بين الحلم والمستقبل عبدالقادر القط

قراءة نقدية في
ديوان "هئت لك": للشاعر فاروق شوشة

"هئت لك" هو الديوان الخامس للشاعر الكبير فاروق شوشة، وقد بدا واضحا أن تجربته الشعرية على اختلاف مشاهدها تحمل موقفا متميزا في النفس والحياة والناس، وأصبح لشعره صوت متفرد له صوره وموسيقاه الخاصة.

قد يصعب على الدارس أن يجمع شتات تجارب شاعر غزير الإبداع على مدى طويل من الزمن - كفاروق شوشة - لكن هناك مع ذلك تجارب محورية تبرز صريحة في كثير من قصائده، أو تتخلل ثناياها، وتطبع أغلب التجارب والمواقف الثانوية الأخرى بطابعها الخاص.

كانت تجارب الشاعر في دواوينه الأزلي - وبخاصة في ديوانه "لؤلؤة في القلب" - عاطفية شديدة التوهج، خالصة للحب أحيانا، أو ممتزجة أحيانا بنظرات في الحياة أو تأملات في الوجود أو رصد لبعض طبائع البشر، قد يشوبها شيء من الضيق أو سوء الظن والتوجس، لكنها في أغلبها صورة لوجدان شاب مقبل على الحياة "ممتطيا صهوة الأحلام"، إذا ارتاب أو حزن وجد في الحب والجمال ما يصرف عنه الريبة والحزن:

يعبر العام.. ويأتي العام
نرتاح إلى رؤيا جديدة
نعبر الكون، كطيرين وحيدين.. على متن قصيدة
ونرى الأيام كنزا لا يحد
وعطاء كالأبد.

وبمرور الأيام تنصرف التجربة إلى وجيه جديدة من الحياة أشد صرامة، ومشاهد أكثر اختلاطا، فتغيم بالتدريج ملامح كانت خالصة للحب والصداقة والجمال، ويغدو ما كان يوشي التجربة من شجن رقيق أو سوء ظن شاعري بالحياة والناس، كآبة عميقة وإحساسا ثقيلا بالحصار، ورغبة ملحة في اختراق أسواره بالتواصل المقصود مع الناس والحياة، أو بالارتداد إلى الذات والاحتماء وراء جدرانها إذا ما استحال التواصل. وتلك هي المعاني والمواقف المحورية في "الدائرة المحكمة" و"يقول الدم العربي" وفي ديوان الشاعر الأخير "هئت لك".

تحولات الحلم

والحلم ملمح بارز من ملامح التجربة عند الشاعر، وركيزة أساسية في بناء عبارته الشعرية، يتردد كثيرا مفردا بلفظه أو مرادفه، وفي صور مركبة أو مجسمة في بعض الأحيان.

كان الحلم في البداية حلما عاطفيا مشرقا تبعثه تهاويل الحب الخالصة أو تشوبه أحيانا لفتات إلى ما يعرض في طريق المحبين من عثرات يصطنعونها، أو يصنعها لهم الناس، لكنه لا يفقد بهجته وإيمانه بالمستقبل:

أحلم بالجزائر البعيدة
بسنديانة ملتفة الجذوع تحجب المدى
منقوشة على ضلوعها حروف عاشقين
بشاطئ لم تزل على رماله آثار عابرين
تعاهدا واتحدا.. وأصبحا حرفين في قصيدة

هكذا كان في "لؤلؤة في القلب". أما في " انتظار ما لا يجيء". فلم يعد الحلم رومانسيا بل أصبح محاولة " مستحيلة " لبعث الحلم الرومانسي القديم!

وتعودين.. فماذا بعد في الأيدي؟
سوى أعمارنا الفارغة الأفواه جوعا وظما
وطريق جمدت فيه خطانا.. انتصبت فيه خطايانا

مفزعات.. وتماثيل استحالت ندما
آه.. لو نرجع للصفو الذي كان..
لحلم كان في أعماقنا غضا طفوليا
بريء السمت عذريا نقيا
عندما...

ولأن الحلم محاولة لاستعادة ماض لا يمكن أن يعود، أو استشراف لمستقبل لا يمكن أن يولد من حاضر شقي عقيم، يقترن في كثير من صور الشاعر بالمستحيل أو المحال:

- تخففت أثقالنا وانطفأ السؤال
فليس من بداية ولا نهاية

لرحلة تدور في المحال
- الليل حال والنهار حالْ
بينهما الحلم الذي انقضى
والقادم المبحر في المحال
- عاتية الإيقاع جن اللظى
واستيقظ العمر الوشيك الأفولْ
من أنت ؟ لا أدري.. ولا من دليل
غيبي إذن في زحمة المستحيل.
- لماذا بدأت بك المستحيلا
وشارفت فيك النجوم.. توهمت
كدت ألامس وجهك.. كدت أصافح عينك
لكنني الآن.. حين بلغت مداري.. وذقت انكساري
ولازمت داري.. أدركت أني تجاوزت
حين افترضت إليك الوصولا.

ويصور الشاعر بعد المدى والغاية العسيرة المنال فيجسم الحلم جوادا صاهلا منطلقا يمتطي الشاعر صهوته:

أجيئك تحملني صهوات الرؤى المعلمه
بكفي سيفي.. أحمله عن ميامين قبلي
مضوا في هواك.. وغطوا ثراك
وفاحوا مباخر تمسح بالعطر أحزانك المظلمة.

وقد يمتطي الحلم صهوة الشاعر، فكلاهما صهوة لنفس واحدة:

تراودني شهوة لامتلاك الوجود
ويسرجني حلم مستطار.. فأصهل..

وإذا كان المتنبي قد وقف حائرا لا يدري بماذا يجيب في سألوه " من أنت ؟ وما تبتغي؟ " فقال " ما أبتغي جل أن يسمى! " فإن شاعرنا يجيب عن السؤال نفسه بقولي توهم صياغته بأنه قناعة باليسير، لكنه في حقيقته حلم بالمحال. وإذا كانت بغية المتنبي "أجل من أن تسمى" فبغية شاعرنا "أجل من أن تنال".

يباغتني بالسؤال العقيم
ومن أنت؟ ما تبتغي؟
عدو هناك تسلل في
وآخر عندي عدو مقيم
وبين عدوين.. ماذا أكون؟ وما ابتغي؟
وطن واحد لا يباع
وعمر جميل قديم!

على أن الشاعر كان يدرك أن الحلم المطلق وحده لا يكفي ليستتر به من عري اغترابه، فينشد جدارا من واقع ملموس يستند إليه فيغطى بعض عريه.. ظهره إلى الجدار ووجهه إلى حياة ما زال يراوده بعض الأمل في مواصلتها:

أجيئك..
مزدحما بالوعي.. مضيئا كدائرة البرق
منتظرا لانهار السواقي
ألاصق عريي بجدران عزلتك الموحشة
تلوح للعابرين الحيازى:
أن انغمسوا في رحابي.. ولوذوا ببابي
وسيحوا.. دروبي ممتدة مدهشة!

ويتوهم الشاعر- للحظة - وظهره إلى جدار بلاده، أنه " أين فجاءات الزمان وتلبس جلد الأمان " فإذا بفجاءات الزمان تدهمه بالحقيقة القاسية: أن عاريا قد استتر بعار مثله يغطى عريه بجلد زائف:

وها أنت عارية تسترين البقايا
تكشف وجهك لي وتساقط جلدك
هذا الخبيء وراء مدى الأقنعة

الانسحاب من الواقع

ولا يبقى من ملاذ للشاعر إلا أن يحتمي بجدران نفسه هو، فينسحب إليها مدركا أنْ ليس لديها الدفء والطمأنينة فهي في الحقيقة دنيا لا تقل عن دنيا الواقع حزنا وظلمة ووحشة. ويصور الشاعر انسحابه المفروض وكأنه - فيما يبدو لأول وهلة - رد على فشل التواصل العاطفي، لكنه في الحقيقة رمز لانقطاع الصلة بالناس. وتكاد شخصية المحبوب في ترقده بين لا ونعم تكون إشارة صريحة إلى الحياة نفسها - في قصيدة " مكان ضيق القلب " من ديوان الشاعر الأخير "هئت لك"!.

آه لو جربت أن تغمد في الصدر البقايا.. لاسترحت
ولعدت الآن من وهم تصباك إلى الدنيا البعيدة
والمدى المفتوح في وجه النهار..
لمكان ضيق في القلب، وحزن جارف المد
وظل يحتويك..
عدْ إلى الكهف الذي يعتم فيك
واسكن الظلمة والوحشة والصمت البليدْ
إنها نفسك فاسكنها..
ولا تبحث لميراثك فيها عن شريك

ويستجيب الشاعر للنداء ويعود إلى كهف نفسه وظلمتها لعله يجد مع ذلك شيئا من الدفء في قوقعته الضيقة، لكنه لا يلبث أن يدرك منذ اللحظة الأولى أن القوقعة تصطخب بما يصطخب في بحر الحياة من رياح وقعقعة ووحشية. هكذا تبدأ أول قصيدة في ديوانه الأخير الذي يتخذ منها عنوانا له "هئت لك" :

أتدفأ في ذاتي
أسمع قعقعة وأزيز رياح محمومة
أدرك أن عظامي عريت مني
جلدي يساقط محموما.. يتناثر حولي
يتخطفه طير جارح
وعيون تنشب في مخالبها
الليل الساقط عينا بومه.. وأنا مقرور
أسند جبهتي المحمومة
أتوارى خشية مرآتي
تتآكل ذاتي في ذاتي

وطبيعي أن يشقى الشاعر بهذه الردة المقهورة إلى عالمه النفسي الداخلي، وأن يفضي به عالمه الحبيس إلى اختلاط الأحاسيس فيطلق العنان لتخيله الواهم في صور تفتقد منطق الواقع وإن كان لها دلالاتها ورموزها التي تلوح فيها من حين إلى آخر ومضات من الوعي بما آلت إليه الحال، في عبارات تتسق مع تهاويل الرحلة في الأوهام، في قصيدته "هلوسة" من ديوان "هئت لك":

ها أنذا بعض طيور الزينة
مشدود الساق إلى قاعدة خشبية
محمول حيث الناس تطالع في
جمال الموت وسر الصمت.

وتبلغ مأساة الشاعر غايتها إذ يقارن بين هواجس عالمه الداخلي الذي ارتد إليه، وشعوره السابق برحابة نفسه وحيويتها وتميزها عن الآخرين بالسمو على تفاهات الحياة ونزواتها العابرة، وبما تمنحه من نشوة غامرة حين يعود إليها - مختارا لا مقهورا - ليبوح ويتأمل وينطلق، في قصيدته "الزمن الغارب" من ديوانه "هئت لك":

كنت أقول لنفسي حين تراجعني نفسي:
لسب مجرد وجه امرأة
أتحسس فيها جبروت الحسن وزهوه
لست مجرد عش ليلي أو مأوى
يقذفني نحوك جوع أو برد أو شهوه
لسب صحيفة يوم فارغ
أقرؤها وأنا أرشف قطرة سم في قهوه
لكنك وجهي الغائب
لغتي حين تفوح.. ونزفي حين يبوح
وبعثي حين يلوح فيصبح نشوه!

الصورة والفن

يبدو فاروق شوشة منذ بداياته الأولى شاعرا حريصا على ألا يطلق العنان لعواطف الصبا الجامحة لتعبر عن نفسها في نثار من الجمل الشعرية المشحونة بالأحاسيس دون رابط إلا من طبيعة التجربة الوجدانية العامة. ومع جنوحه ككل شاعر شاب - إلى التجارب العاطفية، تتميز أغلب قصائده ببناء خاص يقوم على وحدات من المقاطع المتتابعة تربط بينها قواف تتردد في نهاية المقاطع كأنها " القرار " الموسيقي، وتجيء في داخل المقطوعة الواحدة قواف داخلية أو ثانوية تزيد الإيقاع وضوحا وتهييء للقافية الختامية. وقد يزيد من الصلة بين المقطوعة تكرار بداياتها في لفظة أو عبارة. وتأتي هذه الأبنية الأسلوبية والإيقاعية صورة لطبيعة تجارب الشاعر في دواوينه الثلاثة الأولى وما يغلب عليها من عواطف حادة، مرتبطة بالحب أحيانا، أو بموقف الشاعر من بعض القضايا القومية والإنسانية التي قد تكون مستقلة بذاتها أحيانا أو ممتزجة بالمشاعر الذاتية في بعض الأحيان.

وفي تلك القصائد الأولى يتردد الإيقاع وتتكرر الألفاظ والعبارات وكأن الشاعر يريد أن " يشعل " في وجدان المتلقي ما في وجدانه هو من شعور متوقد.

وحين ازداد الشاعر مراسا بالحياة، وامتدت صحبته للشعر، خف لذع التجربة العاطفية وتأخر ما كان لها من صدارة وغدت جانبا من رؤى مركبة تختلط فيها الهموم الذاتية بهموم الإنسان والعصر والوطن، ويمتزج فيها الإحساس الوجداني بالفكر والتأمل. وبطبيعة تلك التجارب الجديدة وبطول الممارسة الفنية لا تبقى مقاطع القصيدة - كما كان كثير منها في الدواوين الأولى - تأكيدا للإحساس وتقليبا له على وجوهه المختلفة، بل تكتسب في ديوانيه الأخيرين "يقول الدم العربي" و "هئت لك" طابعا قصصيا متماسكا يقود بعض أجزائه إلى بعض ويمتد بالتجربة وينمو بها بدل أن يدور حولها، مع حركة درامية غالبة تقوم على الترقب والفجاءة والمفارقة بين المأمول والواقع.

وفاروق شوشة شاعر يعشق الكلمة العربية ويفطن بحس مرهف إلى موسيقى الكلمات، وما قد يكون بينها من تماثل أو تقابل في الإيقاع، وما يمكن أن يتشكل من تآلفها في جملة قصيرة أو عبارة ممتدة من نغمات متصلة في سياق أسلوبي خاص. وبالإحساس المرهف نفسه، مع ارتباط عميق بالتراث، يفطن الشاعر إلى ما يمكن أن تحمل الكلمة من دلالات جديدة وظلال توشي معناها المألوف في سياق أسلوبي مبتكر. ومن تمازج الإيقاع والموسيقى والدلالة في السياق الواحد، تنضم النغمة الصغيرة في كلمة مفردة إلى نغمات صغار أخرى تنساب خلال بناء لغوي مرسوم. وقد يظل "الإيقاع" واضحا في مقاطع قصيرة أو ألفاظ متشابهة البناء، أو أبنية أسلوبية مكررة، وقد يختفي فيتحول إلى لحن ممتد يقف فجأة - كالشهقة - عند حرف ساكن، أو كالتنهيدة، في قافية ممدودة. وقصيدة الشاعر "يقول الدم العربي" نموذج كامل لذلك البناء القصصي الدرامي القائم على الحركة الممتدة والمفارقة المفاجئة، خلال " تصميم " متتابع الأجزاء، له مقدمة وختام وبينهما صور متماثلة ومتعارضة لصراع نفسي طويل يعانيه "الدم العربي".

ومطلع القصيدة مقطع تقريري حاسم، لكن طابعه الثقريري يثير الدهشة والتساؤل وينبئ عن شعور مرير بالخيبة، وإن بدا - في لفظه - كأنه بلوغ لغاية مأمولة:

أخيرا يقول الدم العربي:
تساويت والماء
أصبحت لا طعم، لا لون، لا رائحة.

والحق أن المقطع - وإن بدا مطلعا للقصيدة - هو ختامها وحصيلة معاناة الدم العربي المريرة وبداية "استرجاع" لتلك الرحلة الشاقة التي بدأها الدم العربي مؤمنا بأن له في الحياة ما للماء من قدرة على "ري العطاش وإنبات الشجر"، فإذا به لا يتساوى مع الماء إلا في مظاهره الشكلية غير المميزة ويفقد ما كان له هو، وما للماء، من قدرة على صنع الحياة والحفاظ عليها.

وتتألف القصيدة من المطلع وبعده ثلاثة مقاطع مختلفة في الطول وطبيعة الصور، يقدم كل مقطع منها جانبا من تلك الرحلة الفاشلة، ويبدأ المقطع بما بدأ به المطلع: "أخيرا يقول الدم العربي" وينتهي بقافية لعل من طبيعة حرفيها الأخيرين تماثلهما مع "الشهقة" الآسية، وحسبنا لبيان بناء هذه المقاطع وموسيقاها ودلالتها بعض أسطر مجتزأة من كل مقطع حتى تصل إلى القافية المشتركة:

- أخيرا يقول الدم العربي
أسيل.. فلا يتداعى ورائي النخيل
ولا ينبت الشجر المستحيل.....
.. وينحسر المد، تنبت فوقي حجارتكم
مدنا تتمدد أو تستطيل
وتأكل ما يتبقى من الأرض لكنها أضرحة!
- أخيرا يقول الدم العربي: اكتفيت
تجاوزت جسر الشرايين
أسرجت خيلي بقلب العراء
وخيمت في نقطة الجدب...
... فاخرت أني الوحيد الذي
جعلوا من بقاياه خاتمة للبكاء
وفاتحة للغناء ومن رئتي مذبحة!
- أخيرا يقول الدم العربي المسافر عبر العواصم
والمتجمع خلف الحواجز
والمتناثر في كل أرض:
تعبث.. وهذى بقية لحمي.. وهذى هوية جلدي
وبعض ملامح جلدي التي سكنت في العيون..
... تعبث، المدى لا يبين الصدى لا يبين
ووجهي ما زال منسحقا في جبين المرايا
تلاحقه اللعنة الجامحة!

ويبدأ الشاعر جانب الصورة في المقطع الواحد بحركة نفسية متمثلة في فعل من شأنه أن يثير الترقب، ثم يتبعه بجمل منفصلة أحيانا، متصلة في أغلب الأحيان، تؤكد مشقة المعاناة وخيبة المسعى، وتبدو فيها تلك السمة الغالبة على كثير من قصائد الشاعر، من تكرار ألفاظ وأبنية لغوية متماثلة:

- أغوص بذاكرة الرمل
وجهي عروس تخطفها الموت
والقاتل الهمجي
- قاومت.. فانفلتت في فقاعة وانطفأت
- تشاغل.. أحكمت فوق ملامحها قبضتي واسترحت
- أغوص بذاكرة الرعب
وجهي سحابة يتم تعشش في كل بيت
وتترك بعض عناكبها في تراب الملامح
- تعبت.. وهذي بقية لحمي..
وهذي هوية جلدي
وبعض ملامح أرضي؟
- تعبت فمن يحمل الآن عني
بقية يومي، وأشلاء حلمي.. ويمضي؟

وليست هذه القصيدة فريدة في " تصميمها " وما تتضمن من ظواهر أسلوبية وإيقاعية، فلها كثير من النظائر عند الشاعر، من أبرزها قصيدتاه "دعوني أؤجل حزني" و "رحيل المغني".

دلالات الصور ورموزها

ومن بعض سمات هذا التصميم أن الشاعر كثير ما يختم القصيدة بمقطع يبدو كأنه نهاية مركزة تفصح عن دلالات الصور ورموزها في ثنايا مقاطع القصيدة:

في ختام "مكان ضيق في القلب":
- هذا هو الحلم الذي طاردت
تاريخ مدمى وانكسار
فتعلمْ
لا يزغ خطوك في الوجه المراوغ
واغتسل.. هذا هو الضوء
وفي الأفق ينابيع نهار..

وفي نهاية "هئت لك":

يا من يغريه الوقت وتدفعه الساعة
يتلصص حوله.. كي ينأى عن زمن هالك
.. عبثا تتدفأ في ذاتك
أو تنجو يوما بحياتك

وللشاعر معجم ثري قد تتردد فيه ألفاظ بعينها مما يتصل بتلك المعاني المحورية ولكن الألفاظ لا تثبت على دلالة واحدة بل تتحمل دلالات متغايرة خلال تلك الأبنية القصيرة الموقعة حينا أو في العبارة المركبة الممتدة حينا آخر. وفي تلك المعاني التي تدور حول الجفاف والجدب وذبول التواصل يمكن أن يكون "الرمل" لفظا يتحمل هذه الرموز، وقد يصبح ركيزة أساسية للقصيدة، كما يبدو في تصوير الشاعر لمعاناة الدم العربي وهو "يسكب ذاكرته للرمال". لكن "حبة الرمل" نفسها قد تصبح في وضع الدم العربي ظمأى إلى الماء، بعد أن كانت في صور أخرى حائلا دونه. وفي قصيدة بديعة عن "حبة الرمل" ينقض الشاعر الرمز ليصبح معادلا لنفسه ونفوس من يبطش بهم الظمأ ويحلمون بالري والماء بينما الكون "في عرس والكون يموج بالماء والظل :

أتسمع :
هذا عزف الريح.. وهذا شجن الناي
وهذا بوح النحل.. وهذي وشوشة الأنداء
وأنا العطشى
يغمرني الظل وأستلقي في قطرة ماء

وفي "القصيدة والرعد" لا يكون الرعد - كالمألوف - مصاحبا للمطر أو مصورا لا ندفاع العزيمة، بل رامزا للجدب والعقم:

القصيدة شاخصة تتساءل، وهي تطل على الكون:
أي بلاء عظيم!
ترصدني الرعد حتى انطفأت.. وأوشكت أذبل

أوشكت أرحل.. رعد يباغتني
قلت: خير سيأتي.. ودنيا ستمطر
لكنه إنجاب... رعد عقيم!

على أن قصائد الشاعر، وإن راعها الرعد وضجته وعقمه، تمضي في طريقها متلمسة التأمل الهادئ والعطاء المنجب فتأتي دائما بالجديد، مستجيبة لنداء الشاعر:

لا تخافي من الرعد وانطلقي بالغناء
الغناء الذي يتخلل هذا السديمْ
إنه زمن عابر.. والقصيدة فاتحة
وزمان مقيمْ.