النجار الذهبي مختارات من الشاعر الكردي شيركو بيكه س

النجار الذهبي مختارات من الشاعر الكردي شيركو بيكه س

لم يعد الشاعر الكردي شيركو بيكه س مجهولاً تماماً بالنسبة لقرّاء العربية، ذلك أن مجموعاته الشعرية تتم ترجمتها إلى لغة الضاد الواحدة بعد الأخرى بحيث أمكن للقرّاء والمتابعين العرب أن يتعرّفوا إلى واحدة من أغنى التجارب الشعرية الكردية وأكثرها تفجّراً وتنوعاً وصلة بجذرها الحياتي والمكاني.

مَن يتابع مجموعات الشاعر المتعددة منذ «مرايا صغيرة» و«نغمة حجرية» و«مضيف الفراشات» وحتى «سفر الروائح» و«إناء الألوان» وغيرها لابد أن يلاحظ ثراء لغة الشاعر واتساع مروحة موضوعاته وخصوبة مخيلته، التي لا تكف عن ارتياد فضاءات وعوالم جديدة على مستويات الصور الطازجة والكشوف الرؤيوية المتغايرة في طبيعتها ونسيجها، إلا أن ما يوحّد هذه المجموعات على تباينها هو مصدرها القلبي وجذورها المكانية الطالعة من أحشاء تلك الجبال الشامخة والأودية السحيقة التي تتشكّل منها تضاريس كردستان وجغرافيتها الاستثنائية. فضلاً عن الغنائية الحارّة والمترعة بالعذوبة التي تسم لغة بيكه س ومناخاته وأسلوبه.

«الرعوي، المنشد، الجوالة في الطبائع المائية للكلمات، يحدث التراب بلسان الروائح التي هي قسم الكردي، وبلسان اللون الذي هو بذرة روحه، مأخوذاً في كل تدبير للصور بنازع المحتفل، كأنما يسرح في المذاهب كلها، المؤتلفة باجتهاد الهواء الفقيه». بهذه العبارات المثبتة على غلاف المنتخبات الشعرية الصادرة حديثاً عن دار الزمان في دمشق ومؤسسة ره نج في السليمانية تحت عنوان «النجار الذهبي» أراد سليم بركات أن يكرّم صديقه شيركو بيكه س مختزلاً بكلمات قليلة الكثير مما يمكن للقارئ الناقد أن يقوله حول هذه التجربة. وإذا كان لتلك الجمل القليلة المثبتة على غلاف الكتاب من دلالة فهي تُظهر إضافة إلى المودة الواضحة بين شاعرين كبيرين، على تباين في اللغة والتجربة، مدى قدرة الشعراء على سبر غور التجارب الشعرية الأخرى وتلمس جمالاتها الأسلوبية. وهو أمر لا يدعو إلى الاستغراب بأي حال لأن في كل شاعر حقيقي ناقداً حقيقياً يمكّنه من الوقوف على أسرار الكتابة وتفحص خصائصها ومكوناتها التعبيرية. ومَن يدقق في كلمات سليم بركات لابد وأن يعثر على معظم المفاتيح التي يمكن بواسطتها الولوج إلى عوالم بيكه س الغنية والشائعة بدءاً من صفة الرعوية التي أسبغها على صديقه مروراً بطبيعة شعره المترعة بالألوان والعناصر الحسيّة المختلفة وانتهاء بطابعه الاحتفالي المتصل على الأرجح باحتفالية المكان نفسه كما برغبة الشاعر في أن يكون منشد الجماعة ولسان حالها وحادي أوجاعها وتطلعاتها.

الذائقة الشعرية

يرد على الغلاف الأول لكتاب «النجار الذهبي» اسما كل من الكاتبين محمد عفيف الحسيني وسامي إبراهيم داود بوصفهما الشخصين المراجعين للكتّاب والمشرفين على صدوره بهذه الصيغة. ومع ذلك فنحن لا نعثر على أي أثر يذكر لداود داخل المنتخبات المترجمة، في حين أن الحسيني يكتفي بمقدمة سريعة ومبشرة لا تتناسب مع طبيعة الكتاب وصفته المرجعية شبه الجامعة. صحيح أن مقدم الكتاب يشير إلى الجهد الوافر الذي بذله في اختيارات القصائد التي تتناسب مع ذائقته الشعرية الشخصية، الأمر الذي تطلب أكثر من عام كامل من المشقة، لكن المناسبة كانت تتطلب - في رأيي - المزيد من التجول في شاعرية شيركو الشاسعة وتتبع تجربته ومراحل تطوره ونضجه. فالحسيني يفترض أن قارئ المنتخبات لابد وأن يكون متابعاً للمجموعات المنفردة الأخرى وملماً بتجربة الشاعر وسيرته الشخصية والإبداعية، ولكن ماذا لو كان العمل الجديد هو العمل الوحيد الذي يقع بين يدي قارئ بيكه س؟ وكيف له أن يعرف أي شيء يذكر عن حياة الشاعر وظروفه المعيشية، وعن حلّه وترحاله وسائر محطات سيرته الشخصية التي لا يرد أي تفصيل يتعلق بها في هذا الكتاب الجامع! أما إشارة مراجع الكتاب إلى بعض التعديلات اللغوية التي أجراها على الترجمات العربية المختلفة، فكان يمكن أن يوليها المزيد من التفاصيل وإيراد الشواهد لكي نتعرف - نحن القرّاء غير الملمين بالكردية - على طبيعة هذه التعديلات ومسوغاتها اللغوية والجمالية. على أن هذه الملاحظات الأولية لا تقلل من قيمة الجهد المبذول في تجميع القصائد المنشورة وفي اختيارها من بين الكتب الشعرية التسعة المنقولة إلى العربية من قبل مترجمين كثر من بينهم جلال زنكابادي وكريم ده شتي ومحمد موكري ودانا مصطفى وصلاح برواري وعبدالله سراج وعزالدين رسول وآزاد البرزنجي وفوزاد أحمد وشاهو سعيد.

لقد سبق أن أشرت إلى تنوّع الأساليب والمقاربات والموضوعات التي تصدّى لها شيركو بيكه س عبر مسيرته الشعرية الطويلة نسبياً، والتي اتسمت بالغزارة والقوة والتفجّر الغنائي. فمن حيث الموضوعات تحتل موضوعة الوطن المهدد والممزق بين الدول والكيانات الجزء الأكبر من أعمال الشاعر، وتستحوذ على قلبه ووجدانه ومصادر إلهامه. لكن بيكه س، وهو يتقاطع مع صديقه وزميله محمود درويش في غير زاوية ومكان، يعرف بحدسه العميق أن القضية الوطنية على أهميتها يجب ألا تشغله عن الأسئلة الأخرى المتعلقة بالوجود والمصير وقلق الكائن وهواجسه المختلفة، فيعمد تبعاً لذلك إلى توسيع مروحة كتاباته لتتناول الحب والزمن والغربة والمنفى والحرية بقدر ما تتناول موضوعات تفصيلية مماثلة تتعلق بالبيت والحجر والشجرة والكرسي. كأن بيكه س، وهو المصاب برهاب الوقوع في النمطية والتكرار شأنه في ذلك شأن سواه من الشعراء الحقيقيين، يتجنب ما أمكنه الركون إلى نمط بعينه أو طريقة واحدة في الكتابة، فيتنقل بين الأسطوري والواقعي، وبين اليومي والميتافيزيقي، وبين الشخصي والجماعي، بقدر ما يتنقل بين الملحمة والإنشاد الطويل حيناً، وقصيدة البؤرة أو المشهد أو الومضة الخاطفة أحياناً أخرى.

مرايا صغيرة

تشكّل مجموعة «مرايا صغيرة» المترجمة إلى العربية في أواخر الثمانينيات من القرن الفائت النموذج الأكثر وضوحاً للقصائد القصيرة وشبه القصيرة التي تعتمد على الحكاية أو الأسطورة كما على المشهد الانطباعي والفكرة الموجزة واللمّاحة كما في قصيدة «الشاهدة الوحيدة» على سبيل المثال: «تقاطع شارعين هو الصليب/ بقعة دم هي الجريمة الجديدة/ عصفورة على السلك هي الشاهدة الوحيدة/ والتي لن تدعوها أي محكمة أبداً». فالشعر هنا يتغذى من المشهد اليومي كما في البديهيات، التي لا يلتفت إليها أحد سوى الشعراء الذين يخرجونها من مألوفيتها بقوة الموهبة والانتباه ويحوّلونها إلى سؤال وجودي أو فلسفي. وثمة مرايا أخرى لأحداث ووقائع ووجوه تختزن الكثير من المفاجآت والمفارقات والمواقف الإنسانية المشبّعة بالسخرية الجارحة، كما هو الحال مع قصيدة «حكمة» التي تتكرر نظائرها في القصائد القصيرة المماثلة «ثمة أشياء كثيرة ينخرها الصدأ/ يلفها النسيان فتموت/ مثل التاج والصولجان والعرش/ ثمة أشياء أخرى كثيرة/ لا تهترئ ولا يلفها النسيان/ مثل قبعة وعصا وحذاء شارلي شابلن».

يتضح من مثل هذه النماذج أن قصيدة شيركو بيكه س لا تتغذى من المعرفة العقلية المباشرة ولا من العمليات الفكرية، التي تتوالد في الذهن، بل من الالتفات الذكي إلى الحياة العادية والأشياء البسيطة والواضحة والقريبة من متناول القرّاء. إلا أن هذا النوع من الكتابة يصعب أن يحافظ على سوية واحدة أو منسوب مرتفع من الإحالات الرمزية اللماحة، لذلك نلمح تفاوتاً واضحاً بين القصائد والمقطوعات التي ينزلق بعضها إلى مستوى تقريري وتعليمي عادي «أحب جميع المعلمين الطيبين في وطني/ لكن أحبهم إلى قلبي/ ذلك الذي علّمني أول الحروف/ كذا أحب جميع شهداء وطني/ لكن أحبّهم إلى قلبي/ أولئك الشهداء الذين طاردوا لأول مرة/ الخوف في بلادي».

وما ينسحب على قصائد «مرايا صغيرة» ينسحب بالقدر نفسه على قصائد المجموعة اللاحقة «ساعات من قصب» التي تعتمد التقنية نفسها المستخدمة في المجموعة السابقة والقائمة على الاختزال واصطياد البرهة العابرة والدمج بين الشعر والسرد، بحيث تتحول القصائد إلى نوع من الحكاية المعبّرة أو الأقصوصة.

مضيف الفراشات

في «مضيف الفراشات» تنحو قصيدة شيركو بيكه س نحو الإطالة والنمو الداخلي للمشاهد، والأخيلة التي تعمل على استعادة صورة الوطن المغيب أو المعذب وإعادة تركيبه من خلال اللغة. وإذا كان الشاعر قد حاول عبر مجموعاته السابقة العمل على أسطرة الواقع من خلال إقامة علاقات متخيلة بين الطبيعة والإنسان من جهة، وبين عناصر الطبيعة نفسها من جهة أخرى، فإنه يعمل في هذه المجموعة على البناء الملحمي المركب والمتناسب مع التاريخ الملحمي لشعبه الكردي، الذي ما انفك يحمل صخرته إلى قمة الجبل ثم يفقدها مرة ثانية، تماماً كما حدث لسيزيف في الأسطورة اليونانية. في وطنه اللغوي، هنا يستعيد بيكه س الكثير من حكايات الفلاحين والمقاولين والشهداء والمتصوّفين والشعراء ورموز الماضي محولاً قصيدته الطويلة إلى نشيد للألم والحب والترجيع والتوحّد بالطبيعة. بحيث يبدو الجسد الإنساني بأعضائه المختلفة امتداداً لنباتات الأرض وتجلياتها المختلفة. كما تبدو الطبيعة أماً وطوطماً ومهداً وقبراً ومدرسة للحياة في الآن ذاته: «جئت كي تعلمني الريح كيف أهدهد النهر/ جئت كي يعلّمني الحجر كيف أنبت فوقه/ جئت كي يعلّمني الجذر كيف أصل قلب الأرض/ جئت كي يعلّمني الورد كيف تزهو القصيدة/ جئت كي يعلّمني الطير كيف تطير رؤياي/ لقد جئت لكي تشبَّ فيَّ النار العظيمة لحب الوطن».

قد تكون مجموعة «نغمة حجرية» في الكثير من وجوهها امتداداً باللغة والأسلوب وتقنية التعبير للمجموعتين الأوليين «مرايا صغيرة» و«ساعات من قصب». فالقصيدة هنا أقرب إلى الومضة والخاطرة والأقصوصة المتخيلة والواقعة القائمة على المفارقة، والتي غالباً ما تحمل نهايات لافتة ومباغتة أقرب إلى الضربة الأخيرة لريشة الرسام أو إلى توقيع الرسام على لوحته. وهو ما يظهر بوضوح في قصيدة «ضابط عادي» الذي يُمنح نجمة على كتفيه كلما قتل نجمة في السماء أو على الأرض بحيث لا يبلغ رتبته الأخيرة إلا بعد أن تنطفئ النجوم برمتها أو تتحول البلاد إلى «مملكة أرامل». وكذلك الأمر في مجموعة «قناديل صغيرة» التي تتصادى حتى على مستوى العنوان مع مجموعة «مرايا صغيرة» التي استهل بها الشاعر تجربته الشعرية، في حين أن المجموعتين معاً تعكسان رغبة الشاعر في تقديم خلاصات سريعة ومكثفة لمعاناته الشخصية، كما لمعاناة شعبه، ولرؤيته إلى العالم. وإذا كان شيركو بيكه س يتقاطع مع محمود درويش من حيث تحوّله إلى رمز لشعبه ومجسّد لنضالاته وقضاياه أو من حيث طابع كتابته الملحمي والغنائي واستلهامه الدائم للطبيعة، فإنه يتقاطع من جهة أخرى مع نزار قباني في النأي بقصائده عن التعقيد والغموض المستغلق وفي استخدام تقنيات التكرار والتوليد الصوري واصطياد المفارقة والعود على بدء: «لا مثيل للوحتي/ فقد رسمت الخرير لا الموجة/ رسمت هيبة الجبل لا الجبل، ابتسامة الطفل لا الطفل/ بكاء الخبز لا الخبز/ صراخ الحجر لا الحجر/ رسمت حب حبيبتي وليس حبيبتي!».

على أن الحديث عن تجربة شيركو بيكه س لا يمكن أن يستقيم من دون الإشارة إلى مجموعتيه الفريدتين إلى حد الإدهاش «سفر اللوائح» و«إناء الألوان». فالمجموعتان كما يظهر من عنوانيهما تشتغلان على حاستين مهمتين من حواس الإنسان الخمس هما الشم والبصر. وإذا كان من السهل على شاعر متمكن وموهوب أن يقارب كلا من الحاستين عبر قصيدة أو مقطوعة واحدة، فإنه ليس من السهولة بمكان أن تتحول كل منهما إلى عمل شعري ملحمي وغني بالمشاهد والرموز والإحالات الدلالية والنفسية. ففي «سفر الروائح» يستنفر الشاعر كل ما تختزنه ذاكرته وأنفه من عبق الأرض وشذى أزهارها ونسائها وشتاءاتها الأولى وصولاً إلى روائح الدماء والمجازر وزنخ المرافئ واحتراق الفراشات والأطفال الرضع والكتب المهملة. وفي كثير من الأحيان لا تعود الرائحة متصلة ببعدها الفيزيولوجي الحسّي وحده، بل تتحول إلى طريقة خاصة في استرجاع العوالم المفقودة والسعادات الضائعة والنساء الغاربات والقصائد المنسية. وقد تكون «سفر الروائح» في الكثير من جوانبها هي المعادل الشعري لرواية زوسكند الشهيرة «الوطر» التي تحتفي على طريقتها بتلك الحاسّة المهملة نسبياً وتجعلها ممراً للعبور من الشهوة إلى الجريمة، ومن تألق الحياة إلى ضراوة الموت. أما في «إناء الألوان» فيستنفر بيكه س كل ما أوتي من نعمة التحديق في الأشياء والكائنات من أجل الاحتفاء بجمالات العالم وجغرافيا الشهوات وتضاريس الوطن المدهشة، منافساً بذلك أمهر الرسامين وأكثرهم قدرة على استنطاق الألوان والمرئيات. وإذا كان لي من ملاحظة على معدّي الكتاب، فهي تتعلق بالمساحة القليلة المخصصة لهذين الكتابين الرائعين اللذين أعتبرهما أفضل ما كتبه الشاعر على مستوى المقاربة والتفجّر الداخلي وبراعة التأويل.

لابد من الإشارة أخيراً إلى الشبه الشديد بين شعر شيركو بيكه س وبين حياته، بحيث تبدو قصائده لصيقة بعذابات روحه وجسده إلى أبعد الحدود. وإذا لم أكن قد تطرقت في هذه المقالة لشعر المرأة والحب عنده، فليس لأنه لم يخصص لهما الكثير من اهتمامه، بل لأن ذلك يتطلب مقالة أخرى ومعالجة أكثر استفاضة. وهو لم يكتف بإفراد قصائد مستقلة للنساء اللواتي أحبهن على امتداد حياته، بل تبدو قصائده جميعها مخترقة بذلك السهم الوردي الأخّاذ الذي تسدده الأنوثة باستمرار إلى قلب الشاعر وروحه المهددة دائماً بالرعب والغربة والعطش.

-----------------------------------

أشكو الفراق إلى التلاقي
وإلى الكرى سهرَ المآقي
وإلى السُّلوِّ تفجُّـعــي
وإلى التصبُّر ما أُلاقـي
وإلى الذي شطـتْ بـه
عني النَّوى طول اشتياقي
وطوتْ حشايَ على الجوى
لما طوتْه يـدُ الـفـراق
صبراً فـرُب تـفــرقٍ
آتٍ بقـربٍ واتـفـاق

ابن الرومي

 

 

عرض: شوقي بزيع