صورة المجتمع البريطاني في السينما الإنجليزية

صورة المجتمع البريطاني في السينما الإنجليزية

القدرة الاستثنائية للسينما في ما وراء بحر المانش، على استخلاص صورة مجتمع دمرته السيدة الحديدية، تبرز بوضوح من خلال دور التلفزيون. فالقناة الرابعة والـ «بي بي سي» أسهمتا في تمويل كل الأفلام تقريباً. لا سيما الأفلام التي تتناول حياة الطبقات الشعبية التي ظل لها وجودها على الشاشة الصغيرة.

في الثمانينيات وعقب فيلم «عربات النار» إخراج هوغ هيدسون، عام 1981، وفي طراز اشتهر جداً على يد كل من إسماعيل مرشانت وجيمس إيفوري بدت السينما البريطانية وكأنها لم تعد تهتم إلا بالماضي، مولية اهتماماً كبيراً بالملابس كما بالديكور في الأفلام التاريخية التي أولعت بها والبعيدة بعداً شاسعاً عن كل واقع اجتماعي. وها هي ذي، منذ بضع سنوات تنقلب إلى العكس، إلى معالجة موضوعات تهتم بالحياة اليومية التي بدأت أيام شبابها في بداية الستينيات، والتي احتلت منذ ذلك الحين، مكانة مركزية في القصص الخيالية المتلفزة.

إن ما يميز هذا الحصاد الجديد للأفلام، يتمثل بالأفلام الرمز «شيء جميل» (إخراج هتي ماكدونالد)، وفيلم «أسرار وأكاذيب» (إخراج مايك لايغ)، وفيلم «براسد أوف» (إخراج مارك هرمان)، إنه نوع من أنواع الأمل، مقاربة مؤثرة بل ومفرحة للطبقة العاملة، في مقابل الأفلام الكلاسيكية التي تتناول المشاكل الاجتماعية للمجتمع البريطاني. وفي هذا المنحى، فنحن بعيدون عن أعمال كينث لواش أو عن تلك الأفلام المخصصة لتصوير بؤس السنوات الأولى لحكومة تاتشر، مثل فيلم «الأطفال الدمويون» إخراج ستيفن فريارز (1979).

جغرافيا جديدة

الشيء الجديد الآخر: هو أن السينما البريطانية التي ظلت زمناً طويلاً باقية جغرافياً في لندن وما حولها، انتقلت فجأة إلى المناطق الأخرى من المملكة المتحدة، لتسليط الضوء على عمال المناجم في يوركشير كما شأن فيلم «براسد أوف» أو عن عمال غلاسكو (وجوه صغيرة، إخراج جيليز ماك كنون) أو عن الشبان الفقراء في أدمبورغ (ترينسبوتنغ، إخراج داني بويل). كما نلاحظ أن بعض الأفلام بالرغم من أن إنتاجها بريطاني فإن وقائعها تدور في بيئات مختلفة وعلى سبيل المثال فيلم (سمك النهاش، إخراج 1993) وهو قصة شابة حامل من مدينة دبلن تفاصيل علاقتها مع والدها أثناء الحمل وفيلم «العربة، 1996» إخراج ستيفن فريارز، فإنهما يدوران في شمالي مدينة دبلن، أي أن الوقائع التي يتناولانها في بيئة اجتماعية وسياسية مختلفة. لكن على الرغم من النقاط المشتركة بين إيرلندا وبريطانيا العظمى، فإن إيرلندا التي ورد وصفها في هذين الفيلمين تبدو خصوصاً إنتاجاً للتصدير: فهو يقدم سلسلة أفكار لا خطر منها عن بعد على الشرور المستوطنة في المملكة المتحدة نفسها.

التجديد وطبقة العمال

والحقيقة أنه كثيراً ما كان يشار إلى «التجديد» في السينما البريطانية. وكان المخرجون البريطانيون يؤكدون أن كل فيلم يمثل معركة عنيفة في إنتاج لا يتعدى 20 إلى 30 فيلماً في السنة. أما السؤال الذي يطرح نفسه فهو ما إذا كان النقاد يؤكدون على أن البريطانيين أخذوا على عاتقهم معالجة مسائل نادراً ما كان يعالجها سينمائيون أوربيون آخرون, أو كانوا يسيئون معالجتها. واللافت أن هذا البروز للطبقة العمالية لم يهتم بالتغيرات السياسية اهتمامه بتطور المجتمع نفسه، الذي يتسم بنمو الوعي حيال الثقافة المشروعة لدى العمال، والتي أسهم التلفزيون فيها إسهاماً حاسماً. فقد لعبت الشاشة الصغيرة دوراً مفتاحياً في تمويل الإنتاج السينمائي الحديث، وكان كل فيلم تقريباً يتلقى استثمارات لا يستهان بها، إما من القناة الرابعة أو من الـ «بي بي سي». غير أن التلفزيون البريطاني، على عكس السينما، لم يهمش قط لا الطبقة العاملة ولا المناطق الأخرى في المملكة. بل العكس: فالأوبرا المسلسلة الكبرى (وهي مسرحيات إذاعية أو تلفزيونية مسلسلة تعالج مشكلات الحياة المنزلية، مثل شارع كورونيشن، بروكسايد، استندرز)، كان إطارها الأحياء الشعبية، وفيلم استندرز وحده تقع أحداثه في لندن. «وأصبحت المسلسلات الورقة الأكثر حيوية للتلفزيون ذي البعد الاجتماعي في الستينيات. وإذا كان مسلسل «كاتي تأتي إلى المنزل» (وهو قصة خيالية لمن لا يملكون مأوى، ومن إخراج كينث لواش ولحساب محطة الـ «بي بي سي» وإنتاج العام 1966) يعرض اليوم لأول مرة في التلفزيون، فهو مثل سيناريو استندرز أو بروكسايد». بيد أن الأوبرا المسلسلة لم تكن الإطار الوحيد للإبداع التلفزيوني ذي السمعة الاجتماعية. فقد عمل مايك لايغ حصراً من أجل الشاشة الصغيرة خلال أكثر من 15 سنة. كما أن دراما الغني والأسود (أطفال من البلاكستوف، إخراج آلان بليسدال، 1982) سجل منعطفاً في تقديم الطبقات الشعبية على الشاشة: فالشخصيات المرغمة على العيش في ظروف فقيرة بعد حصولها على الشهادات الجامعية، جعلت من الدعابة سلاحاً للبقاء على قيد الحياة، متماهية في ذلك مع الشخصيات التي قدمتها الشخصيات في الأفلام الأخيرة. وفي الوقت الذي ظل التلفزيون وفياً للطراز البائس نوعاً ما في الواقع الاجتماعي الذي ساد في الستينيات، والذي نعثر غالباً على آثاره في السيناريوهات التلفزيونية، فإن السينما المعاصرة برهنت على تفاؤل وحرارة خاصين بها.

أبطال الهامش

إن تقديم نمادج من الجمهور وأبطال الهامش للأفلام هو أحد مؤشرات تطور الصناعة السينمائية. وبعد الانحطاط السريع الذي عرفته منذ نهاية الستينيات، عادت السينما البريطانية إلى اكتساب الكثير من المشاهدين في التسعينيات، ولا سيما بفضل تطور الصالات وتعددها في الضواحي التي ظلت مهملة زمناً طويلاً وذلك لأسباب اقتصادية تماماً: ذلك أن سعر الأرض التي تشيد عليها استوديوهات السينما في الضواحي أرخص من نظيراتها التي تقع في المدن. أعرب الجمهور الشعبي الجديد عن رغبته في رؤية نفسه على الشاشة، لكن ضمن سياق مقبول وإيجابي، وهذا ما سبب إخفاق الكثير من الأفلام وفشلها بسبب إبراز سلبيات المجتمع الشعبي البريطاني بشكل بالغ البؤس مثلما يشير رونا بيرد إذ يقول: لا أدري إن كنت سأدفع 5 جنيهات من أجل أن أحزن وأكتئب إلى هذا الحد، وبيرد هو كاتب سيناريو فيلم «ليدي بيرد، ليدي بيرد» (إخراج كينث لواش 1993)، واضعاً بذلك يده على إحدى المشكلات الجوهرية لمجموع السينما الواقعية التقليدية: التي تفتقد الدعابة أو السخرية كطريقة لزرع الأمل. وقلما تمكنت السينما من اجتذاب الجمهور الذي تعبر عنه. وعلى العكس، فإن الأفلام الاجتماعية الحديثة العهد استطاع الكثير منها أن تحقق النجاح بقدرته على المزج بين الدعاية والواقعية.

على خلفية إغلاق المناجم في بداية التسعينيات، يروي فيلم «براسد أوف» قصة صخب عمال الفحم الحجري الذين يواجهون بطالة جماعية. ويقدم الفيلم في قالب كوميدي على نطاق واسع يشمل كل الجمهور، لكن خلف الكوميديا اللماعة، تحاك دسائس سوداء وخيانة وانحلال. وبينما تعرض المشاهد الأولى مقاطع تذكرنا باستوديو «ألينغ كوميدي» الذي يرجع عهده إلى الأربعينيات والخمسينيات وما سادها من شخصيات كانت أحياناً شخصيات مقولبة بلطف، فإن الفيلم يعرض بالتدريج وبقوة المشاهد التي تجعلنا ندين ضمناً احتقار السيدة مارغريت تاتشر، السيدة الحديدية، لعمال المناجم. وتصميم الرجال الذي جعله المخرج يبدو بصورة رائعة على التمثيل بالرغم من كل الصعوبات، جعل منهم أبطالاً في النهاية. وهذا يضفي في الوقت نفسه قيمة مهمة على الشعور بالانتماء إلى فئة مسحوقة وطبقة مدمرة اقتصادياًَ، لكنها استطاعت أن تحافظ على تماسكها بفضل تضامنها وتكاتفها وصخبها.

كذلك الحال أيضاً لدى العاطلين عن العمل، وقد قدما من دبلن في فيلم «العربة»، فقد قررا افتتاح كوخ لبيع البطاطا المقلية كوقاية من مصيرهما التعيس، فأصبحا أبطالاً، لأنهما نجحا في المحافظة على صداقتهما وعلى روح الدعابة لديهما، على الرغم من البطالة وشظف العيش بينما الدولة لا تقدم لهما أي مساعدة. هذان الفيلمان غير مألوفين من حيث تقديمهما البطولة للعمال، الذين لا يزعزعهم شيء. والشخصيات المركزية في الأعمال مثل «أجسام همجية»، إخراج طوني ريتشاردسون عام 1959، وفيلم «مساء السبت وصباح الأحد»، إخراج كاريل ريز، عام 1960، وفيلم «ثمن رجل» إخراج ليندساي آندرسون، عام 1963، وهي جميعا تتناول الطبقات الشعبية لكنها خلت من خفة الظل. وكان التركيز فيها ينصب على الوجود الجسدي الفظ نوعاً ما، وعلى أبطال مثل ألبرت فيني وريتشارد هاريس اللذين جسدا وبروعة، غريزتي العنف والتمرد. وفي المقابل، كان العمال في أفلام السنوات الأخيرة يسببون الصدمة للمشاهد بروح الدعابة لديهم أولاً، حتى وإن كانت هذه الدعابة غير لطيفة أو ناعمة دوماً. تحت الفرح الظاهري كانت أفلام «براسد أوف» و«شيء جميل» و«تراينسبوتنغ» لا تخفي شيئاً من خطورة المشاكل الاجتماعية، ولم تكن شخصياتها تظهر بمظهر رومانسي. لكن تلك الأفلام لم تكن تقلب المسائل الاجتماعية إلى دراما، بل تجعل منها خلفية للقصة.

إذا كان هناك عدد من المخرجين قد استوحى أعماله واستمدها من الواقع الاجتماعي للبلاد، فإن القليل منهم أبدى التزاماً صريحاً: فبعد أن دب اليأس في النفوس في عهد مارغريت تاتشر، نلاحظ ظهور ما يشبه فراغاً سياسياً عميقاً وفيلم «براسد أوف» وحده هو الذي أخذ ضمناً موقفاً ضد المحافظين. وإذا كان الجميع متفقين ضمناً على أن يروا في سنوات حكم تاتشر فترة مأساوية للطبقة العاملة التقليدية، فإن عدداً نادراً منهم مع ذلك كان يتوافق مع حزب العمال، المدافع المفترض عن المصالح العمالية. وصحيح أن مجموعة الأفلام التي تطرقنا إليها بالتفصيل أعلاه قد ظهرت منذ التحولات التي طرأت على حزب العمال البريطاني بعد تسلم طوني بلير لزعامته، فإن هذا الحزب يمكنه من الآن فصاعداً الفوز على منافسه حزب المحافظين، لكن الثمن هو التخلي عن التزاماته القديمة جداً وقطع علاقاته بالنقابات. وعلى طريقتها تعكس السينما المعاصرة الهوة المتعاظمة بين حزب العمال الجديد والعمال. هذه اللامبالاة السياسية، والتي ترافقت ببعض الجهل، انعكست على شخصيات فيلم «تراينسبوتنغ». وفي فيلم «شيء جميل» نجد الحوار، الأكثر شخصية، حول المثلية الجنسية يصارع «ضد التأكيد القائل إن الطبقة العاملة قد تكون أوتوماتيكياً أقل ليبرالية، وأقل قابلية للتسامح» كما يقول لييز سبنسر، وباختصار، فإن «السينما الجديدة» البريطانية تغوص في عالم غني بالتوترات الاجتماعية، لكن الفقير بالآفاق السياسية على الأقل، من حيث رفضها الحزبين الكبيرين التقليديين (العمال والمحافظين). وفي نهاية المطاف، فإن هدف السينما أكثر بساطة، ولكنه أكثر فاعلية دون شك: فهي تنتج أفلاماً ليست «سياسية بوضوح»، لكنها «من حيث قيمة اللغة والحوار وأساليب المعيشة التي تكشف الغطاء عنها يمكن أن تكون لها نتائج سياسية. فنادراً ما ترون هؤلاء الأشخاص. ونادراً ما تسمعون لغتهم. وهذا ما يحمل في ذاته رسالة سياسية».

 

 

 

محمد ياسر منصور 





هيلين ميرين في دور الملكة إليزابيث





«بول سكوفيلد» رجل لكل العصور إحدى روائع «فريد زيتمان»





من فيلم «راديو مفتوح» .. أحد الأفلام الإنجليزية التي حاولت قول الحقيقة





«انظر وابتسم»، فيلم يعالج مشاكل الشباب





الممثلة البريطانية هيلين ميرين





لقطة من فيلم «أسطورة» للمخرج ريدلي سكوت





المخرج دافيدلين الذي قدم للسينما الإنجليزية أضخم إنتاجها





المخرج الانجليزي «سير ريتشارد أثينبرو» مخرج فيلم غاندي





أتوك يمين ومايكل ليندون في فيلم «النجاح أحسن انتقام» للمخرج البولندي «جيرس سكيمو ليفسكي» بيتر أوتول، أحد نجوم السينما الإنجليزية