محمد غنوم.. معزوفة الحروف

محمد غنوم.. معزوفة الحروف

الأرواح التي تعاني الغربة تجد سلوتها في موسيقى العيون، موسيقى تضعنا وسط حديقة غنّاء غير ملموسة، يجذبك إليها سحر الحروف ومشهد الكلمات، وما بين الاتكاء والعناق والتآلف والتناغم والانسجام، تسمو الروح في معراج الكلمات.

تلك هي الموسيقى الصامتة التي تطلقها الحركات الانسيابية في امتشاق قامة الحرف العربي نحو الجمالية والكمال والإبداع.

من تجربة الدكتور الفنان محمد غنوم نستشف الصور الرائعة للكلمة المجردة والتي تحمل في جنباتها معنى أدبياً خاصاً وذلك دون أن تشغل تلك الكلمة مساحة أساسية في اللوحة، حيث يعمل على مساعدة المتلقي في الدخول إلى عوالم الحروف وتشكيلات الكلمة في استشفاف الموضوع ومحتواه عن طريق المعنى، وتجسيد ذلك المعنى بعدّة طرق لعل أبرزها اللون والبناء والحركة.

أما ظاهرة اللون في تجربته الرائدة فهي بمنزلة الدم الذي يتدفق في الجسم عبر الشرايين لتستمر الحياة، فالألوان هي مصدر الحياة الدائم وهي التي تنشد التناغم الموسيقي لعناصر اللوحة.

ذلك أن عملية التفكير في الجماليات العربية مسألة جوهرية أمام كل من يريد صياغة خطاب على الممارسة التشكيلية، فإذا كانت الكتابة المحفوظة تعتمد على اللغة، فإن للعلامات والإشارات التشكيلية لغة أخرى ترنو إلى ما وراء الطبيعة، حتى ولو أدرجنا العمل التشكيلي ضمن حقل الدلالات، ذلك أن الفكر يلهث وراء عقلنة الأشياء ورموزها وألوانها ويرنو إلى القبض على حقيقتها، ويلاحظ ذلك من خلال الكم الهائل من الألوان والتدرجات اللونية التي تستمد من هذا الكون الغني بملايين الطبقات اللونية.

فالخط الجميل يعتمد على الإحساس الدقيق بالجمال وعلى محاولة تقليد الأصل، كما يطلب التدريب المستمر والدءوب والذي يصل إلى رتبة التفوق والتميّز.

والفن والعلم هما إحدى الركائز الأساسية لتواصل الإرث الحضاري، وهما الرسالة الأكثر ديمومة في المجتمعات والأقرب فهماً من قلوب المتلقي الذي يلهث بمتعة وراء هذا التواصل.

والإبداع صفة لا يصل إليها من كان يتمتع بموهبة فنيّة أصيلة، وقدرة على الإخراج والابتكار وعبقرية تستطيع تحويل الحرف الجامد إلى لوحة فنيّة يتناغم فيها عناصر الشكل واللون والحركة.

فالمتلقي ليس شخصاً واحدا، وإنما هو متعدد الرؤى والثقافة والحساسية، ورغم كل هذه المفارقات فهو يتوحد أمام عمل فني معيّن، يُصعب على بعضهم حتى فك رموزها، ومن أين تبدأ البداية وكيف انتهت.

مساحة للحروف

ويقول الدكتور محمد غنوم بأنه يعطي للحرف ما يتطلبه من مساحات أحياناً، وأحياناً أخرى يجمعه مع أترابه، وفي كل الحالات تصدح الموسيقى صاخبة تارة وعذبة هادئة تارة أخرى، فالحرف العربي لا يمكن أن يعيش من دون موسيقى إذ يتميز شكل الخط بآفاق جمالية لا حدود لها.

وقد حمل تجربته الإبداعية العميقة وذاكرته الفنية وثقافته العربية وطاف بها إلى دول غربيّة كثيرة ليجعل من فنه تراثاً حيا يقف به ليتحاور مع حضارة العصر، ولتكون ورقة بحث لصالة مفتوحة في حوار حضاري له خاصيّة التميّز والانفراد.

وعلى الرغم من أن لحروفنا خصوصية ذاتية بالعرب وحدهم فإنه يقدمها بلغة عالمية لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى ترجمان، لكونها لغة الموسيقى العذبة التي يتميّز بها هذا الخط فيقدمها في عرس لوني قادم من الشرق ليبهج العين وينعش النفس بالعناق مصطحباً بتهويمات الروح وصفاء السريرة.

والفنان هو الإنسان المبدع والمفكر دائماً في طرح الجديد على منبر الساحة الفنية حيث يتمتع بأداء إنساني مميّز وقيمة أخلاقية لأدبيات فنه الممتزج بالأصالة والمعاصرة عبر متابعته لمجريات الوقائع والأحداث في العالم.

ألوان من الشرق

وقد أعربت إحدى الناقدات عندما خرجت من معرضه في وارسو قائلة: «لا أريد أن أقرأ ما يكتب.. ألا تكفي هذه السيمفونيات التي تعزف وتلك الألوان القادمة من الشرق».

فالحروف العربية هي وحدها المتفردة في امتلاك طاقة هائلة من الحركة والنطق والرقص والتمرد والإيقاع والرشاقة، وهو الذي يتخطى إطار الصورة لتعميق المشاركة ما بين طرفي العمل الإبداعي في الفنان والمتلقي.

لذلك يقول أراغون في نص مختار عن مجنون ألزا... «لا يبقى على الفنان إلا أن يتنحى بألوانه أمام الكتابة، تزحف من اليمين إلى اليسار على جباه النوافذ، على تواريق العماد، حيث يخط القلم على البياض حرفاً فاحماً أسود شبيهاً بكوكبة فرسان في عباب الصحراء وثّاب الرشاقة كسيوف مسلولة، كل حرف حطّ قدماً في الرمال كأنه انفلات فهد جسور أو كأنه اندياح جناح أسود فجأة فوق الغبار».

فالدكتور محمد غنوم يعتبر أحد أبرز القامات الفنية للحرف العربي خلال القرن العشرين، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل لكونه مثّل الجزء الأهم في مسيرة الحرف العربي البصرية، ليس في سورية فحسب، بل وفي الوطن العربي وكل الناطقين بالضاد على وجه البسيطة.

فهو كفنان وباحث يعد ظاهرة حضارية تجاوز الجدل العقيم الذي كان متداولا عند بعض الفنانين الذين استخدموا الحرف العربي في لوحاتهم التشكيلية، حيث كان يمثل لديهم الرغبة الجامحة في معرفة المكنونات الجمالية للحرف العربي للوصول إلى لحظة الانبهار الأعمى الذي كانوا يتصورونه بها، فكانوا يرسمون الحرف بأشكال متعددة وأنماط مختلفة غير معروفة في مكتبة الخط العربي الغنية بالأنواع، ويغيّبون فيها أبرز ملامح البنية الجمالية للحرف، لكونهم ليسوا خطاطين ولا يدركون النسب الجمالية بشكل عام.

فجاء الدكتور محمد غنوم الذي أعطى للحرف تناغماً موسيقياً وتآلفاً روحياً بدأ في رجحان كفة المتلقي إليه بدقة فائقة وصور عذبة رائعة.

إن الدكتور محمد غنوم غيّر من فكرة اللوحة الحروفية الجامدة إلى لوحة تضج بالإيحاءات والدلالات والتي لها مجموعة كبيرة من الحضور والرؤى، فمن البنية المكتظة بالمرادفات الجميلة، تم شحن مسار اللوحة، ومن خضرة أشجار غوطة دمشق، تمّ تخضير مساحات هائلة من اللوحة باللون الأخضر، ومن سماء دمشق أُخذ اللون الأزرق ممزوجاً بمياه بردى، فكانت الألوان شفافة نقية، خلقت من عناصره التشكيلية الحياة والإشراق والرقة.

ومن جبل قاسيون الحاضر دائما في لوحاته حيث الشموخ والسؤدد والعنفوان حيث يتم تحديد الخريطة الجيوفيزيائية لهذا الفن العريق، والتي أضحت منطلقاً هادفاً عبر معطيات العصر.

الواقع عبر الخط

ينطلق غنوم من موضوعات واقعية لإثارة العمل الفني، ثم يعمل على تجسيدها عبر جمالية الخط، فكل لوحة من لوحاته لها قصة وحكاية تحمل موضوعاً محدداً قومياً أو اجتماعياً أو قيماً دينية، ولعل استخدامه لتلك الكلمات (وطن، شهيد، دمشق، نابلس، القدس، شام، بيروت، فلسطين، أرض) يعتبر بحد ذاته قفزة في مجال استخدام الخط العربي للتعبير.

فمن مضمون العبارة المستخدمة نفهم تجربته التي تعكس حياتنا المعاصرة، ولهذا فنحن أمام تجدد في مضمون اللوحة وفي شكلها.

وهكذا تتميز لوحات الدكتور محمد غنوم في مضامينها القومية وقدراته التعبيرية على تجسيدها وطرحها بشكل فاعل ومتميّز.

وإن ظاهرة تكرار اللفظ في اللوحة الحروفية ما هي إلا تسبيحات قلم في معترك الإبداع الفني المتكامل.

فقد استطاع الفنان المسلم في إبداعاته المتنوعة واستخداماته المتعددة للخط العربي، أن يسبق حركة الفن التشكيلي المعاصر في نزوعه إلى التجريد هروباً من التشخيص والتصوير في بداية الدعوة الإسلامية، وهي حالة فرضتها عليه ضرورة الامتثال لأوامر بعض الفقهاء الذين فسروا بعض أحاديث الرسول الكريم على أنها تحريم للتصوير، حيث أنجز الفنان المسلم أعظم اللوحات التجريدية، باستخدامه وحدات الحرف العربي في التشكيل، وقد ساعده على ذلك قابلية الحرف العربي للمد والمط والاستدارة والبسط والصعود والهبوط واللين والجفاف، حتى عند تعامله مع الكائنات الحية والأوراق والغصون النباتية لجأ إلى تلخيصها وتحويرها، خوفاً من أن يكون محاكياً لطبيعة الكائنات التي هي من صنع الله وحده، وهروبه من المحاكاة مكّنه من النجاح في التوصل إلى حلول جديدة هي أقرب إلى التجريد بمفهومه المعاصر، وإلى الفن البصري الحديث.

الصورة البصرية

ولذلك، يؤكد الباحث محمد البغدادي على أنه إذا كان «فيكتور فازاريللي» وهو رائد الفن البصري النمساوي قد أنجز أفضل أعماله في الفن البصري المعاصر، فإن الفنان العربي كان قد سبقه إلى ذلك بقرون عدة، وإن اختلفت طرق المعالجة، فقد استخدم الفنان المسلم وحدات الخط العربي في تكوينات التضاعف والتخلخل، متباعدة مرة ومتقاربة أخرى، في تناغم حركي تشكيلي رائع، لتضعنا في النهاية أمام فن بصري بالغ الجمال منتظم الحركة.

حيث يؤكد الناقد التشكيلي عبدالله أبو راشد أن لوحات الدكتور محمد غنوم تتصف بحشد الكلمات والحروف والملونات الفاقعة حيناً والهادئة حينا آخر والمتجانسة في كثير من الأحيان حيث خاصية التكرار الحروفي مجالاً أساسياً في تأليف الصورة البصرية، فأضحت الصورة الكلامية لمفردات محددة هي البؤرة المركزية في توصيف واقع حال اللوحة لتأخذ مداها الشكلي في جميع الاتجاهات حيث المجاورة والتقابل والتماثل والانعكاس، فيبحر مع الألوان وخاصة مع اللون الأزرق لما يحمله من صفاء دلالي لصوفية الذات والاندماج في الفضاء الكوني لمدركات الطبيعة نحو آلية حركية مشبعة بالحرية والانعتاق.

إن الديناميكية في لوحات الفنان محمد غنوم هي في حقيقة الأمر أساس استراتيجي دائم في مسار عمله الفني منذ البداية، وعليه فإنه يعتقد أن التحولات الثورية في طرح الفنون العالمية المعاصرة لا تأبه كثيراً بالتصنيفات النقدية مثل الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والخصخصة، وما إلى ذلك من المسميات، بقدر ما يهتم بالدخول في صميم الهم الإنساني وتعريته وتشخيصه ليتسنى بالتالي معالجته على بساط البحث والتأويل.

كما هو الحال مع الإرث الفني الذي وصل إلينا منذ إنسان الكهف وحتى حضارتنا المعاصرة، فاستطعنا بفضل الفن أن نكشف التركيبة النفسية الحقيقية لذلك الإنسان، وهمومه الوجودية وكيف تعامل معها في زمنه، وبالتالي كيف نستطيع نحن الآن الاستفادة من ذلك بعد فك شيفرة تلك الأعمال الفنية، وإسقاطها على زمننا المعاصر بتصرف حاذق ورؤية جادة، بما لدينا من تراكم تجريبي ومعرفي؟.

محمد غنوم.. من مواليد دمشق عام 1949
حاصل على دكتوراه فلسفة في علم الفن - طشقند 1992

أقام بداية من عام 1979 وحتى الآن العديد من المعارض الفردية والجماعية، في الكثير من الدول العربية والأوربية، حصل على مجموعة من الجوائز العربية والعالمية منها: الجائزة الأولى (مهرجان الخط) طهران 1997 - الجائزة الأولى (الخط والموسيقى) أوبرني - فرنسا 2000، أعماله مقتناة في عدد من المتاحف في سورية وعمان والكويت وموسكو وطشقند.

لا يعي متى بدأ في عشقه للحرف العربي، كل ما يعرفه أنه «وعى نفسه» مرتبطاً به،وأنه منذ أول يوم يمّم وجهه شطر المدرسة.

لم يكن يرغب في تعلم القراءة والكتابة بقدر ما كان يحلم بأن يرسم.

يقول: «حملت أقلامي وألواني ودفاتري وفي ذهني أنني ذاهب لأرسم، قبل أن يخطر بذهني أنني ذاهب إلى المدرسة لأتعلم القراءة والكتابة.

وعندما بدأت في تعلم كتابة الأحرف والكلمات العربية، أحسست من خلال رسم أشكال هذه الحروف أن هناك ارتباطاً وثيقاً ما بين الرسم والكتابة، أحببت الخط العربي دون أن أدري أنواعه وأشكاله مع محبتي للرسم، وشدتني جماليات هذه الحروف لدرجة العشق، وفي المرحلة الإعدادية توجه إلى تعلم الخط وفق القواعد المعروفة، وتتلمذ على أيدي الخطاطين في دمشق. وفي كل يوم يتعلم فيه شيئاً جديداً يكتشف شيئاً جديداً مدهشاً ومثيراً من جماليات هذا الخط، حتى بعد أن أنهى دراسته الفنية الأكاديمية والعليا.

والفنان محمد غنوم جعل من الحرف العربي سيمفونية يتغنى بها في أشكال فريدة ويحاول أيضاً تفجير الإمكانات الجمالية الاحتياطية للحرف العربي ليكتشف الجديد، فاتخذ الحرف ملاذاً له في لوحاته التعبيرية وذلك من خلال حركة الخطوط وغزارتها على اللوحة، كما تتميّز لوحاته بنكهة خاصة لامتزاجها بعنصر الأصالة والتراث مضافاً إليهما تلك الذاتية المبدعة والتي يقول عنها (جوته) بأن في كل فن توجد صلة نسب ما عند أسلافه وأن هذا هو الذي جعله عظيما».

فالأستاذ الدكتور محمد غنوم قدّم إلى الخط العربي مكتبة زاخرة من نتاج الحرف العربي بلوحات ناطقة، يحس لها النبض ارتعاشاً، والنفس انتعاشاً، وللعين موسيقى تسحر الإنسان إلى شواطئ الإبداع والخيال الخصب.

 

 


معصوم محمد خلف