الرسالة

الرسالة

تزامنت ولادة بونار (عام 1867) مع ولادة الانطباعية في الرسم. وبعد تخرجه في معهد الحقوق والعمل لفترة قصيرة في القانون، قرر أن يصبح رساماً، فأقام في عام 1896 معرضه الأول، وكانت شمس الانطباعية قد أشرفت على المغيب، فتحول بونار إلى أحد أبرز الفنانين الرموز إلى المرحلة المسماة «ما بعد الانطباعية».

لم يرسم بونار لوحة واحدة في حياته مباشرة أمام الموضوع أو النموذج إلى جواره، فعندما كان يستوقف نظره مشهد يستحق الرسم، كان الفنان يسجل بسرعة على الورق بالرسم أو بكتابة نص وجمل غير مفهومة إلا بالنسبة إليه، ما يسمح له بأن يتذكر التفاصيل المميزة لهذا المشهد لاحقاً.

رسم بونار الكثير من الصور الشخصية والمشاهد الداخلية والخارجية. وتميزت كل أعماله تقريباً بغنى لوني لامس في مواضع كثيرة حدود الصخب. غير أننا نتوقف هنا أمام لوحته «الرسالة» لأنها تلخص قدرته الفذة في التعبير عن الحميمية في لحظة هاربة.

فلكي يتمكن فنان ما من رسم شخصية في لحظة حميمة، يجب عليه أن يتمتع بحساسية فائقة تسمح له بالتقاط خصوصية الحال خلال لحظة ستختفي بسرعة البرق، ويفقد بعدها الموضوع كل أهميته. وكان بونار الأول والأكبر في هذا النمط من اكتشاف الموضوع ورسمه.

في هذه اللوحة، نرى الغنى اللوني الذي عرف به الرسام، ونرى ضربات الفرشاة الغليظة التي تكتفي بالحد الأدنى اللازم من الدقة، كما نرى أيضاً الاهتمام بالانتصار للون والخط على حساب البعد الثالث والعمق (وهو ما أدى لاحقاً إلى ظهور التكعيب ثم التجريد). ولكن الأهم من كل ما تقدم يتمثل في الموضوع الذي لا يمكننا أن نعرف عمقه وصعوبة رسمه، إلاّ إذا تمعنا طويلاً جداً في صورة هذه الفتاة.

يمكننا الجزم بأن الرسالة التي تكتبها هذه الفتاة ليست رسالة حب، بل قد تكون رسالة شكر على أمر ما.

إنها في لحظة توقفت خلالها عن الكتابة، بدليل القلم الذي يحلِّق على ارتفاع منخفض فوق الورقة، فالكاتبة تعيد قراءة ما كتبت، وتتردد في اعتماده أو تفتش في ذهنها عما يجب أن تقوله أيضاً.

ومن الابتسامة الخفيفة جداً على وجهها، نلاحظ أنها تتخيل ردة فعل من سيستلم الرسالة الذي سيفاجأ قليلاً بما كتبته، أو ربما قالت من خلال هذه الابتسامة الدقيقة إنها تريد لهذه الرسالة ألا تكون تقليدية أو مملة.

إننا لسنا هنا أمام حالة نفسية، بل أمام سلوك محدد خلال لحظة هاربة. وإذا كان التقاط مثل هذه اللحظة بآلة التصوير الفوتوغرافي يصنع لوحده مصوراً عظيماً، يمكننا أن نتصور مدى عبقرية بونار الذي حفظ هذه اللحظة في ذاكرته، وتمكن لاحقاً من تسجيلها بالخط واللون من دون أن تفقد شيئاً من حيويتها ونضارتها، وقدرتها على الإشعاع فرحاً.

 


عبود عطية






بيار بونار: (1867 - 1947م)، «الرسالة»، (47.5 × 55 سم) 1906م متحف ناشيونال غاليري- واشنطن