الناس والمتاحف

الناس والمتاحف

كثرت المتاحف في العالم، وأصبح لكل شيء متحف، مثلاً متحف الفنون الجميلة، أعني كل ما يمت إلى الرسم والتلوين والنحت، هذا منذ سنين قديمة جداً. اليوم المتاحف العالمية أصبحت من المزارات الأولى للسياح ولم تعد السياحة هي التنقل من بلد إلى بلد للتغيير فقط، بل أصبحت السياحة ثقافية. وترى الأمثلة في أمواج الناس الذين يتنقّلون من مكان إلى آخر، ومن عاصمة إلى عاصمة، ومن مدينة إلى مدينة أخرى، لرؤية لوحة لرسام ما، أو لزيارة متحف يضم ما يرغب في رؤيته السائح.

الناس، الجمهور، أساس في بناء المتاحف، رغبة الناس تتحقّق عندما يقرّر مسئولون بناء متحف جديد، على رأس الثقافة والفنون رجال مثقفون لهم ذوقهم الرفيع ومعرفتهم بتاريخ الشعوب وفنونها. لا يكفي أن يكون المسئول عن الثقافة والفنون ذا مستوى عالٍ من معرفته في الفن وفي تاريخ الفن، فهو يختار أيضاً فريقاً من المساعدين والمستشارين في مضمار الفن, فتكون الأعمال المختارة عندئذ لتصبح من مقتنيات المتحف، أعمالاً فنية ذات مستوى عالٍ من التعبير الفني وكذلك فإن هذه الأعمال الفنية لا تمثّل تاريخاً معيناً أو بلداً أو شعباً ما، بل هي تتخطى كل هذا لتكون أعمالاً فنية تمثل كل الأزمنة والأمكنة، أي أنها تتخطى الزمان والمكان وتكون لكل إنسان، يرى فيها ما يسمو به وبفكره وتعطيه أيضا الراحة النفسية ونفحة من السعادة. هذا باعتقادي هو دور العمل الفني، إعطاء الراحة وشيئا من السعادة للمتلقي.

لا يوجد عمل فني دون أن يكون وراءه فنان، هذا طبيعي، جمال الطبيعة وتنوعها من أرض إلى أرض وبلد إلى بلد يغني الإنسان وهو بحاجة إلى هذا الغنى، لكن الطبيعة لا تعلم فناً. الخالق أوجد الطبيعة، والفنان يجهد ليكون إنساناً خلاّقاً بواسطة ألوانه وألحانه. لكنه لا يصل لأن يكون خلاقاً كما يشتهي أن يكونه، غير أن بحثه عن الحقيقة والحق والجمال في عمله الفني هو التعبير عن ذاته ومنها يخرج إلى الناس، إذا كان الفنان فناناً حقيقياً وليس دخيلاً على الفن كما هو الحال اليوم في العالم.

اليوم أصبح الفن - مع الأسف - سلعة ككل السلع, كالسيارة أو الطيارة أو أي بضاعة.

صار سلعة لها مروّجوها، كتّاب وصحافيون وأصحاب صالات ومدراء متاحف وغيرهم، شهرة الفنان تعود إلى ما يكتب عنه وما يعرض له بواسطة اختصاصيين لهذه «البضاعة» الجديدة التي هي «الفن»، بعدما كان العمل الفني يختاره مثقفون فنيون كبار وفريق من المستشارين الملمّين بالفنون والثقافة، أصبح من يختار الآن هو «الناقد» غير النزيه و«الصحافي» المأجور ورجل الأعمال الذي يزحف اليوم - مع الأسف- إلى حيث الربح المادي، إذ أصبح «الفن» حالة مادية يتعامل بها أصحاب المال كما يتعاملون مع أي بضاعة بعيدة عن الفن الصحيح.

جميل أن تبنى المتاحف وضروري أيضاً، لكن الأهم هو بناء الناس الذين سوف يدخلون هذه المتاحف. الأبنية التي تحوي أعمالاً فنية، أعني المتاحف إذا لم يهتم بها إنسان ولا تعني له شيئاً أو حاجة لا تفيد بل تصبح المتاحف سجوناً للأعمال الفنية التي مع مرور الوقت تصبح فناً لا نفحة روحية فيه، إذ إن العمل الفني يتحاور مع الإنسان المؤهل لرؤية هذا العمل، فهو يحاور من يحاوره، ويذبل عندما يكون الناظر إليه لا يرى فيه ما يمثله من روحانية تحمل البهجة والسرور لمن هو أهل لذلك.

ما أقصده هو إيجاد الطريقة التي يجب أن يتّبعها الإنسان العربي، المسئول العربي لخلق إنسان يستحق كل عطاءات الفن والفكر السامي.

لنبدأ في البيت، بل في المدرسة، إذا اعتبرنا أن العائلة ليس لها اهتمام بالفكر والفن، إذن لنبدأ في المدرسة، والمدرسة تتألف من مدرائها وأساتذتها وطلابها فليس من المعقول أن يهتم التلميذ أو الطالب بالفن إذا لم يكن الأستاذ مؤهلاً لإعطاء تلامذته ما يستحقونه من معلومات عن الفن والفنانين، وتجربته معهم ليجعلهم يرون ما ينظرون إليه من الأعمال الفنية ويستطيعون أن يشرحوه ويشرّحوه على طريقتهم، ليخلقوا بعدئذ حواراً حول الفكر والفن. بعدها وبعد مرور الوقت تدخل أفكار الطالب إلى منزل العائلة ومن الممكن أن تتأثر ولو قليلاً به، وانطلاقاً من ذلك وبعد وقت ولو كان طويلاً، يولد مجتمع مثقف فنياً، محبّ للنظام وبعيد عن فوضى الفكر السائد اليوم، الذي يتغذى من التلفزيون أو التلفزيونات العربية التي تحشر فيها سموم قاتلة للذوق والجمال وخالقة للفوضى، الفوضى في كل شيء والتي نعيش في جحيمها اليوم.

الإنسان العربي بحاجة إلى من يرشده إلى الطريق التي تؤدي إلى وصل ماضيه الثقافي والفكري بحياته الحالية الصعبة التي لا يرى فيها سوى ما يعطي إليه من «فكر لا فكر فيه»، و«فن بعيد عن الفن»، إن ما يعطى للإنسان العربي أو يرمى إليه يأتي من أناس وراء مذياع إذاعاتهم ومن وراء صناديق التلفزيون وهذا هو الخطر الأكبر، إذ إن الإذاعة والتلفزيون هما المدرسة التي لا يذهب إليها صباحاً، بل هي تأتي إليك في غرفة الطعام وفي غرفة النوم وفي كل مكان، وهي تبث من الجهل و«الفن» الرخيص الكثير، وهذا يجعل منها المدرسة الأهم في العائلة. وأولاد العائلة يتبعون العائلة، فتصبح عندئذ الأجواء العربية تضج بكل ما يجعل الإنسان يسير إلى الوراء... إلى الوراء، لكن الأمل في المستقبل، عسى أن يكون مستقبلا ليس كالحاضر، والمستقبل المنير يوجده أناس مؤهلون ليقودوا الشعب من ظلام الجهل إلى فجر علم وثقافة وفن.

 

 

 

أمين الباشا