها، التي يمتص بها الإسفنج الماء. وعلى ذلك فيمكن استخدام ممسحة من هذه الألياف لامتصاص النفط المتناثر حول الآبار، أو ذلك الذى يتسرب إلى مصادر الماء.

تطبيقات وقائية

وهناك عضو في العائلة الجديدة من الخيوط الصناعية يعرف باسم «أراميد»، وأحيانا بالاسم التجارى «نومكس» Nomex، وعلى الرغم من أن هذا النوع من الألياف الصناعية يعتبر تطويراً لخيوط «نايلون» القديمة، فإنه لا يحترق بسهولة. وقد استخدمت ألياف أراميد بنجاح في صناعة ملابس تقي من الحريق!

وفي سويسرا، استخدمت ألياف أراميد لتغطية الوصلات المعدنية التي تربط دواليب عجلات السيارة بعضها ببعض، وذلك لتقليل آثار الاحتكاك الواقعة على المعدن، خصوصاً عند اشتداد الاحتكاك نتيجة السير على طرق مغطاة بالثلوج.

ونظراً للمتانة العالية لألياف أراميد، ومقاومتها لملوحة مياه البحر، استخدمت في بريطانيا لتثبيت أجهزة التنقيب عن البترول في بحر الشمال، وفي تثبيت معدات استخلاص النفط حول الآبار. وهذه الألياف توفر بذلك ما لم توفره السلاسل المعدنية، والأحبال المصنوعة من ألياف طبيعية مثل ألياف الكتان.

وجدير بالذكر أن ألياف «أراميد» وألياف «بولي بروبيلين» يطلق عليهما مع عدد آخر من الألياف الصناعية اسم «الأنسجة الجيولوجية». والسبب في التسمية راجع إلى استخدامهما للتغلب على صعوبات في البيئة، لم يمكن لأنواع أخرى من الألياف المعدنية والطبيعية التصدى لها.

وتتعدد استخدامات ألياف «أراميد» بحيث تمتد لتوفر أنواعاً أخرى من الوقاية، خصوصاً لأولئك الذين يستخدمون آلات تشكل خطراً على جسم الإنسان، مثل المنشار الكهربي. وإلى وقت قريب كانت الملابس الواقية لمستخدمي المنشار الكهربي تتكون من ثمان وعشرين طبقة من النسيج، ولذلك كانت تحد من حرية وحركة مستخدم المنشار.

وفي ابتكار جديد من ألياف أراميد، يعرف باسم نسيج «كيفلر» Kevler، تتوافر العناصر التي تؤهله لأن يكون أفضل أنواع الأنسجة الواقية بشكل عام. ذلك أن النسيج رقيق وخفيف الوزن ولكنه قوي بدرجة كبيرة. إضافة إلى أنه نسيج غير مطاط، لذا يمكنه امتصاص طاقة الحركة الهائلة لأشياء مثل المنشار الكهربي وطلقات الرصاص.

ويستخدم «كيفلر» الآن على نطاق واسع في صناعة ملابس الوقاية من آلات خطرة، وصديرية الوقاية من الرصاص. والطريف أن قذيفة من الرصاص تنطلق بسرعة مائتين وأربعين متراً في الثانية تقريباً، تنبعج لدى ارتطامها بصديرية «كيفلر»، وترتد عنها دون أن تخرقها! وفي الوقت الحالي، تفكر شركة يابانية في استخدام نسيج كيفلر لصناعة «حقائب جليد» ضخمة، تستعمل في نقل الجليد من القطب المتجمد الشمالى إلى المناطق الاستوائية والمناطق التي يعز فيها الماء العذب! ولم يمكن تنفيذ تلك الفكرة قبل اليوم، بسبب عدم وجود مادة مناسبة لنقل الجليد إلى مسافات بعيدة.

في الطب والبناء

تستخدم الألياف الصناعية كخيوط للجراحة على أوسع نطاق. وربما كانت خيوط الحرير النوع الوحيد من الألياف الطبيعية الذى لايزال يقاوم غزو الألياف الصناعية في هذا المجال. وتنفرد الخيوط الصناعية بكونها ناعمة وقوية، ويمكن صناعتها وفقاً للغرض المراد استخدامها فيه.

وهناك أبحاث طبية تجري منذ بعض الوقت، لإنتاج أوردة يمكن زراعتها في جسم الإنسان مكان أوردة مريضة. على أن معظم هذه المحاولات انتهى بالإخفاق، نتيجة انسداد الأوردة الصناعية بعد زمن قصير.

لكن فريقاً من الأطباء في اليابان يوشك على تحقيق النجاح المرجو في هذا المضمار. فقد استخدم الفريق أليافاً صناعية خاملة لا تتفاعل مع خلايا الجسم والمواد الكيميائية فيه، في صنع ما يمكن أن يحل محل الأوردة الطبيعية! وتعرف الألياف الجديدة اختصاراً بالحروف PTFE (متعدد رباعي فلوريدات الإيثيلين). وقد ثبت بالتجربة أن الأوردة الصناعية المكونة من تلك الألياف، أقل عرضة للانسداد. ولا تزال أبحاث أخرى تجرى للتأكد تماماً من سلامة استخدام الأوردة الصناعية الجديدة، قبل إنتاجها على نطاق واسع.

وفي حقل البناء، تستخدم منذ بعض الوقت الراتينجات Resins المطعمة بألياف زجاجية، في إنشاءات قوية وخفيفة الوزن، مثل القوارب وهياكل السيارات والشاحنات. (الراتينج مادة صمغية تسيل من الأشجار عند قطعها أو جرحها، وتستخدم في الصناعة والبناء للتثبيت واللصق). على أن التطور الجديد هو تغليف ألياف الزجاج بألياف صناعية جديدة تعرف باسم «تيفلون» Teflon، بحيث تصير مادة جديدة للبناء ذات مواصفات خاصة. ومثل هذه المادة تتميز بمقاومة عالية للأشعة فوق البنفسجية (وهي نوع من الإشعاع في أشعة الشمس) مما يجعلها مادة مثالية في المناطق الحارة. أضف إلى ذلك أنها شفافة (منفذة للضوء) وتتحمل درجات عالية من الإجهاد.

وقد استخدمت الألياف الزجاجية المغطاة بنسيج «تيفلون» في إنشاء سقف لمطار «جدة» الدولي (في المملكة العربية السعودية) في واحد من أضخم الإنشاءات الحديثة المعتمدة على الألياف الصناعية. وهذا الغطاء الصناعي الوحيد من نوعه يوفر الإضاءة اللازمة داخل المطار، ويحجب في الوقت نفسه حرارة الشمس الشديدة! وهو بذلك يوفر ما لا توفره مواد البناء التقليدية مثل الأسمنت، علاوة على أنه أقل تكلفة.

والظاهر أن تطبيقات الألياف الصناعية غير محدودة، ولا تقف عند مجال دون آخر. ومع ازدياد الاهتمام بها هذه الأيام، فمن المنظور أن يتسع نطاق تطبيقها بدرجة أكبر. ولن يكون غريباً أن نسمع في المستقبل عن طائرات تصنع أجسامها من ألياف صناعية، وعن سيارات مخازن الوقود فيها مصنوعة من ألياف صناعية ! وربما تكون هناك حلة (بذلة) واقية للغواصين وأبطال سباق السيارات والمتزحلقين على الجليد، من الألياف الصناعية!.

 


عبد الرحمن عبد اللطيف النمر 





 





النفط تسبب في اكتشاف كيماوي أدى لاكتشاف الألياف الصناعية مثل البوليستر والاكريلك





ملابس رجال الإطفاء المقاومة للاشتعال اعتمدت على ألياف صناعية





الألياف الصناعية تدخلت في مجال الطب كمادة أساسية للأمبولات