محاولة لاستعادة تاريخ فلسطين الحقيقي

محاولة لاستعادة تاريخ فلسطين الحقيقي

لم يعرف التاريخ صراعا يكاد يكون متصلا حول بقعة فوق أديم الكرة الأرضية, كما عرفه على ثرى فلسطين.. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أحد أمرين أو إلى الأمرين كليهما: أولهما أمر القداسة, إذ هي الأرض المقدسة عند أصحاب الديانات السماوية الثلاث, فلا عجب والحالة هذه, أن تكون محط أنظار المسلمين والمسيحيين واليهود على السواء. وثانيهما يرجع إلى الموقع الاستراتيجي المميز الذي جعل من فلسطين مركزا متوسطا بين حضارات العالم القديم.

ان احتلال فلسطين عبر التاريخ من قبل الغزاة لفترات طالت أم قصرت, كان مكتوبا عليه الاضمحلال والزوال, لأنه لم يكن في الأساس احتلالا استيطانيا على المدى البعيد.. بعكس ذلك الغزو الذي تعرضت له فلسطين من قبل اليهود في العصر الحديث, فهو يمثل هجمة استيطانية مركزة, مدفوعة بعبق التراث التوراتي الذي يجعل من هذه البلاد (أرض الميعاد), ويغذيها فكر صهيوني عنصري ينكر وجود أي شعب آخر غير (الشعب المختار).. كما ينكر وجود أي حضارة أخرى على أرضها غير حضارتهم.. وقد سخروا لهذا الاعتقاد وترسيخه في الأذهان كل ما أوتوا من قوة وتأثير, في محاولة لطمس أي أثر لوجود حضارة أو حضارات أخرى صاغت وجودا تكاملت جوانبه الحضارية على أرضها قبل طروء بني إسرائيل في أول وجود لهم فوق ثراها بقرون عديدة.

غير أنني سأتطرق هنا لبعض الأمور التي قد تلقي ضوءا, ولو يسيرا على التاريخ الحقيقي لفلسطين ـ أو لبلاد كنعنان كما كانت تسمى قديما ـ إذن حري بنا أن نتعرف على الحقبة التي عمر فيها الكنعانيون أرض كنعان.

تاريخ بلاد كنعان

يقول المؤرخون إن الكنعانيين جاءوا إلى فلسطين في أكبر موجة عربية خرجت من الجزيرة العربية في أواخر الألف الرابع وأوائل الألف الثالث قبل الميلاد, فاستوطنوا سواحل لبنان وفلسطين وسيناء.. كما انحدر جزء منهم إلى مصر.. وقد جاء الكنعانيون من سواحل الخليج العربي من الأطراف الشرقية للجزيرة العربية حيث كانوا يقيمون في باديء أمرهم.. وقد حمل الكنعانيون معهم أسماء المدن والأماكن من شرقي الجزيرة إلى بلاد الشام موطنهم الجديد.. ومما يدل على ذلك وجود أسماء أماكن وجزر ومدن وقرى في الخليج والساحل الشرقي للجزيرة تشابه أسماء مدن وقرى أقامها الكنعانيون في لبنان وفلسطين وغيرهما, مثل منطقة (كنعان) التي تقع على الساحل الشرقي من جزيرة العرب, وجزيرة (أرواد) وتسمى الآن (المحرق) وهي من جزر البحرين, وجزيرة (صور) على ساحل عمان, وجزيرة (صيدا) على الساحل الشرقي للجزيرة العربية, و(جبيل) علي ساحل الإحساء, وغير ذلك كثير.. وذكر بعض المؤرخين أن سفن الكنعانيين كانت تمخر عباب الخليج العربي قبل أن تنزل البحر الأبيض المتوسط, فكانوا يتاجرون مع الهند وإيران وسواحل الجزيرة العربية الجنوبية بل وإفريقيا.

ومن الذين قالوا بهجرة الكنعانيين من الخليج العربي (هيرودوتس) نقلا عن علماء صور الذين ذكروا له ذلك.. و(هيرودوتس) مؤرخ يوناني عاش خلال الفترة من 484 ـ 422 ق.م. وهو يلقب (بأبي التاريخ) وساح في بلاد الشرق الأدنى, ولما عاد إلى بلاده كتب تاريخ تلك الأقطار. ومنهم (استرابو) الجغرافي الروماني الذي عاش خلال الفترة من 64 ق.م ـ 19م. وقد أشار إلى المقابر الموجودة في جزر البحرين وقال إنها تشبه مقابر الفينيقيين, وأن سكان هذه الجزر يذكرون أن أسماء جزرهم ومدنهم هي أسماء فينيقية.. وقال أيضا إن في هذه المدن هياكل تشبه الهياكل الفينيقية الشامية.

أما عن الصلة بين الكنعانيين والفينيقيين, فهي صلة وثيقة جدا.. فالكنعانيون الذين نزلوا الساحل أمام جبل لبنان عرفوا بعد القرن الثاني عشر أو الحادي عشر قبل الميلاد بالفينيقيين. فالكنعانيون والفينيقيون شعب واحد نسبا ولغة ودينا وتمدنا.. وقد انقسم هذا الشعب إلى قسمين: الأول سكن فلسطين والثاني الساحل الشمالي من مصب نهر العاصي إلى جنوبي الكرمل.. ومع أن اسم الفينيقيين أصبح أشهر من اسم كنعان عليهم, فإنهم ظلوا محافظين على نسبهم الكنعاني, وبقوا يسمون أنفسهم كنعانيين ولا يرضون عنه بديلا.

حضارة الكنعانيين

أما عن حضارة الكنعانيين فحدث ولا حرج.. فقد كانت مدنهم في فلسطين خلال الألف الثاني قبل الميلاد وقبل غزو العبرانيين لها, تعج بمظاهر الحضارة والاستقرار, فقد مارسوا زراعة القمح والشعير والزيتون والعنب ومختلف أنواع الفاكهة والخضار, كما دجنوا الماشية والطيور.. ودأبوا على ذلك إلى حد دعا الناس آنذاك إلى أن يصفوا البلاد بأنها (تفيض لبنا وعسلا), وقد اقتبس العبرانيون هذا الوصف فشاع عنهم ونسب إليهم وذكروه في توراتهم في أماكن متعددة. ومارس الكنعانيون الصناعة على نطاق واسع نسبيا, وصنعوا أسلحتهم من البرونز والحديد, فتمكنوا بذلك من التغلب على أعدائهم, وصنعوا الفخار.. وشيدوا الأسوار كما أخذوا ينسجون الصوف ليصنعوا منه ملابسهم.. واستعملوا الخشب في الأبنية والأثاث, واستوردوه من إخوانهم الفينيقيين في لبنان.

ولعله من المناسب هنا أن نورد شهادة لكاتب يهودي أمريكي هو (موشيه مينوحين), إذ يقول في كتابه: (انحلال اليهودية في عصرنا): (منذ أكثر من أربعة آلاف سنة كما تروي قصص التوراة, عاش الكنعانيون في فلسطين. إن بعض عرب فلسطين الذين يعيشون الآن كلاجئين مشردين في الخيام والأكواخ في معسكرات خارج حدود وطنهم, هم من نسل هؤلاء الكنعانيين القدامى.. لقد بنى الكنعانيون المدن والقصور, واستعملوا الجياد والعربات, وأقاموا المعابد المزدانة بالأصنام.. لقد عبدوا الطبيعة.. وكانت بيوتهم مبنية بشكل جيد وبصورة فريدة في ذلك الزمن البعيد).

وكان الكنعانيون أصحاب ديانة معروفة, فكان إله الشمس (بعل) هو إلههم الأكبر, وهو إله الخصب والإنتاج, وكان (بعل) يسيطر على الرياح والغيوم والأمطار.. وقد كشفت الآثار في (أوغاريت) عن هيكل لبعل يرجع تاريخه إلى (2600 ق.م) وشكله أقدم نموذج بني هيكل سليمان فيما بعد على طرازه, وفكرة (بيت يهوه) عند اليهود مقتبسة من فكرة (بيت بعل) عند الكنعانيين.

وقد تكلم الكنعانيون لهجة أو لغة خاصة بهم مشتقة من العربية الأولى.. ووجد ضمن حفريات مملكة أوغاريت نماذج من الأبجدية المسمارية الخاصة التي كان الكنعانيون يستخدمونها, وهي أقدم أبجدية عرفت في تاريخ البشرية.

وقد دلت الحفريات أيضا على أن هناك مقارنات ومشابهات من حيث اللغة والأفكار بين أدب أوغاريت الكنعاني وبين كثير من أسفار التوراة.. من ذلك نجد التشابه في المفردات والأفكار والأوزان الشعرية والتراكيب الأدبية بين الأدب الأوغاريتي والمزامير العبرانية.

يقول العالم (جون جراي) عن وثائق أوغاريت الأثرية: (إن الدراسة التفصيلية لهذه الوثائق تكشف عن نقاط اتصال غزيرة بينها وبين التوراة.. وفوائدها في دراسة التوراة جمة.. فهي تسجل بصورة وثائقية عبادة الخصب عند الكنعانيين التي تأثر بها العبرانيون.. كما تسجل العادات الاجتماعية والعلاقات العائلية والفضائل المتبعة عند الإسرائيليين المقتبسة من الكنعانيين).

وفي هذا المعنى يقول المؤرخ (فيليب حتي): (إن كثيرا من خير ما تركه التراث الأدبي الكنعاني اقتبسه العبرانيون ودخل في كتاباتهم المقدسة.. وينطبق هذا خاصة على القطع الغنائية والحكم التي استعارها سفر (الأمثال) و(المزامير) و(نشيد الإنشاد), وعلى الأخبار الخرافية التي دخلت في سفر التكوين وفي قصص الأنبياء.. ولم يكن هذا الأمر معروفا إلى أن اكتشفت مدينة أوغاريت).

إن ما حصل بالنسبة لكتابة أجزاء كثيرة من أسفار (العهد القديم) أو (التوراة) كان أشبه بعملية اقتباس قام بها كتبة هذه الأسفار.. ونقول عملية اقتباس تخفيفا.. ولكن ليس هناك مبرر للتردد بوصفها أنها كانت أقرب إلى (السرقة الأدبية) منها لما يعنيه مفهوم (الاقتباس).. حيث إن الربانيين اليهود الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تدوين(العهد القديم) نسبوا (لتوراتهم) كل ما أخذوه من آداب وفنون المنطقة.. حتى أنهم عندما نزلوا أرض كنعنان جعلوا لغتهم لغة كنعانية.. قال إشعيا وهو يتنبأ بغلبة قومه على أرض مصر: (في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان) (سفر إشعيا 19: 18).

وهكذا يتضح لنا أن الكنعانيين العرب أسسوا حضارة مزدهرة في فلسطين وما حولها قبل أن يظهر الإسرائيليون على مسرح التاريخ.. وعندما دخل هؤلاء الإسرائيليون أرض كنعان في وقت لاحق وجدوا تراثا حضاريا متكاملا.. اقتبسوه في جوانبه المختلفة وضمنوه أسفارهم المقدسة ونسبوه لأنفسهم وهم لا يمتون إليه بأي صلة.

حقيقة العبرانيين

وقبل أن نختم هذه المقالة يجدر بنا أن نورد آراء بعض العلماء والمؤرخين في حقيقة العبرانيين الذين دخلوا أرض كنعان ـ أو فلسطين ـ ونسبوا الحضارة المزدهرة التي شهدتها المنطقة قبل مجيئهم, نسبوها لأنفسهم.

يقول أدولف لودز: (كان بنو إسرائيل منذ بداية تاريخهم المدون, وقبل دخولهم أرض كنعان, بدوا يرعون قطعان الماشية ويسكنون الخيام).

ويقول (ولز H.G.Wells): (لم يكن لبني إسرائيل أهمية تذكر في أيامهم مثلما أصبح تأثيرهم على تاريخ العالم فيما بعد). ويقول عن فلسطين في موضع آخر: (ما يسمى بفلسطين الآن كانت معروفة بأرض كنعنان وكانت مأهولة بشعب سام يدعى الكنعانيين, وهم أقرباء الفينيقيين الذين أسسوا مدن (صور) و(صيدا), وأقرباء الأموريين الذين أخذوا (بابل) وأسسوا بقيادة (حمورابي) الإمبراطورية البابلية الأولى.. بينما كان آباء اليهود آنذاك يعيشون حياة بدوية كرعاة في المنطقة الممتدة من بابل وحتى مصر).

وينقل روجيه جارودي في كتابه: (فلسطين أرض الرسالات الإلهية) عن العالم (نوث) قوله: (إسرائيل.. وجود اتحاد بين اثنتي عشرة قبيلة.. لم يكن ظاهرة حية إلا ابتداء من اللحظة التي احتل فيها البلد ذو الثقافة الفلسطينية.. وتاريخها لا يبدأ إلا على أرض فلسطين).

ونختتم أقوال هؤلاء العلماء بما قاله العلامة (غوستاف لوبون) عن المجتمع اليهودي: (لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة.. واليهود لم يأتوا قط بأي مساعدة صغرت أم كبرت في شتى المعارف البشرية.. واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ..).

ويقول في موضع آخر: (إن تاريخ بني إسرائيل لا يبدأ بالحقيقة إلا في عهد ملوكهم, فقد كانوا أقل من أمة حتى زمن شاؤول.. كانوا مجموعة غير منسجمة تتألف من قبائل بدوية صغيرة, تقوم حياتها على الغزو والجدب وانتهاب القرى الصغيرة حيث تقضي عيشا رغيدا بضعة أيام تعود بعدها إلى حياة التيه والبؤس).

وبعد.. هذه هي فلسطين القديمة, أو كنعنان كما كانت تسمى.. وهؤلاء هم الكنعانيون الذين أسسوا فيها حضارة مزدهرة, قبل أن يوجد بنو إسرائيل أو العبرانيون, وقبل أن يكون لهم دور على مسرح التاريخ.

ومهما حاولت الدراسات التوراتية الأمريكية والأوربية والإسرائيلية إسكات التاريخ الفلسطيني القديم باختلاق ماض تاريخي قديم لدولة إسرائيل الحديثة, فإن الحقيقة الناصعة تتمثل فيما قاله كيت وايتلام: (إن تاريخ إسرائيل القديمة يبدو لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني القديم).

 

أحمد عيسى الأحمد