العناكب.. مخلوقات مدهشة: تتحدى العلماء والدارسين

العناكب.. مخلوقات مدهشة: تتحدى العلماء والدارسين

العناكب.. هذه المخلوقات العجيبة الغريبة، تتبع نظاما غير عادي في اصطياد الحشرات وفي التزاوج، وهو نظام نادرا ما نجح العلماء والمتخصصون في فهم أسراره وخفاياه.

ترى، كيف تعيش هذه المخلوقات التي لا يقدر أحد على تجاهل تكتيكاتها العسكرية في اصطياد ضحاياها.. والتي دخلت خيوطها، وسمعة تلك الخيوط، في أمثال الشعوب للتدليل على سعة الحيلة والصبر على المكاره، والقدرة على الإيقاع بالفريسة؟!

الاسئلة كثيرة بالطبع، فالعلماء والمتخصصون يعترفون صراحة بأن العناكب لاتزال تحتفظ بالكثير من أسرار الطبيعة والمخلوقات، وأن أعواما عديدة سوف تمر قبل أن ينجح العلماء في كشف هذه الأسرار، أوبعضها على الأقل.

البروفيسور الأمريكي مايكل روبنسون أمضى عشرين سنة في دراساته وأبحاثه عن العناكب، يلاحقها أينما ذهبت.. ويسافر من بلد إلى آخر بحثا عن أنوع غير معروفة من العناكب لعله يكشف المزيد من تلك الأسرار والخفايا.. وبعد كل هذه السنين يقول: ليتني أملك عينين ميكروسكوبيتين أستطيع بهما أن أرى ما أتمنى رؤيته من غرائب العناكب.

ويضيف قائلا: إن جميع أنوع العناكب تنتج الخيوط المعروفة، وهي أشبه بخيوط الحرير الدقيقة جدا، والمتينة جدا- نسبيا- ويتم تصنيع هذه الخيوط في غدد قرب البطن، وعندما يريد العنكبوت التحرك في أي اتجاه.. صعودا أو نزولا، يميناً أو يساراً.. فإنه يتسلق على الخيوط التي سبق له أن صنعها وثبتها في أماكن وزوايا معينة، وتكون حركته أشبه بحركة متسلقي الجبال الذين يستعينون عادة بالحبال المثبتة هنا أو هناك.

طريقة هندسية مثيرة

من المعروف أن العناكب تبني بيوتها بواسطة هذه الخيوط بطريقة هندسية مثيرة للإعجاب، لا تزال تمثل جانبا من الأسرار التي يحاول العلماء فهمها في أبحاثهم المستمرة عن العناكب.

ومن المعروف أيضا أن العناكب ضعيفة النظر برغم أن كلا منها يمتلك ثماني عيون، أربعا على كل جانب، يقتصر دورها على معرفة اتجاه الضوء.. في حين أن بعض أنول العناكب، تستطيع بعيونها الكبيرة أن "ترى" بعض الأشياء أمامها، خاصة الحشرت التي تقترب من خيوطها.

وبرغم الاختلافات الكثيرة بين مئات الأنواع من العناكب.. فإنها تجتمع كلها على صفة واحدة هي أنها صيادة ماهرة للحشرات، لكن "تكتيك" الصيد يختلف من نوع إلى آخر، ويتراوح بين البساطة المتناهية، والخطط البالغة التعقيد.. بل إن العلماء يؤكدون أن العناكب تضع خططا عسكرية أكثر تعقيدا من الخطط التي يضعها الإنسان المعاصر، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفارق النسبي بين الجهتين من حيث الذكاء، وكذلك الإمكانات.

وبشكل عام، يبني العنكبوت بيته على شكل دائرة ذات إطار خارجي، وخطوط تمتد من هذا الإطار لتلتقي في نقطة، ليست بالضرورة في الوسط.. والغريب أن العنكبوت يفرز مادة لاصقة على خيوط الوسط، ولا يفرز هذه المادة على الإطارالدائري، فيتحول البيت إلى مصيدة للحشرات الصغيرة التي يشاء حظها العاثر أن تقع فيها.. ويستطيع العنكبوت التحكم في حجم البيت، ضيقا واتساعا، ليتناسب مع الموقع الذي يختاره لبناء هذا البيت- المصيدة.

ويعمل بيت العنكبوت على توسعة مجال قدرة صاحبه على كشف موقع الفريسة، وعادة ما يتشبث العنكبوت بالخيوط عند نقطة التقائها، فيشعر بوجود الفريسة فور ملامستها لطرف الخيوط ومن ثم يهرع للإجهاز عليها بطرق مختلفة حسب نوع الفريسة وحجمها وقوتها.

للصيد.. طريقتان

في أغلب الأحيان، لا تعتبر الخيوط مصيدة جيدة، وإنما مجرد وسيلة لإعاقة حركة الفريسة، ومن ثم يهرع العنكبوت لعمل اللازم، ويتم ذلك بطريقتين مميزتين.. فإما أن يسرع العنكبوت لشل الفريسة بعضة قوية.. أو يتجنب الاقتراب منها ويكتفي بالدوران حولها وتربيطها بخيوطه ريثما تنهار مقاومتها، أو تضعف، فيقترب منها في هذه الحالة ويعضها من خلال الخيوط التي لفها بها، وغالبا ما يستخدم العنكبوت أطرافه الثمانية لضرب الفريسة أثناء عضها ومن ثم تحيط أطرافه بالفريسة التي تجد نفسها وكأنها في قفص حقيقي من الأطراف المتحركة.. وفي بعض الأحيان، تستطيع الفريسة الإفلات من الخيوط لكنها لا تستطيع الإفلات من العنكبوت نفسه الذي يتشبث بخيوطه حتى يمنع الفريسة من سحبه وإبعاده عن منطقته.

ويقول البروفيسور روبنسون، مدير المركز القومي لدراسات علوم الحيوان في واشنطن أن الصيد بلف الخيوط حوله الفريسة، يظل أكثر تعقيدا من عض الفريسة.. وحتى عملية لف الخيوط نفسها، فهي تختلف في الطريقة والأسلوب حسب حجم الفريسة وطبيعة نشاطها.. ولعل أصعب هذه الفرائس هو "الصرصور النطاط " المعروف بصوته المميز في ليالي الصيف.. فالعنكبوت يدرك بصورة غريزية حجم وعنف الفريسة فور أن تلمس خيوطه، فلا يقترب منها وإنما يبدأ باالدوران حولها ولفها بخيوطه عدة مرات، ومع كل دورة، يقترب منها أكثر إلى أن يصل حركتها ويمنعها من استخدام أرجلها الخلفية التي تمكنها من القفز إلى أن يضمن عدم قدرتها على المقاومة فيبدأ بالتهامها.

والغريب أن العنكبوت لا يلتهم فريسته في مكان وقوعها، وإنما يسحبها بعيدا عن الوسط حيث تلتقي الخيوط.. وذلك لإفساح المكان من أجل صيد جديد.

يشرح البروفيسور روبنسون هذه النقطة فيقول: إن قدرة العنكبوت على تنويع اساليبه في الصيد، أثارت دهشته وإعجابه لسنوت طويلة، فقد اكتشف من خلال دراساته وابحاثه أن العنبكوت يستخدم أساليب معينة مع كل فريسة على حدة.. فهويستخدم طريقة لف الخيوط مع الصراصير النطاطة والنحل والخنافس والجراد، في حين يلجأ إلى طريقة العض مع الفراشات، وكثيرا ما أثار هذا التمييز في المعاملة غريزة حب الفضول لدى العلماء والباحثين.

وتقول آخر النظريات حول السبب أن لأجنحة الفراشات قدرة على التحرك بسرعة وتخليص الفرشة من الخيوط، ومن المادة الصمغية التي تحيط بتلك الخيوط، لذلك يهرع العنكبوت لعض الفراشة قبل أن تفلت من خيوطه.

قد يتساءل البعض عن السبب الذي يمنع العنكبوت من استخدام هذا الأسلوب مع كل ضحاياه مادام سريع النتائج.. وقد يبدو التساؤل منطقيا، لكن حقيقة الوضع تشير إلى أن بعض الفرائس تستطيع العض أو اللسع أو الرفس، ولذلك فإن ربطها بالخيوط أولا يظل أكثر أمنا للعنكبوت.

التكاثر واستمرار الحياة

وفي التحليل النهائي، فإن كفاءة العنكبوت في الصيد والتخطيط للإجهاز على الفريسة، إنما تخدم عملية التكاثر.. فالغذاء مجرد وقود لاستمرار الحياة والتكاثر لدى كل المخلوقات، بما فيها العناكب التي تتكاثر بطريقة لاتزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة حتى يتمكن العلماء من كشف كل أسرارها.

فمن المعروف أن ذكور العناكب أصغر حجما من الإناث بنسبة كبيرة، وعندما يقترب الذكر من الأنثى وسط بيتها، عليه أن ينتظر اللحظة المناسبة.. وقد يحدث أحيانا أن يقترب عدة ذكور في وقت واحد من الأنثى، فيحاول كل منها التأثير على الأنثى واستمالتها.. وبعد عملية الاختيار والتزاوج، غالبا ما تلحق الأنثى الأذى بالذكر، وأحيانا تعضه ثم تأكله.

والطريف أن بعض الذكور تظل تنتظر اللحظة المناسبة للاقتراب من الأنثى.. وليس أفضل من لحظة انشغالها بالتهام فريسة كبيرة.. فعندها يتم التزاوج وتكون الأنثى مشغولة بأكل فريستها، فلا تستطيع عض الذكر المحظوظ.

بعد عدة أسابيع من التزاوج، تضع الأنثى بيوضها فيما يشبه الكيس المصنوع من خيوط العنكبوت.. أو فوق وسادة من تلك الخيوط.. وتلزم البيوض عدة أسابيع أخرى حتى تفقس في البلاد الحارة.. أما إذا كان الطقس باردا فعملية الفقس تطول اكثر.. وفور أن تفقس البيوض، تخرج الصغار إلى الحياة وسريعا ما تتفرق وتتباعد. وقد لاحظ العلماء امرا غريبا فيما يتعلق بتوزع الصغار.. فهي تتفرق بطريقتن مميزتين.. الأولى بأن يفرز العنكبوت الصغير خيطا طويلا جدا، وبما أنه خفيف الوزن فإن نسمة خفيفة كافية لحمله عاليا، فيبدو أشبه بالطائرة الورقية المربوطة بخيط.. وقد يحمل الهواء هذا العنكبوت إلى أماكن بعيدة جدا، أو ربما عالية جدا.. وهذا ما لاحظه العلماء حين وجدوا أن العناكب موجودة في طبقات الجو العليا وذلك من خلال فحصهم لنماذج من هذه الطبقات بواسطة الطائرات التي تحلق على ارتفاع عشرات الآلاف من الأقدام فوق سطح الأرض.

أما الطريقة الثانية، فتتم بأن يفرز العنكبوت خيطا ويظل في مكانه ينتظر أن يمسك طرف هذا الخيط مكانا عاليا، فيتسلق عليه متوجها إلى المجهول مستخدما طريق الحرير الحقيقي.. بعد أن عرف الأقدمون الطريق الذي كان يسلكه تجار الحرير فأطلقوا عليه اسم طريق الحرير.. تجاوزا.

ومع استمرار الأبحاث والدراسات حول العناكب وأساليب حياتها لايستطيع المرء إلا أن يعجب بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، وقدرته على جعل هذه المخلوقات الضئيلة تقوم بأعمال غريبة ومذهلة في وقت واحد.. فالعناكب بالفعل مخلوقات مدهشة تستحق البحث والدراسة من جانب العلماء والمتخصصين.

 

 



 
 




أنثى العنكبوت تحيط فريستها ذبابة بالخيوط.. فتستخدم أثنين من اطرافها لتوجيه الخيوط، وتستخدم بقية أطرافها السته لتدوير الفريسة أثناء لفها بالخيوط





استغل الذكر فترة انشغال الأنثى بخلع قشرتها مثل الأفاعي فأقترب منها لغرض التزاوج





أنثى العنكبوت لا تجد صعوبة تذكر في التغلب على دودة الشجر التي تفوقها حجما





أنثى العنكبوت تمسك بفريستها ببعض أطرافها.. وتمسك خيوط البيت بالأطراف الأخرى





ذكران يقتربان في وقت واحد من أنثى أكبر منها حجماً





عناكب صغيرةعقب فقسها من البيض





أنثى تضع بيوضها فيما يشبه الكيس من خيوطها