الـتـاجـر { ولا تخـسـروا المـيـزان }

الـتـاجـر { ولا تخـسـروا المـيـزان }

صانعو الحضارة العربية الإسلامية

الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا الإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

رغم أن كل أنواع التجارة التقليدية كانت معروفة فإن انتشار الإسلام أسهم في شق طرق جديدة وجعل العالم أكثر تلاصقاً.

لما فتح العرب هذه الرقعة الواسعة الممتدة من أواسط آسيا إلى شمال إسبانيا, وأقاموا فيها دولتهم, كانت التجارة قد عرفها العالم لمدة لا تقل عن أربعين قرناً. ومن ثم فقد كانت أكثر الطرق معروفة وأكثر السبل مطروقة. كما كانت السلع المتنوعة تنقل من مصادرها الأصلية إلى الأسواق التي تتطلبها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.

إلا أن قيام الدولة العربية الإسلامية في هذه الرقعة الواسعة كان له في التجارة أثران مهمان: الأول أن خضوع هذه المنطقة الشاسعة الواسعة لمركز واحد, جعل الانتقال أيسر, إذ إن الطرق أصبحت موصولة, وها نحن نقرأ عند ابن خرّداذبه أن التجار الراذانية كانوا يخرجون من فرنجة إلى العدوة الإفريقية, ثم يحملون سلعهم عبر الشمال الإفريقي, فإذا بلغوا القُلْزم (على مقربة من السويس الحالية) ذهب فريق منهم إلى الشام وربما وصل إلى القسطنطينية, أما الفريق الأكبر, فكان يخترق البر إلى البحر الأحمر, ومنه إلى المحيط الهندي, حيث يحملون بضائعهم إلى الهند والصين, وقد يعودون بحراً, وقد يعودون عبر البر في آسيا إلى أن يعودوا إلى بحر الروم (البحر المتوسط), وحري بالذكر أن القسم الأكبر من طرقهم كان يقع في حدود الدولة العربية الإسلامية, وإن كان بعض أجزائها قد أصبح يتمتع بإمارات أو سلطنات ذات حكم ذاتي.

أما الأمر الثاني الذي تبع هذه الفتوح, فهو انتشار الإسلام تدريجياً في رقاع واسعة من العالم, والمسلمون عليهم الحج إلى البيت الحرام لمن استطاع إلى ذلك سبيلا. وهذا معناه أن الخلفاء والحكام كانوا مكلفين تأمين انتقال الحجاج في الأجزاء الواقعة تحت نفوذهم, ومن هنا نجد أن الطرق التي كانت تصل الغرب الإفريقي بشرق القارة, تتعدد اتجاهاتها, كي يتيسر للحاج الانتقال مسافات بعيدة, ولاشك في أن الحاج أفاد من الطرق التي كانت قائمة من قبل, لكن حفر الآبار وتهيئة أماكن الإراحة للحجاج جعل الطرق أيسر اتباعا.

ولنذكر أن عدداً كبيراً من الحجاج كان يتعامل بالتجارة في طريقه كي يؤمن النفقات اللازمة لسفرة قد تدوم, بين الذهاب والإياب, مدة طويلة.

الانفتاح على الشمال

وفي الفترة التي كان للدول العربية والإسلامية سلطان في هذه الأنحاء فُتحت للتجارة طرق إلى أسواق لم تكن معروفة من قبل. فالاتصال بروسيا وببعض البلاد الاسكندنافية, على سبيل المثال, يعود الفضل في افتتاحه إلى التجار العرب والمسلمين.

استعملت وسائل النقل المختلفة في سبيل انتقال التجار في هذه الرقعة المنبسطة, فهناك الطرق البرية التي تُحمل السلع عليها ووسائل ذلك الحيوانات المختلفة - الحمار والجمل والبغل (واللاما في الأطراف الشرقية النائية). وكانت المراكب النهرية تنقل الركاب والتجارات عبر النيل (والنيجر فيما بعد), كما كانت قوارب من نوع خاص, إلى القفة الكبيرة أقرب, تُحمل عليها بعض السلع على دجلة نزولاً (من الشمال إلى الجنوب) وتحمل فارغة على الجمال لإعادتها إلى مكان تستعمل فيه ثانية.

وكانت البحار قد عرفت بعض أسرارها, مثل الرياح الموسمية بين الهند من جهة, وجنوب شبه الجزيرة والقرن الإفريقي من جهة ثانية, فأفاد الربابنة من ذلك في توقيت سير السفن الشراعية صيفا وشتاء. على أنه يجدر بنا أن نتذكر أن العوامل المناخية كان لها أثر كبير في توقيت الرحلات والأسفار لا البحرية وحدها, بل حتى البرية, فالحر والبرد عاملان مهمان.

ولنذكر على سبيل المثال أن القوافل التي تجتاز الشمال الإفريقي كانت تتجنب التنقل, أو تخففه على الأقل, في الصيف خشية ما قد يحدث من انعدام الماء وارتفاع درجة الحرارة, والأماكن التي تغطيها الثلوج في الشتاء كانت التجارة تنقطع في تلك الأثناء.

والتجارة البحرية كانت تخضع لمثل هذه الأمور, لا في المحيط الهندي فحسب, ولكن في البحر المتوسط.

هذا الأمر الذي أشرنا إليه آنفاً يحفّزنا على الحديث عن الزمن الذي كان يقضيه التاجر, المسافر بحرا, أو المتنقل برا, في الرحلات الطويلة. كان التاجر الذي ينتقل من جنوب شبه الجزيرة العربية - مثلا - إلى موانئ الهند الغربية, يخرج مع الرياح الموسمية الشتوية. ويقيم في الموانئ الهندية حتى يحين موعد عودة السفن مع الرياح الموسمية الصيفية, أي أنه قد يقضي ثلاثة شهور أو أربعة في الهند, وفي البحر المتوسط كانت الرياح التجارية التي تهب من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي صيفاً, ومن الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي شتاء, وهي التي تحمل السفن الكبيرة, تضطر هذه السفن إلى الإقامة في بعض المدن فصل الشتاء أو فصل الصيف.

هذه الفترة التي كان التاجر يقضيها في الموانئ المختلفة كان يفيد منها في الاتجار محلياً, ولكن هل كان هذا كل ما يفعله?

والقافلة التي كانت تقطع الصحراء الكبرى في إفريقيا من ميناء من موانئ البحر المتوسط إلى مالي أو تمبكتو كانت تقضي سنتين في الطريق ذهاباً وإيابا. يلتقي تجارها تجاراً آخرين في الواحات التي يريحون فيها ويريحون دوابهم, فيتبادلون السلع مع تجار متجهين من الغرب إلى الشرق, أو من الشرق إلى الغرب, هل كانت أوقاتهم كلها تنفق في تبادل السلع?

وفي الطرق التي كانت تعبر جزءاً كبيراً من القارة الآسيوية, والتي كان التجار يقيمون في الطريق في الخانات التي أقيمت فيها, يقضون أياماً للراحة لهم ولدوابهم, هل كانوا يتحدثون في البيع والشراء?

خان التجار

هذه الخانات التي بنيت لمصلحة المسافرين تجاراً كانوا أم حجّاجاً, والتي لاتزال آثار المئات منها قائمة من أواسط آسيا حتى المغرب الأقصى, كانت تختلف حجماً بالنسبة للحاجة إليها واهتمام الحكام المحليين بالأمر. فهناك خانات تتسع عرصتها لأربعمائة دابة فيما تقوم حولها أماكن لوضع البضائع للتجار. أما هؤلاء فكانوا يقيمون في غرف تقع فوق أجزاء من العرصة. وكانت تتوسط هذه بئر يستقي منها هذا العدد الكبير من الناس, وبالطبع, فقد كان ثمة مسجد يؤدي فيه القوم الصلاة.

ولم تعرف الطرق التجارية الصحراوية في إفريقيا, أي تلك التي كانت تصل الموانئ الشمالية بإفريقيا الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى الخانات على نحو ما عرفناها في الطرق الآسيوية. فقد كانت هذه الطرق تجتاز مسافات صحراوية طويلة, قد تحتاج إلى أيام متعددة لاجتيازها, ومن ثم فإن الخانات لا تصلح لمثل هذه المناطق, وقد قام الرحّالة الكبير ابن بطوطة برحلة من المغرب إلى مالي وتمبكتو الواقعتين جنوبي الصحراء على مسافة طويلة. وخلف لنا وصفاً وافياً لمشقات الطريق, ولن ننقل هنا كل ما رواه الرحّالة, بل نكتفي بما يعني التجار مباشرة.

انطلق ابن بطوطة من سجلمْاسة, على أطراف الصحراء غرة المحرم سنة 753هـ (1353م) وبعد سفرات طويلة شاقة واراحات في واحات صغيرة, اقتربت القافلة من وَلاّطَة (ايوالاين), واتباعا للأصول المرعية استأجر ابن بطوطة وبقية رجال القافلة النكشيف بمائة مثقال من الذهب. (والنكشيف اسم لكل رجل من قبيلة مسوّفَة يكتريه أهل القافلة, فيتقدم إلى ولاّطة يكتب الناس إلى أصحابهم بها ليكتروا لهم الدور ويخرجوا للقائهم بالماء مسيرة أربع).

قضى ابن بطوطة وقافلته ستين يوماً منذ أن خرجوا من سجلْماسة حتى وصلوا ولاّطة, ولما وصلوا البلدة جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفّل السـودان بحفظها.

المدافعون عن السواحل

كان الشمال الإفريقي, من المغرب إلى الإسكندرية, تنقط طريقه الساحلي رباطات يقيم فيها مدافعون عن الساحل. لكن ليس لدينا إشارة إلى أن هذه الرباطات كانت تستعمل لإقامة التجار داخلها, ولو اننا نعرف من رحلة ابن بطوطة, في انتقاله من المغرب إلى مصر, أن قافلة الحج التي رافقها أراحت أحياناً على مقربة من هذه الرباطات.

ونعود إلى ابن بطوطة لننقل عنه (إن المسافر العادي بتلك البلاد (الصحراوية) لا يحمل زاداً ولا اداماً ولا ديناراً ولا درهماً, إنما يحمل قطع الملح وحلي الزجاج الذي يسمّيه الناس النظم (مثل الأساور والمشابك) وبعض السلع العطرية, وأكثر ما يعجبهم منها القرنفل والمصطكى وتاسرغنت وهو بخورهم. فإذا وصل (المسافر, وهو غير التاجر, لكنه رفيق القافلة) إلى قرية جاء نسوان السودان بالأنلي, وهو حب, واللبن والدجاج ودقيق النبق والأرز والفوني, وهو حب مثل الخردل شكلاً, يصنع منه الكسكوسو والعصيدة). وعندهم يتم التبادل بين المسافر ونساء القرية.

أحاديث وأسمار

بقطع النظر عن حجم الخان الآسيوي وبيوت الكراء في ولاّطة, فإن التجار الذين يقيمون هنا أو هناك, لابد أن تدور فيما بينهم أحاديث متنوعة. وهي قد لا تختلف عن الأحاديث التي كانت تدور بين التجار في دكاكين وحوانيت زبائنهم من الهنود أثناء إقامتهم هناك أياماً أو أسابيع أو حتى شهوراً.

فهناك القصص التي تُروى, والأحاديث التي يتبادلها القوم والتي ينقلونها معهم, ولعل الشعر كان له في تلك الجلسات نصيب. ومَن يدري فقد يحدث, بين الوقت والوقت, أن يكون بين الموجودين عالم يتحدث عن شئون الإسلام.

بل أكاد أجزم أن أول باعة السلع الهندية من البهارات والتوابل هم الذين شرحوا للتجار الآتين من العرب ماهية هذه الأشياء وكيفية التعامل معها والإفادة منها - غذاء وزينة وتعطرا وعلاجاً.

واسطة الخير

ومن هنا, فإننا يتوجّب علينا أن نحسب أن التاجر كان ينقل إلى بلده, وينقل من بلده, أموراً تتعلق بالحياة الحضرية أو البدوية التي يعرفها ويعيشها إلى البلد الآخر, وإذا تذكّرنا أننا نتكلم عن قرون طويلة, كان التاجر فيها هو سبيل نقل شئون الطعام وأدوات الزخرف وقضايا الزينة, وأخذنا هذه الأمور مأخذ الجد من حيث تراكم الأحاديث والخبرات والمشاكل والعادات سنة بعد سنة, أدركنا أن أحد الأمور الرئيسية التي كان التاجر يقوم بها, إلى جانب التجارة, هو نقل العناصر الحضارية - طعاماً وأثاثاً وقصصاً وحتى أدبا.

ولم يبدأ التاجر هذا الدور في العصور الإسلامية - إن أول مَن حمل بضاعة من مكان إلى آخر كان يحمل فضلاً عن تجارته عناصر من حياة مدينته إلى الزبون الآخر ـ لكن أيام السيادة العربية والإسلامية والسيطرة للتاجر العربي والمسلم على هذه الطرق الواسعة كان دوره أكبر.

وحتى في الميدان التجاري بالذات كان له أثر آخر, وهو أثر مهم. إن الكميات من السلع التي كانت البيوت التجارية تتبادلها والتي أصبح مع الوقت يصعب حمل أثمانها نقداً - والنقد كان ذهباً أو فضة وهما معدنان ثقيلا الوزن, هذا الأمر حمل المتعاملين على الاعتماد على السفتجة (وهي أصل الشك) التي هي ورقة يطلب فيها صاحب محل في بلد من زبون له في بلد آخر, أن يدفع لحاملها مبلغاً معيناً. وهنا في رحاب الأسواق الاسلامية نشأت هذه الوسيلة التي يسرّت على التجار التعامل وتبادل السلع.

والسفتجة - الشك القديم - نقلة في التعامل التجاري كبيرة الأهمية.

ولنضف إلى ذلك أن البعض من التجار العرب وغيرهم الذين اضطروا إلى قضاء وقت طويل في الموانئ الهندية أو في سواها, كانوا يتزوجون من بنات تلك المدن ويقيمون فيها أسرا. ولا ريب عندي في أن الكثير من أنواع الطبخ وترتيب المكان وصنع الحلويات كانت تنتقل عن طريق حياة الأسر هذه من مكان إلى مكان. وأرجو ألا نستهين بمثل هذه الأمور عندما تكثر حالاتها ويطول أمدها.

التاجر ونشر الإسلام

على أن التاجر المسلم كان له أثر كبير يختلف عن كل ما أشرنا إليه ويفوقه أهمية وتأثيراً. إنه هو الذي يعزى إليه نشر الإسلام في رقاع كبيرة. التاجر المسلم كان, بسبب دقة تعامله وصدقه في البيع والشراء والقيام بفروضه الدينية قياماً صحيحاً وسلوكه الطيب مع زملائه وقرنائه ومجاوريه, هو الذي أدخل الإسلام في إفريقيا جنوبي الصحراء خاصة في منطقة مالي, وكان ذلك في القرن الخامس هـ (العاشر م), فقبل فريق الإسلام, وهؤلاء نقلوه إلى الجوار.

وفي غرب الهند كان للتاجر المسلم سبق نشر الإسلام هناك بسبب ما كان يبديه من لطف في المعشر والحديث وأمانة في البيع والشراء وصدق في المواعيد.

ومع انتشار التجار العرب المسلمين, من جنوب الجزيرة ومناطق الخليج العربي عبر الهند إلى سيلان (سرلانكا الحالية) وجزر الملايو وبعدها إلى الجزر الأندونيسية حملوا معهم أثمن سلعة للسكان - الإسلام.

وانتشار الإسلام حتى في التبت, المنطقة البرية النائية, يعود البدء فيه إلى التجار.

بعد ذلك يجب أن نذكر أن التاجر لا حد لاهتمامه بالبضائع والسلع, متى عرف أن ثمة سوقاً لها. ويحدّثنا التاريخ بهذه المناسبة أنه بعد أن انتشر الإسلام في المنطقة الإفريقية من السنغال غرباً إلى كانو شرقاً, وقامت ثمة مراكز للعلم والتعليم كان التاجر المغربي يعتبر الكتاب (المنسوخ طبعاً) بضاعة مهمة. وقد حملت مئات, إن لم يكن آلافاً, من هذه الكتب التي تعود إلى فترة القرنين الثامن والتاسع للهجرة (الرابع عشر والخامس عشر للميلاد) إلى الديار الإفريقية. وقد عثر على الكثير منها في مكتبات تلك المناطق الخاصة والعامة لما أخذ العلماء يبحثون عنها.

وقد أتيح لي أن أرى بعضا من تلك الكتب القديمة في النيجر لما زرتها أستاذاً زائراً في جامعتي زاريا وكانو سنة 1976.

وفي الختام يجدر بنا أن نشير إلى أن بعض التجار كان لهم همة في وصف البلاد التي وصلوا إليها في تجارتهم. ولن نطيل, فنكتفي بالإشارة إلى أقدم ما وصلنا من هذه وهو كتاب (أخبار الصين والهند) الذي وضع في سنة 237هـ/851 م, ومؤلفه هو سليمان التاجر.

كان سليمان تاجرا من سيراف, في الخليج العربي, وقد سافر إلى الهند والصين غير مرة بقصد التجارة.

وقد وصل إلى خانفو (كنتون الحالية) الميناء الرئيسي للتجارة مع العرب يومها. وإذ تعرف إلى هذا العالم الواسع فقد دوّن أخباره, فتحدث عن البحار الشرقية والطرق التي تعبرها وبعض الغرائب التي وقعت عيناه عليها وعادات أهل الصين وحالة الهند السياسية والحكومة في الصين والمجتمع الصيني والمجتمع الهندي ومجمل أخبار الهند والصين.

وقد جاء هذا كله في 24 صفحة من القطع الصغير.

 

نقولا زيادة