عبد العزيز محيي الدين خوجة وجهاد فاضل

عبد العزيز محيي الدين خوجة وجهاد فاضل

تنويه: تنشر «العربي» هذا الحوار مع الوزير عبدالعزيز محيي الدين خوجة، وزير الإعلام والثقافة في المملكة العربية السعودية والذي أعد قبل عدة أسابيع من توزير معاليه، و«العربي» إذ تقدم التهنئة لمعالي الوزير على ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بإسناد حقيبة الثقافة والإعلام في الشقيقة المملكة العربية السعودية إليه، تتمنى ألا ينشغل شاعرنا عن قرائه وعشاق شعره بأعباء العمل الوزاري المضني.

  • حياتي رحلة حب، بدأت من الأنا، إلى السوى، إلى المحبوبة، إلى الأقرباء، إلى الوطن، إلى الكون.
  • الشاعر لا يعرف نفسه، كما يعرفها الناقد أنا أستقي من كتاب الله وكل يوم أقرأ ما تيسّر لي منه.

اختيار الشاعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة وزيراً للإعلام والثقافة بالمملكة العربية السعودية دليل على الاحتفاء بالذات المبدعة وتسليمها مقاليد أمور تطوير الثقافة والفكر في ركن مهم وغال من أركان وطننا العربي.

فهو ليس مسئولاً فقط ولكنه أيضاً شاعر مبدع، وهو لا ينتمي للسعودية وحدها، ولكنه بل ينتمي إلى العرب جميعاً، إلى تراثهم الشعري والروحي المضيء والمستنير قبل كل شيء، وإلى الإنسانية أيضاً، كما انتمى الحلاج وابن عربي قديماً وكما انتمى لوركا وأراغون ونيرودا حديثاً. في شعره تحية للجانب الروحي في الإسلام، ولتراث بني عذرة في الحب أحياناً كثيرة. وهو من حيث ولادته ونشأته في مكة، قريب من مضاربهم في وادي القرى، ومتأثر بموروثاتهم وقيمهم في الحب. ولكنه كثيراً ما يحيّر قارئه في محبوبه الذي يتغزل به: هل هذا المحبوب من لحم ودم كباقي المحبوبين،أم هو ذلك المحبوب الأعلى، جلّ جلاله، الذي يتوق إليه المحبون الواصلون؟

عبد العزيز محيي الدين خوجة صاحب تجربة فريدة في الشعر العربي المعاصر. يُخّيل لقارئه أحياناً، إذا قرأ قصائده المكتوبة بحسب طرائق شعراء الحداثة المعاصرين، كالسياب ورفقائه، أنه من هؤلاء الشعراء، وبخاصة لأن هذه القصائد تتصف بالجدة والنضارة، من حيث الروح. ولكن يُخيّل لهذا القارىء أحياناً أخرى أنه شاعر كلاسيكي لأنه كثيراً ما يتوسل أوزان الخليل بن أحمد، ولأن قصائده بهذه الأوزان قصائد متينة. فهو إذن شاعر يملك ناصية الحديث كما يملك ناصية القديم. لكنه ليس شاعراً تقليدياً أو حداثياً فقط، وإنما هو شاعر مطبوع على الشعر أولاً وليس له موقف "أيديولوجي" مسبق لا من البحر الشعري ولا من التفعيلة. فما يعنيه هو أن تأتي القصيدة على مقتضى الحال الشعري وفي أحسن تكوين.

لعل أكثر ما يميز شعر عبد العزيز خوجة ليس توزعه على بحور الشعر العربي وطرائقه، وإنما توزعه على أقاليم الوجد والعشق والشجن والجوى حتى لكأن قصيدته مصنوعة من كيمياء خاصة فيها مكانة مميزة للسرّ الشعري المضنون به على غير أهله. والطريف أن هذا الشاعر، دكتور في الكيمياء من جامعة لندن، وأستاذ لهذه المادة سنوات عديدة في جامعات بلاده قبل أن يصبح سفيراً لبلاده في العديد من العواصم ثم توليه بعد ذلك لمنصب وزير الإعلام والثقافة. وفي هذا الحوار الذي يتحدث فيه الشاعر عن جوانب من تجربته الشعرية إشارة إلى صديقه الشاعر عمر أبو ريشة الذي كان مثله متخصصاً في الكيمياء.

لقد دار هذا الحوار مع الشاعر أولا، وليس المسئول لأن الشعر هو سر تفرده ومكمن إبداعه، وسوف نرجئ الحديث حول مسئولياته إلى مناسبة أخرى.

ويحاوره الكاتب اللبناني جهاد فاضل..

  • لتجربة الحب في شعركم ملامح خاصة مختلفة عن أية تجربة عاطفية وشعرية أخرى. في هذه التجربة ألوان حسّية صارخة حيناً، وألوان عذرية تنضح بالعفة حيناً آخر، وفيها يمتزج العشق الإنساني بالعشق الصوفي حتى ليحار القارىء في معرفة ماهية الذات المعشوقة، أية ذات هي: هل هي ذات المحبوبة، أم ذات المحبوب، جلّ جلاله.. كيف تفسرون ذلك؟

- من الأسئلة ما يكون أجمل من الأجوبة، وبخاصة إذا اختصر السؤال رحلة حياة بكاملها، وحاول أن يعطي فيها ملامح شخصية كاملة.

من البداية إلى النهاية، ربما هي رحلة حب بدأت من الأنا، من الذات إلى السِوى: إلى المحبوبة، إلى الأقرباء، إلى الوطن، إلى الكون. وهي بعد ذلك رحلة المثابرة للوصول إلى حب غير مرئي، حينما يصل المرء في كل مرة إلى حبٍ ما، ثم يتأكد أن هناك شيئاً ينقصه، وأن هناك شيئاً أقوى وأقوى. ربما أنا في هذه الرحلة، في رحلة شوق مستمرة وطويلة، بحيث لا أعرف أولها من آخرها، ولا أعرف مبتدأها لكي أعرف منتهاها.

إنني لا أدّعي أنني شاعر له مدرسة خاصة، وأنني أنتمي إلى فريق دون آخر، أو أن شعري صوفي أو حسّي، علوي أو دنيوي. إنني الانسان في وقت ما، وفي حالة ما، وفي مكان ما. وأنا هذا الكائن في هذا الوجود، المتفاعل مع كل هذه المتغيرات في داخلي ومن حولي. والاكتسابات التي اكتسبتها في هذه الرحلة الإنسانية طالت أم قصرت- لا أعرف متى تنتهي. وإنما أنا سائر فيها تتلبسني أحياناً، ولا أستطيع أن أتنكر لها حتى أجد ربما المحطة النهائية التي أعرف أن فيها الخلاص. وربما أستطيع أن أبدأ إذا استطعت أن أعرف نهاية الرحلة، أو السراة في هذا الطريق. إنها رحلة شوق طويلة متجددة لا ينتهي أبداً سراه.

حين يكتب الشاعر يكتب في لحظة الكتابة التي تُملى عليه.

العذرية والصوفية

  • هناك تياران بارزان في شعركم: التيار العذري والتيار الصوفي، بالإضافة طبعاً إلى جوانب من الغزل الحسّي المألوف في القصيدة العربية. أحب أن أعرف مصدر التيارين الأولين: تيار العذرية وتيار الصوفية.

- ربما هي شخصيتي. ربما هو ارتياح لنمط معين من التراث، ربما هو الصراع في داخلي بين المادة والروح. هذا هو الإنسان المركب الذي أتحدث عنه في قصيدة لي:

قلبي المركبُ من شياطين وطينْ
وعجينة ممزوجة بالنور واللّهبِ المذابْ
كيف التوازن في معادلة الحساب؟
إني رضعت براءتي من ثدي أمي، في نقاوة برعمي
وخطيئتي من ثدي دنياي
ومن شفة كأحلام العسل
وانصبّ في مجرى عروقي في دمي
هذا المزيج من الشراب
حتى تكوّن ما تكوّن من "أنا"
لكن إلى أجل الأجل

هذه ربما الإجابة الحقيقية لسؤالك. أنا هو هذا الكائن المصنوع من تناقضات.

  • وماذا عن عملية تخلّق القصيدة في الذات: هل تضع للقصيدة مخططاً مسبقاً؟ وما الذي يولد أولاً: النغم أم الكلام أم سواهما؟ وهل تأثرت يوماً بالنقد الحديث الذي ساد في الساحة الأدبية العربية في ربع القرن الماضي؟

- القصيدة هي عناصر أو عوامل مختلفة.لا أعرف على وجه القطع ما الذي يولد في البداية. حين يغمر الإلهام الشاعر، ربما يأتي النغم أولاً، وهو يأتي حسب حالة الشجن التي تعتريه في ذلك الوقت: سواء البحر الشعري، أو شكل القصيدة، عمودية أو تفعيلة. هي لحظة ما من الغموض يتفاعل فيها الشاعر مع ذاته ومع الكون من حوله، ومع الحالة التي سيطرت عليه في تلك اللحظة، ليتم الانسجام مع كل شيء: مع النغم، مع الموسيقى الداخلية، مع البحر. هو لا يعرف مثلا لماذا اختار البحر الكامل أو البحر البسيط أو سواهما، أو لماذا خرجت القصيدة على هذه الصورة النهائية أو تلك.

هذا يعتمد أيضا على ثقافة الشاعر وتجربته، وغناه الداخلي بالأشياء المخزونة فيه لغوياً، أو تجربة، أو معاني. هذه الأشياء كلها توجد في اللاشعور، في الباطن. ثمة لحظات فريدة تجتاح النفس، خلالها يستقبل الشاعر من الكون أفكاراً وخواطر تسنح وتعبر بالآلاف. تسري الفكرة في داخله كما تسري الكهرباء، فتشعل الحريق لتتدفق القصيدة على هيئة شلال، أو لهيب. على هيئة نغم، وبصور مختلفة حسب الحالة التي يمر بها الشاعر، وحسب الصور التي تفاعلت في داخله، وحسب ما يحمل من لغة وثقافة ومكنوز داخلي. كل ذلك يتفاعل ويتدفق في صورة فنية على هيئة قصيدة عمودية أو تفعيلة، أو أية صورة من الصور الشعرية الأخرى. هنا يأتي النغم، وتأتي الصورة، وكل ذلك مع بعضه البعض. ويجب أن يكون مع بعضه البعض ليتم ذلك التدفق المتجانس الغريب.

الإلهام.. أفكار سابحة

  • هل أفهم من هذا أنكم تؤمنون بالإلهام الشعري؟

- أنا أؤمن بالإلهام الشعري. أنا أعتقد أن في الكون سحابات كبيرة جداً من الأيونات الفكرية تسير أو تدور. إذا أردنا أن نتكلم عن الشعر، قلنا إن لدى الشاعر نصف هذه الأيونات الإيجابية في داخله. وهو يلتقطها حينما تمرّ به. يلتقطها ويشعر بها في تلك اللحظة. وحينما يتفاعل أيون مع أيون آخر ويدخل في اللاشعور، يشعل الحريق، أي يشعل هذا التفاعل الكيميائي السحري الغريب بين اللامنظور الخارجي والمنظور الداخلي. اللامنظور هو ما نسميه بالإلهام.

هذه الفكرة الأيونية السابحة في الجو حينما يلتقطها الشاعر المبدع يلتقطها حسب طريقته وحسب مخزونه الثقافي وقابلياته وإمكاناته. لذلك يقولون لك: وقع الحافر على الحافر.

  • الإمام الغزالي يقول إن لربكم أوقاتاً مباركة ألا فتعرضوا لها..

- هذا سواء في العبادة والدين أو في الفكر، وفي كل شيء، يجب على الفنان أن يكون مستعداً لإبداع ما. إن لم يكن للشاعر مثل هذا المخزون الغني، فإنه لا يستطيع أن يتفاعل أو يتجاوب مع هذا الإلهام السابح. إن اكتشاف الكون بكل زواياه المختلفة، وسبر غور الإنسان، ومعرفة كنه الجمال في امرأة جميلة، أمور تتداخل فيها عوامل كثيرة. قد يرى الشاعر في امرأة ما جمالاً لم يلتفت إليه آخرون. لفتة منها تؤلف بسمة والطبيعة وردة، أو نسمة تسري، أو رائحة تأتي إليه عطرة جميلة. يتذكر الشاعر هذه الرائحة التي عرفها قبل عشرين أو ثلاثين سنة.

الأفكار سابحة في الكون، المهم توافر من يلتقطها ويتفاعل معها.

الشعر وضرورة الوزن

  • تكتب الشعر الحديث، أو شعر التفعيلة، كما تكتب الشعر العمودي. متى تتوسل هذا أو ذاك؟ وهل تشعر أن الوزن قيد وصناعة أم شرط للعملية الشعرية؟

- أنا لا أؤمن بالشعر من دون وزن. هذه الأوزان لم يضعها الناس مسبقاً لكي يقولوا للشاعر: اتبع هذا واتبع ذاك.. الخليل وسواه، وجدوا هذه الأوزان في الشعر وفي الشاعر. الشاعر هو الذي خلق هذه العمارة حسب ظروف بيئته. أية عمارة تناسب هذا الشيء. قد تكون العمارة من الوزن الطويل، قد تكون من الوزن البسيط، قد تكون من الكامل. ثم هذا من دون أن يضع أحد، قبل الشاعر هذه القواعد، التقصي جاء لاحقاً، وأُخذ من الشعر نفسه. الذي درس العروض بدأ بالشعر نفسه. ثمة قوانين غير منظورة، موجودة في الكون، وفي اللغة، موجودة في ظروف البيئة. إذا استطاع الشاعر أن يجد لنفسه حسب الظروف الحالية، بالنسبة للبيئة، للحضارة، للتطور، للسرعة، بحراً جديداً، فلا مانع، لكن يجب أن يكون هناك أساس، كما الموسيقى، كما الرسم، الخلق نفسه الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، وصوّره و أبدعه، مبني على قوانين وحسابات دقيقة جداً. هذا صنع الله الذي أبدع كل شيء. لم يخلق الله سبحانه وتعالى هذا الكون عبثاً، أي بصورة عشوائية، إنما خلقه بصورة دقيقة متناهية في الدقة. وكل ما يتبع هذا الخلق هو نتيجة هذا الإبداع الإلهي العظيم..

إن كل ما يتبع هذا الخلق، وكل ما يتبناه الإنسان من إبداع فني أو عقلي، أو علمي، هو نتيجة لهذا الإبداع. فأنا لا أؤمن بأن يأتي أحد ويخرّب هذا الإبداع الجميل الذي أوجده الله سبحانه وتعالى. ونحن نكتشف هذه الصور الإبداعية الموجودة في الكون. حينما يبدع الشاعر أو الفنان أو الموسيقي او الرسام، إنما يكشف حقيقةً إبداعاً موجوداً من قبل. الله سبحانه وتعالى هو الذي كشف لهذا المبدع ومضاً من الحقيقة، ومضاً من هذا الإبداع الموجود، ثم تفاعل معه الشاعر أو الفنان. وكلما زاد الشاعر ثقافة وعلماً، وامتلاء باللغة والتاريخ، استطاع أن يتفاعل مع هذا الإبداع حينما يومض، أو تومض الفكرة في نفسه، في مكان ما في داخله. هناك التلاقي بين الخارج والداخل، أي في التأثر الذي يمرّ به الإنسان إزاء حدث، أو عشق، أو أية حالة أخرى.

لكن الصورة النهائية هي هذه الحالات. ربما نكتشف بحراً جديداَ حسب ظروف العصر وحسب صورته. قد تكون هناك رتابة معينة، ثم تتطور هذه الرتابة إلى أكثر وأكثر، إلى سيارة الآن، إلى صاروخ، إلى نفاثة. حركة الحياة نفسها تتغير، تصبح أكثر سرعة.

الإنسان صار أكثر قلقاً، وصار غريباً أكثر، وصارت رحلة حياته مليئة بالمتناقضات، باللهاث، وباللحاق بمن سبق.

يحتاج الشاعر، كما يحتاج الإنسان، إلى شيء من الجنون ربما، إلى النزق، إلى وقت يرتمي فيه على صدر حنون.

في هذا العصر المختلف الذي يزداد تسارعاً، يجب أن تكون الصورة التي يخرج فيها هذا المبدع، متناسقة مع الكون ومع ما ينتجه هذا الكون.

الشاعر.. والنظرية

  • خلال السنوات الخمسين الماضية، وفي بيروت وعدة عواصم عربية أخرى، كثر التنظير للشعر، وقلما وُجد شاعر بقي خارجه، مع أن الأصل هو أن يكتب الشاعر وأن ينظّر المنظّر وان ينقد الناقد.. هل تأثرت بهذا التنظير، أم أنك كتبت الشعر بصورة عفوية واستجابة لدواعي الشعر في ذاتك؟

- الشاعر إذا كان ناقداً في الوقت نفسه وحاول أن يغوص في المدارس والنظريات النقدية لا يستطيع أن يكون شاعراً. المدارس النقدية ظهرت استناداً إلى ما هو موجود من قبل. الشاعر الجاهلي لم يفكر في مسائل نقدية. لقد عبّر عن زمنه وعن حاله، عن طبيعته، عن تركيبته. وهذا ما فعله الشاعر الإسلامي والشاعر الأموي والعباسي. حتى وصلنا إلى الشعر الحديث وتكونت مدارس شعرية ونقدية في القرن الماضي، مثل أبولو والديوان والمهجر. النقّاد هم الذين قسّموا هذه المدارس وأصّلوها. جاء النقد فيما بعد. لم يضع الناقد الخطة للشاعر، وإنما الشاعر هو الذي وضع الخطة والمنهج والرؤية للناقد بحيث استطاع هذا الناقد أن يفصّل وأن يقسّم، وأن يقول إن هذا الشعر جاهلي او أموي أو عباسي، أو أنه من الموشح، أو شعر حديث... إلى آخره.

لكن يجب على الشاعر، لكي يكون شاعراً، أن يكون على إطلاع كامل على كل ما يدور في الساحة الشعرية. بعدها يترك نفسه على سجيتها، ليدع الشاعر فيه يختار حسب الظرف وليدع للناقد عمله.

  • سلامة موسى كان يقول: على الكاتب أن يكتب وعلى الناقد أن ينقد...

- هذا صحيح. على الشاعر أن يكتب الشعر وعلى الناقد أن يمارس وظيفته في النقد. ولعل أخطر شيء هو أن يكتب الشاعر قصيدته حسب معايير مسبقة تناهت إليه من النقّاد والمنظّرين، أو لكي يُرضي هؤلاء النقّاد والمنظّرين.

  • هل هناك جمال واحد تستلهمه، وأي جمال تأثرت به أكثر من سواه؟

- في كل مرحلة أجد جمالاً ما، فأقول: هو هذا.. وحين أقترب منه أقول إنه ليس هو، فأبحث عن سواه... وأقول بعد ذلك: هذا أجمل! وعندما يذهب، وأقارب جمالاً جديداً أكتشف أن النفس تهفو إلى جمال مختلف. لربما أنا أبحث عن جمال ما، أو عن سرّ الجمال. وفي رحلة البحث الطويلة هذه، الله أعلم متى ألتقي بما أبحث عنه.

  • هل هناك مفردات معينة تتعشّقها، وتفتح لك أثناء كتابة القصيدة تياراً من المعاني لم تكن تتوقعه؟

- لا أعلم. لكن ربما لكل شاعر، قديم كان أو حديث، مفرداته التي اكتشفها فيه الناس. الشاعر ربما لايعرف نفسه كما يعرفها الناقد. ربما كان الناقد أحياناً أقدر على معرفة جوانب في الشاعر لا يعرفها الشاعر نفسه. للنقد دور كبير في اكتشاف غياهب ومجاهل الشاعر والفنان بصورة عامة.

  • لكل شاعر مصادره الشعرية الثقافية وغير الثقافية. فما هي المصادر التي وجدتم أنفسكم خاضعين لها أكثر من سواها؟

- الموروث العربي بدايةً. أنا أستقي من كتاب الله سبحانه و تعالى. كل يوم أقرأ ما تيسر لي منه. وأنا أقرأ كثيراً في تراث العرب الشعري، قديمه وحديثه. وأقرأ طبعاً الشعر الحديث، العربي والأجنبي. الثقافة مهمة للشاعر، لكن الشاعر يعكس قبل كل شيء آخر تجربته ونفسه وقيمه.

شعراء سفراء

  • هناك شعراء عملوا سفراء وألهمتهم الأسفار. مثلا بابلو نيرودا التشيلي، سان جون برس الفرنسي وسواهما.. في قصائدكم صور لأمكنة مررتم بها وكان لها أثر في شعركم .. كيف يتم هذا التفاعل مع المكان؟

- المكان مهم جداً. المدن كالمرأة، هناك مدن تستطيع أن تتفاعل معها وأن تكتب فيها وعنها، وتؤثر فيك وتؤثر فيها وتعيش فيها أجمل الأيام واللحظات. ولكن كما تشعر بالألفة معها حيناً، تشعر بالنفور منها حيناً آخر من حسن حظي أنني تنقلت بحكم طبيعة عملي بين كثير من المدن والبلدان. فضاء كل مدينة له تأثيره. هناك الفضاء الإنساني والفضاء الثقافي والفضاء الشعري. مدينة لها تاريخها الكبير كبغداد مثلاً فيها شعراء وفلاسفة ومفكرون ذوو شأن. الفضاء الإبداعي في روسيا، في المغرب، في كل مكان عملت فيه، شعرت بهذا الفضاء الإنساني المتراكم.

بلا شك مثل هذا الفضاء يساعد الشاعر بصورة أو أخرى. حين أذهب إلى روسيا أقرأ لبوشكين، ولشعراء روسيا وروائييها العظام، أسمع الموسيقى الروسية الرائعة. هذه كلها فضاءات تساعد وتمد جسوراً روحية غير مرئية. وفي لحظة ما، تجد نفسك تتفاعل مع التاريخ والمعالم والصور التي تشاهدها. وهناك تحدث للروح حرائق وإلهامات جديدة. كل هذا يؤلف إثراء للشاعر.

  • كان عمر أبو ريشة يقول إن دراسته للكيمياء في لندن أثّرت في قصيدته. انتفع بالكيمياء ومعادلاتها ومنطقها، وكان في قصيدته علم وتقنية ومنطق كما كان يقول لي، هل استفدت بدورك من الكيمياء وأنت متخصص فيها، بل حامل دكتوراه؟

- استفدت كثيراً. لذلك أستطيع أن اقول إن هذا العلم، ومعه بقية العلوم، تفيد في معرفة هذا الكون، وفي ارتباطه مع بعضه البعض.

لا أستطيع أن أفرّق بين علم وآخر، او بين علمي وأدبي وفني وثقافي. في لحظة من اللحظات أشعر أن كل العلوم والفنون والآداب والثقافات تؤلف هذه الهارموني الموسيقية، أي هذا الكون الكبير المتناسق.

طبعاً هناك من يستطيع أن يعزف على الأكورديون ومن يستطيع أن يعزف على البيانو أو على العود. ولكل إبداعه في عمله. تجد أن كل الأمور مرتبطة مع بعضها. درست الكيمياء وتخصصت فيها, ووجدت نفسي في نهاية المطاف أتعامل معها كما أتعامل مع الشعر، فكأن معادلاتها تشبه الأوزان أو البحور الشعرية.

بطبيعتي أنفر من التفلت والفوضى، سواء في الشعر أو في بقية الفنون. أيقنت على الدوام أن الله سبحانه وتعالى، خلق هذا الكون في أحسن تكون وأدقّ صورة.

حينما يدرس المرء الكيمياء، ويلمس ما فيها من دقة ونظام، وكيف أن من الممكن عندما يتفاعل أو يتحد مركّب أو عنصر مع آخر، أن ينتج عن ذلك آلاف النتائج، يجد نفسه يتعامل مع نوتة موسيقية، أو مع أوزان شعرية.

لقد تسنى لي أن أتعرف إلى المغفور له الشاعر الكبير عمر أبو ريشة، وقد نشأت بيننا صداقة عميقة. تناقشنا مراراً في العلاقة بين الكيمياء والشعر. وقد سرّ كثيراً عندما عرف بأنني متخصص في الكيمياء، وبأنني وجدت ما وجده هو من الصلات الوثقى بين العلمين: بين علم الشعر وعلم الكيمياء.

ثمة اسرار كثير في هذا الكون، وعلى المرء الاّ يحبس نفسه في غرفة مقفلة حتى ولوكان عالماً كبيراً. عليه أن يرى الكون على حقيقته وأن يغرف الكثير من فنونه وأسراره.

------------------------------------

ولي وطـنٌ آليـتُ ألا أبيـعَهُ
وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عمرتُ به شرخَ الشبابِ منعماً
بصحبةِ قومٍ أصبحوا في ظلالكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجـالِ إليهمُ
مآربُ قضـاها الشـبابُ هنالكا

ابن الرومي






 





 





 





 





 





 





 





الشاعر ووزير الإعلام والثقافة السعودي عبد العزيز خوجة مع رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة