عبقري فوق العادة

عبقري فوق العادة

عودتنا مجلتنا الحضارية «العربى» أن تغوص بنا في بحار العلوم والآداب والفنون، ولقد قرأت بعمق مقال الأستاذ (أمين الباشا) المعنون بـ (ليوناردو دافينشي الفنان الشامل) في العدد رقم (602) ولكم استمتعت بالموضوع الذي أوضح من خلاله الكاتب عبقرية ليوناردو شبه الكاملة، والتى مازالت حتى الآن موضع دراسات وأبحاث وتساؤلات حتى تحولت حياته - كما يؤكد الناقد التشكيلي (محمد صدقى الجباخنجي) في كتابه القيم (عاشوا للفن) - إلى «أسطورة تعج بالأسرار، فالمرجع التاريخى الوحيد الذي اعتمده الكتاب ألفه المهندس والمؤرخ الفني (جورجيو فاسارى) الذي بدوره اعتمد فيه على ما كتبه (فرنشيسكو ميلزي) حافظ وصية ليوناردو وصديقه المقرب».

وإن السر الأول وراء عبقرية ليوناردو أنه «ولد من رحم البؤس في قرية (فينشي)، ونشأ بين أحضان الأسى والشقاء بل ومن دون ذنب ظلت ولادته سفاحاً ووصمة عار طاردته طيلة حياته وحطت من قدره أمام الحاسدين».

يرى الكاتب في مقاله أن «ليوناردو لم يكن يعرف والده وترك بيت أمه فراح يطوف حيث ولد في أجمل مدينة إيطالية في فلورنسا مدينة الفنون إلى أن قُبل كخادم في مرسم حتى أتقن الرسم فاستقل واتخذ لنفسه مرسماً خاصاً» لكني أحب أن أضيف وأوضح أن ليوناردو انتقل مع عائلته في العام 1469م إلى فلورنسا لتحصيل العلوم والمعارف والفنون فدرس الآداب والرياضيات والموسيقى والتصوير واللغة، وأن أمه ولدته نتيجة لزواج غير شرعي بأحد الموثقين اسمه (بيرو) - طبقاً للفنان (حسين بيكار) في مؤلفه المهم (لكل فنان قصة) - «وما إن عرف اسم أبيه حتى بحث عنه ليجده قد مات تاركاً عشرة أبناء وبنتين من أربع زوجات، وقد استمات ليوناردو لكي يعترف إخوته به كابن شرعي، إلا أنهم خشوا أن يقاسمهم ثروة أبيهم الضخمة فوجد نفسه بلا نسب وبلا لقب فاختار لقب دافينشي نسبة إلى محل ميلاده بقرية فينشى».

وحين دخل محترف الفنان (فيروكيو) لم يمض وقت كبير حتى أصبح فتى الثالثة عشرة موضع ثقة أستاذه لاستعداده الفني الممتاز ولشغفه الكبير بالطبيعة باحثاً ومنقباً ومبتكراً أشكالاً من التربة الصلصالية غلّفها بقماش مرطب، ما جعلها تمتص ألوان ورائحة التربة نفسها ثم نقلها بألوانها وأشكالها على أقمشة صنعت خصيصا لكبار رسامي العصر، فرسم بدقة متناهية حبال المشبكات والكشاكش أو اختبار لعبة الألوان والظلال متعددة الأحجام، مما لفت انتباه أستاذه فأسند إليه مهمة تلوين أحد الملائكة في لوحة «عمادة المسيح» التي كان يعمل عليها الأستاذ فأبدع ليوناردو وعقد لسان أستاذه، فقد بدأ ملاك ليوناردو جميلاً حتى كاد يلغى كل ماعداه في اللوحة، فتحول الإعجاب إلى غيرة حين أدرك أن تلميذه تفوق عليه مما دفع (فيروكيو) إلى اعتزال الرسم نهائياً تاركاً مرسمه لليوناردو وتفرغ لفن نحت التماثل والصياغة المعدنية!

ينبغى أيضاً أن نشير إلى أن عبقريته الموسوعية تكونت نتيجة لقراءاته العميقة الموسوعية، فساعدته كتب سابقيه من علماء العصور الوسطى كما أسهمت بشكل كبير قراءاته لفلسفات أفلاطون وارسطو وكليو ميديس وبطليموس وإسترابون وأرخميدس وإقليدس وفيروفيوس وبليتوس. كما استفاد كثيراً من إنتاج وإبداعات علماء الشرق ومنهم (ثابت بن قره)، وإفادته أيضاً رحلاته غرباً وشرقًا لبلدان الشرق الأوسط بحثاً عن المعرفة وانشغالاً بالاكتشاف.

أما لوحة «العشاء الأخير» فهي من درر الفن الإيطالى وقد أمضى في رسمها ثلاث سنوات ورفعته حينها إلى مرتبة الفلاسفة لجودتها وقوتها التعبيرية عن نفسية تلاميذ المسيح، فاستطاع بذكاء خارق رسم تعبيراتهم المختلفة خاصة يهوذا الخائن، وكانت من ضمن أعمال كلاسيكية قدمت العون الفني لكثير من فناني القرن السادس عشر بنوا عليها إبداعاتهم وظلت مرجعا للدراسة في كل العصور.

لنا أن نعرف ايضاً أن كلمة «جيوكوندا» هي تأنيث لقب زوج صاحبة اللوحة الشهيرة (موناليزا جيرار ديني) زوجة الضابط (فرانشيسكو زانوبي جيوكوندو)، ويبدو أن سوء الفهم كان وراء الاعتقاد الخاطئ بأن اللوحة لرجل وليست لامرأة. ولعل سر الأحزان العميقة التي حفرها ليوناردو بريشته البارعة هو أنها تزوجت في السادسة عشرة من عمرها ذلك الضابط على كره منها، وكانت الزوجة الثالثة له، ولم يتردد في استغلالها وأن يقدمها عشيقة رخيصة كي يصل إلى أهدافه ويحقق طموحاته على حسابها، فدخلت مرسم ليوناردو بصحبته وبأمر من عشيقها قائد جيش فلورنسا الأمير (جيوليانو دي مديتشي) فكانت بسبب أنوثتها الطاغية وجمالها البارع شؤماً على نفسها. وبالرغم من كل أحزانها وغموضها وشرودها وموقف الضعف الإنساني الذي وضعت فيه رغمًا عنها، فقد استطاع ليوناردو بعبقريته الفنية أن ينتزع منها أجمل وأشهر ابتسامة عرفها التاريخ!.

محمد محمود فايد
أخصائي نفسي وكاتب وباحث