النهوض من الهزيمة في مساءلة التخلف

النهوض من الهزيمة في مساءلة التخلف

حديث الشهر

لم يعد أمام الأمة بعد الإخفاقات المتتالية التي نتجت خلال السنوات الأخيرة, سوى المراجعة الثقافية الشاملة, سعيا الى إعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري من جديد.

  • الغزو العراقي للكويت مثَّل قمة سقوط النظام العربي المتعارف عليه لنصف قرن.

  • أجدادنا سادوا الدنيا عندما انفتحوا على العالم وترجموا واكتشفوا وطبقوا.

  • هل بات محتماً على الإنسان العربي أن يحيا حياتين: واحدة لغيره والأخرى لنفسه?

قرأت رواية الكاتب اللبناني المعاصر أمين معلوف الوثائقية (الحروب الصلييية كما رآها العرب) في زمن الغزو العراقي للكويت, وكانت قراءتها ثقيلة الوطأة, لا بسبب عيب فني فيها, لأنها عمل رائع بكل المقاييس, وإنما لأنها كانت تنكأ الجراح وتدمي القلب. فالصليبيون, أو كما أطلق عليهم المؤرخون المسلمون (جيوش الفرنجة) اجتاحوا العالم العربي ليس بسبب قوتهم العسكرية الخارقة, أو أعدادهم الكبيرة, بل لأنهم وجدوا الأرض مشرعة أبوابها أمامهم وممهدة تماماً لهم. كانت الحملات الصليبية قليلة العدد وينقصها الكثير من التنظيم والانضباط, وكانت الجيوش العربية ـ لو اجتمعت ـ تفوقهم بكثير عدداً وعدة, لكن حكام إمارات بلاد الشام العربية آنذاك كانوا عاجزين عن النظر إلى ما هو أبعد من أنوفهم, فقد كان كل منهم خائفاً خوف الموت على عرشه وإمارته, وينظر بعين الشك إلى حكام الإمارات المجاورة, وكان كل منهم يخاف من وثوب جاره عليه. فكانت المؤامرات والدسائس وكان أن سعى كل منهم إلى اضعاف جاره والكيد له وتواطأ الجميع على الجميع, وعندما وصل الصليبيون سقط كل شيء في ايديهم بلا أدنى مقاومة.

كانت أيام زمن الغزو العراقي للكويت قمة سقوط النظام العربي الذي عرفناه على مدى نصف قرن, وسجلت تلك اللحظات ظهور أول حالات العداء العربي ـ العربي ليس فقط بين الحكومات وإنما بين الجماهير الشعبية ذاتها, وكانت الغوغائية هي الشعار السائد, على مستوى الشارع وعلى مستوى دوائر واسعة من النخب العربية, سمعنا في تلك الأيام أصواتاً تؤكد أن غزو الكويت وضمها هو أولى خطوات صدام حسين نحو القدس!. وذهب البعض إلى أن الغزو سيعيد توزيع الثروات العربية على الشعوب العربية, طبعاً القصد هنا ثروات دول الخليج فقط!. لكن الأمر المؤكد هو أن جريمة الغزو هذه قد مهدت الـطريق لـ (الشرق الأوسط الجديد) كما دعا له بيريز وزير الخارحية الإسرائيلي, أو لعقد الهيمنة الإسرائيلية على هذا الشرق الجديد.

الذكريات المؤلمة

ومنذ أيام أهداني الصديق المفكر العربي الخليجي الدكتور محمد جابر الأنصاري كتابه الجديد (مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية). وقد تداعت تلك الذكريات المؤلمة على ذهني وأنا أقرأ صفحات الكتاب, الذي أكمل به الأنصاري ـ كما يقول في مقدمة كتابه ـ ثلاثية قراءاته للفكر العربي عبر قرن من الزمان. وكان في كتابيه السابقين (تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي) 1980 و(الفكر العربي وصراع الأضداد) 1995, قد قام برصد وتحليل حركة الفكر العربي منذ مطلع القرن العشرين إلى نهاية الحقبة الناصرية.

والحقيقة أن هناك كتباً تقرأها فتستمع بها, وكتباً تقرأها فتستملكك, والأخيرة توصف عادة بأنها جاءت في وقتها تماماً. وهو الوصف الذي ينطبق على رواية أمين معلوف بالقدر نفسه الذي ينطبق به على كتاب الدكتور الأنصاري.

وفي كتابه الجديد يتتبع الأنصاري مسيرة العقل العربي في ثلث القرن الأخير, في مرحلة من أحلك مراحل التاريخ العربي الحديث. وبموسوعية المؤرخ, ودقة الأكاديمي, ورهافة حس عالم الاجتماع يقدم الأنصاري نقداً تشريحياً لواقعنا العربي, وهو هنا لا يكرر ما فعله آخرون قبله من جلد للذات أو بكاء على الفرص المهدرة, بل يقدم درساً في فهم جدل التفاعل بين الوعي النقدي لماضينا وحاضرنا, والانطلاق منه إلى استقراء المستقبل وتلمّس خيوط فجره الأولى.

يقول الأنصاري, إن أصدق ما ينطبق على الفكر العربي خلال الثلث الأخير من القرن العشرين, ومنذ هزيمة يونيو 1967 بالتحديد, أنه (فكر تحت الحصار), فكر يتعرض لحصار من قوى خارجية لا تريد لنا خيراً, وقوى داخلية معادية للتطور والاستنارة والعقل, وهو يؤكد أن الفكر العربي الإسلامي لم يتحرر من حالات الحصار الخانقة, إلا في القرون الأولى من تاريخ الحضارة الإسلامية عندما استطاع التعامل مع أصوله الذاتية ومعطيات التراث الإنساني بقدر من الحرية والعقلانية المستقبلة الناقدة التي أعطته قيمته في تاريخ الفكر البشري.

لماذا التوقف?

والحقيقة أن التاريخ هو الذي يقول إنه بينما كانت أوربا غارقة في مستنقع البؤس والتعاسة والظلمة والجهالة, كان أجدادنا يشيدون مجتمعاً متقدماً, يفهم معنى التمدين ويرعى العلوم والفنون, وقد تطلب قيام هذا المجتمع المتقدم نظاماً قوياً وطّد الأمن للناس, وكفل العدل والحرية, وحقق الرخاء الاجتماعي من خلال تهيئة أفضل سبل الإنتاج الزراعي والصناعي, نظاماً زاد في مساحة الحرية للعلماء والمبدعين, وكان يباهي بهم الأمم الأخرى ويوفر لهم الظروف المثلى للتفرغ لبحوثهم وعملهم الإبداعي, ومن الثابت تاريخياً أن اجدادنا سادوا الدنيا عندما انفتحوا على العالم وترجموا واكتشفوا وطبقوا. ويكفي أن نعرف أنهم من علَّم الأوربيين الجغرافيا, والملاحة والفلك, والفلسفة والطب, والكيمياء, والرياضيات, والعلوم الإنسانية على يد علماء نوابغ مثل ابن سينا, والغزالي, وابن رشد, والفارابي, والرازي, والكندري, والخوارزمي, وابن خلدون, والإدريسي, وياقوت الحموي, والحسن بن الهيثم وجابر بن حيان والمسعودي.. والقائمة تطول.

ولكن كل مسيرة ذلك العلم والبحث العلمي قد توقفت وتبددت عندما تكالبت فوق صدر هذه الأمة قوى خارجية وداخلية مختلفة أدت بها الى غفوة طالت وتحولت الى سبات عميق دام قرونا طويلة. ونحن لسنا هنا بصدد تحليل أسباب انهيار الحضارة العربية الإسلامية, لكن الأنصاري يأخذنا إلى مقابلة ذات دلالة حيث يقول: (على كل حال فالمشهد ليس جديداً كل الجدة في ذاكرة الأمة.. فقبل قرون تقابلت (وتكاملت) فوق درها المنهك القوى الصليبية (الفرنجة الغربيون) والمغولية (الشرقيون) من ناحية, والقوى المعادية للعقل والإبداع والحرية من ناحية أخرى. وتم التنكيل باحرار الفكر وعناصر التحضر باسم مقاومة المحتل!. وتوالدت الحكمة القاتلة والغبية: الاستسلام لمستبدي الداخل على أمل التحرر من مستبدي الخارج, ومازال هذا (الخيار البائس) هو الخيار المطروح لدى أكثر (حكماء) الأمة, الذين فاتهم أن الاستبداد كالكفر, أمة واحدة وملة واحدة, وأن الشجي يتبع الشجي, فالاستبداد يستدعي الاستبداد ولا منتصر غير الواقع الاستبدادي داخلياً كان أم خارجياً).

وكتاب (مساءلة الهزيمة) في حقيقة الأمر هو رحلة بين هزيمتين, هزيمة 1967, التي اعتبرها الأنصاري (الهزيمة الأم التي مازالت جراحها مفتوحة وغائرة في الأعماق) وهزيمة سماها (خطيئة احتلال الكويت وتدمير العراق). وهنا يوجه الأنصاري بشجاعة لافتة انتقاداته للجميع: ولايستثني أحداً. ورغم أنه لا يصدر أحكاماً قطعية ويترك الباب مفتوحاً أمام التاريخ وأمام مزيد من التحليلات فإنه كان حاسماً في تشخيص جوهر الداء الذي ينخر في عظام الأمة, ألا وهو التخلف.

والتخلف عند الأنصاري ليس نوعاً واحداً, بل ثلاثة أنواع مترابطة: (التخلف المجتمعي المؤدي إلى تخلف العمل السياسي وتقليص القدرة الإنتاجية, والتخلف الذهني المؤدي إلى تخلف الفكر والثقافة والإبداع العلمي, والتخلف الأخلاقي المؤدي إلى تخلف المسلكيات في التعامل العام والقيم المدنية).

وهو يعزو التخلف المجتمعي إلى تكلس البنى المجتمعية التقليدية العربية من عشائر وطوائف وبواد وقرى وأرياف, فقشور التحديث على السطح مع بقاء تلك البنى دون إذابة حقيقية في إطار المجتمع المدني والمجتمع الوطني, بوسائل التنمية الشاملة والمشاركة السياسية المسئولة والنهوض الثقافي والحضاري الجاد, من شأنه أن يؤدي إلى استمرار تجميد طاقات الإنسان العربي والمجتمع العربي والمرأة العربية في بوتقة هذه البنى المتخلفة. ويدعو الحكام العرب ومختلف حركات الإصلاح والتغيير من (إسلاميين) و(علمانيين) و(قوميين) و(وطنيين وليبراليين), إلى أن يدركوا جميعاً أن امامهم مهمة تاريخية مشتركة في هذه المرحلة: وهي العمل في جبهة وطنية متحدة من أجل اقامة المجتمع المدني والمجتمع الوطني من خلال تذويب تلك البنى التقليدية المتخلفة التي ستقاوم المبادئ الإسلامية الصحيحة كما قاومت المبادئ التقدمية والليبرالية. وما لم تتغير تلك البنية العصرية في القاع السوسيولوجي إلى مجتمع مدني يستند إلى مبدأ المواطنة العامة عبر عملية تنمية ونهضة شاملة, فسنحكم بالفشل على كل مشاريع الإصلاح المتوقعة.

النسخ والاستنساخ

ويعزو الأنصاري التخلف العقلي/ العلمي إلى ترسب وتكلس بنية ذهنية جامدة في العقل الجمعي للمجتمعات العربية ولدى الكثير من نخبها (المثقفة). وهذه البنية نتاج تاريخي مرت عليه قرون طويلة من التجمد الثقافي والفكري سادت خلالها حرفية النص على حركية العقل المجتهد, وأعطيت القداسة للنقل, أياً كان, على حساب العقل, الذي تم تغييبه, وأسهم الاستبداد السياسي والاجتماعي والفقهي والتربوي في إنتاج وإعادة إنتاج كائن ـ الى حد النسخ والاستنساخ ـ يستخدم ذاكراته الناقلة ولا يستخدم عقله الناقد. ويضيف الأنصاري أن مثل هذه البنية الفوقية التي نمت فوق تلك البنية التحتية القرابية التي تقوم على الروابط البيولوجية الدموية والعصبية, لايمكن أن تستوعب عقلانية العصر الحديث ونهضاته وثوراته الفكرية والعلمية والتقنية.

أما الضلع الثالث في مثلث التخلف العربي عند الأنصاري فهو التخلف الأخلاقي, ففي بيئة تستند في ضبط السلوك إلى التخويف وإشاعة الرهبة في النفوس, وفي تحويل تعاليم الدين ومقتضيات السياسة وتقاليد الاجتماع وقيم الثقافة إلى وسائل للضبط الذي يتحول قهراً واستبداداً جمعياً لا يراعي حقائق الشعور بالإنسان ولا حق التساؤل والمساءلة ولا حق الفرد في الاعتراض والإبداع والابتكار وارتياد الآفاق الجديدة.. في بيئة مثل هذه لا منجى من نشوء ازدواجية أخلاقية / سلوكية مدمرة تحكمها فجوة رهيبة بين مظاهر السلوك ولوازمه, وحقيقة السلوك الداخلي والمشاعر والأفكار الذاتية التي لا تتنفس غالباً إلا في الخفاء. فثمة أخلاقية للعلن وأخلاقية أخرى مناقضة للخفاء. أخلاقية العلن هي أخلاقية الجماعة المتجبرة في (فضائلها) المنسوبة الى إرث معنوي مستمد من الآباء والأجداد غير قابل للمراجعة والتصحيح. وأخلاقية الخفاء هي السلوكية الحقيقية والفعلية للفرد المكبوت... وهكذا يتحتم على الإنسان العربي أن يحيا حياتين, حياة لغيره وحياة لنفسه.

ويحذرنا الأنصاري من أن استبداد الجماعة أكثر عنفاً وبطشاً وأعمق أثراً من استبداد الفرد, ... والجماعة الحرة تنتج رجالها الاحرار, والجماعة المستبدة المستعبدة تعيد إنتاج رجالها على مقاسها وطرازها.. لذلك فإن الطريق الحقيقي للحرية ـ عند الأنصاري ـ هو أن تتحرر الجماعة من عبوديتها الذاتية, أي عبوديتها لذاتها, وتصبح جماعة حرة بالفعل ـ سلوكاً وفكراً ووجداناً ـ وعندئذ فقط يمكنها أن تتحرر من مستعبديها.

ويختتم الأنصاري كتابه برسالة واضحة: (هذه بإيجاز شديد هي العلل الثلاث الرئيسية في الواقع العربي القائم, ورغم أن في هذه الأمة طاقات هائلة من حب الخير والتوق إلى الكرامة ومن العقول والنفوس الكبيرة, فإنه لا بد من مشروع عربي متكامل وقابل للتطبيق يتصدى لهذه العلل مجتمعة, وإلا سيفوتنا قطار العصر بصورة نهائية... إني أدرك أنه ليس من السهل ولا من الممتع أن يعدد المرء كل هذه العوائق المرهقة أمام أجيال أمته, ولكن لا مهرب من الصدق مع النفس ومع الحقيقة, هكذا أرى الحقيقة بلارتوش, ولا وعود كاذبة).

وفي الفصل العاشر من كتابه يشير الأنصاري إلى قانون يكاد يكون متواتراً في التاريخ العربي الإسلامي: عندما يشتد التراجع في الساحات السياسية والعسكرية, يصبح العمل الثقافي (خط الدفاع الأخير), بل يتحول إلى جبهة مواجهة وإثبات وجود في وجه الاختراقات المضادة, الأمر الذي يسمح بالافتراض أن (العروبة) والهوية العربية الواحدة تقف أو تسقط ـ في نهاية المطاف ـ باعتبارها ثقافة ومسألة انتماء ثقافي قبل أي اعتبار. وهكذا كان القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي عصر انحلال السياسة وازدهار الثقافة في الوقت ذاته, وكذا كانت العهود الأخيرة من تاريخ الأندلس والمغرب حيث تألق نجم ابن رشد وابن عربي, وابن حزم ولسان الدين ابن الخطيب في شتى صنوف الإبداع والمعرفة ,بينما كانت القوات الإسبانية تتقدم وتكتسح من أمامها (ملوك الطوائف) في الأندلس.

مراجعة جادة

ويضيف: (ولعل مؤرخ التحولات العربية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين ـ وتحديداً بعد هزيمة 1967 م ـ سيكون بإمكانه أن يؤرخ, بالمثل, أن الهزيمة العربية الشاملة والتي تطاولت عقدا بعد آخر منذ ذلك العام, قد أفرزت تدريجياً حركة مراجعة ثقافية جادة ـ في مواجهة الهزيمة ـ مازالت تتواصل فصولاً, وقد تمثل واحدة من أهم حركات إعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب).

وهذه بالطبع القيمة الحقيقية لكتاب مفكرنا محمد جابر الأنصاري الجديد, ففي ظل ترد غير مسبوق للواقع العربي على مختلف الأصعدة, تصبح مسئولية النهوض به (فرض عين) وهنا يبرز على نحو خاص دور المثقف العربي باعتباره ضمير أمته. ولا يصبح أمامه سوى المفهوم الذي أسماه الرئيس التشيكي فاتسلاف هافل ذات يوم (العيش في الحقيقة). والمقصود منه هو فعل التوقف عن المشاركة في المهزلة, أن يتحدى المثقف الهزيمة ويبشر أمته بالنهوض, أن يكسر الحلقة المفرغة لـ(المسكوت عنه) ولـ (الجرم المشترك) الذي هو الاستسلام والخنوع. أن يغلق ـ حتى أمام نفسه ـ كل طرق الهروب, بما في ذلك السعي إلى (متع الحياة اليومية الصغيرة). وقد فعل الأنصاري كل هذا في كتابه الجديد.

 

سليمان العسكري