صمت الجدران

صمت الجدران

على عادته كل صباح, استيقظ مبكّراً بسبب الضجة والأصوات التي تأتيه من الطابق العلوي, لكن بوادر غضبه تبددت بسرعة, وسرى في أوصاله إحساس بالراحة عندما تناهى إليه صوت بوق سيارة تستحث سكان الطابق العلوي على النزول. يعيش وحيداً مع كتبه وأوراقه, يعشق الهدوء والصمت النديّ وكثيراً ما جافاه النوم أو ألقى كتابه بنزق مع تصاعد الضجيج, وهرع إلى باحة المنزل صارخاً بهم ليخففوا من غيّهم, مطلقاً اللعنات على هذا البيت المسكون بالعفاريت..!

تناوم وهو يسمع تزاحم أقدام الصغار تهبط على السلم في جلبة تعلن غبطتها في أوان لحظة السفر. وحمد ربه على بقائه كل هذه السنوات وحيداً لا ينغّص عليه أحد نعمة الوحدة.

انطلقت السيارة تقلهم مغادرين في أفواج, فاعترته رغبة في احتضان جدران غرفته, وسعد بقمرته المضيئة وبسكونها وصمتها الثمين, وحانت منه نظرة عتب إلى السقف الذي بدا يعتذر بذلة وانكسار عن الأيام التي حفلت بصخب الصغار الذي ترامت أصداؤه بين الجدران وفي أرجاء المسكن والجسد ليصبح مزيجاً خانقاً من الخبط والدق المنصهر بالحرارة, والارهاق يخترقه ويضغط على صدره كصخرة ثقيلة تكتم أنفاسه.

في اليوم الأول, صار قادراً على الانفراد بنفسه, خلا إلى مكتبه وأوراقه بشغف كبير مستمتعاً بالهدوء, ونام في سريره دون أن تجفله صرخات قاطني الطابق العلوي أو تفزعه كوابيسها المشتعلة بالجحيم.

رحلوا إلى البحر في سفر ربما يطول, لاشك في أن العفاريت الصغار يعبثون الآن كما يحلو لهم في إجازة تنامت مع أحلامهم الصغيرة وحالت دونها الظروف مرات, وقد عمل هو بحماس على تحقيقها, لا ليقضوا أوقاتاً طيبة شأن أغلب عباد الله فقط, بل ليتمكن هو أيضاً من البقاء وحيداً ينعم بالراحة والهدوء اللذين لا يعكّرهما الضجيج. في يومه الثاني كان لايزال غارقاً في عسل الوحدة المعشوقة, وطقسه المحبب عندما اكتشف إهماله لقطته الأليفة في الأيام الماضية, بالرغم من أنه لم يكن ينسى العناية بطعامها أو شرابها, ناداها وهو يجلس لمكتبه, فاقتربت تتمسّح بساقه ثم قفزت بتشجيع من نظراته الحانية لتجثو أمامه أمام الطاولة قرب أوراقه ملقية برأسها على قائمتيها الأماميتين, ربت بكفه على ظهرها, بدأت تهر وهي ترقب نصف غافية بنظراتها الكسلى حركة القلم بين أصابعه.

في اليوم الثالث, أدرك أسباب الصداع الذي كان ينتابه, وتساءل وهو يبتسم لنفسه: كيف مرّت الفترة الماضية قبل سفرهم دون أن يتعرّض لاحتشاء أو نوبة قاتلة...? الواقع أنهم كانوا معتادين على الخروج لزيارة الأقارب والأصدقاء, مثقلين بالواجبات الاجتماعية, وكان هذا يمنحه وقتاً إضافياً, كانت له أيضاً الأوقات المتأخرة من الليل حين يهجعون للنوم فيفرغ لكتبه, وقد خفّ عليه صداعه, بينما وزّع ساعات نهاره بين العمل والنوم والتشاغل خارج البيت فيما يعتقد أنه تافه من الأمور.

حين غادروا المنزل, كانوا يرغبون في وداعه, ولكنه سمع أصواتهم المتزاحمة مع خبطات أقدامهم وهي تهبط السلم, زعق الأكبر (عمو إلى اللقاء...), ولثغ الأوسط مقلّداً أخاه... بينما بغمت الصغرى ذات العامين تجاري أخويها: (ا... ا... نو... نو...).

لم يكن يبخل عليهم ببعض وقته مصطحباً إياهم في نزهات قصيرة إلى الحديقة المجاورة أو إلى مدينة الألعاب, وكان ينفحهم بقطع البسكويت والسكاكر, شعر بالخجل لتجاهل أصواتهم, ثم حين استجاب متأخراً لرغبتهم في وداعه وخروجه خلفهم متثاقلاً ليؤدي مهمة يعتقد أنها شكلية ولا ضرورة لها, وإذا لم يدركهم أحس وهو يشيع السيارة ??المبتعدة بأسف حقيقي سرعان ما تجاوزه بفرحته لوحدته التي أصبحت حقيقة.

انقضت بضعة أيام قبل أن ينجز شيئا ذا أهمية من مشاريعه الكثيرة والمؤجلة دائماً, خط بضع صفحات قبل أن تعاوده نوبات صداعه أكثر, جرّب العديد من المهدئات وأنواعا جديدة من المسكنات, ثم توقف عن الكتابة ولاذ بكتبه يدفن في صفحاتها أوجاع صدغيه النابضة.

مضت الأيام التالية ثقيلة باهتة, افتقد فيها إحساسه بالراحة وأصبح مسكوناً بالتوجس والقلق, حاول الخروج من حالته بمغادرة المنزل والمكوث ساعات طويلة مع شلة المقهى, يجلس صامتاً على غير عادته, يغرق في هذرهم وثرثراتهم, ولم تجد محاولاتهم ولا طرائفهم المتكررة في استعادته من شروده, ولم يفاجأ حين تناهى إليه صوت أحدهم: أنت شبه نائم, اذهب إلى البيت لترتاح...!

وعندما غادر المقهى, تلقفه الشارع بوحشته وأنواره الكابية, ولا يدري لم أحسّ بالضآلة والضعف, إلا أنه تمنى أن يطول الطريق أكثر من المعتاد.

في البيت وقف في الفسحة السماوية رافعاً رأسه إلى الطابق العلوي حيث يقطن شقيقه وأسرته, وتذكر أساليبه المبتكرة فيما مضى لإيقاف عربدات الصغار فوق رأسه عندما لا يستجيبون لصرخاته أو يتجاهلونها, كان يقوم بفصل التيار الكهربائي عن طابقهم, فالقواطع لديه في الأسفل, عندها فقط كانوا يهرعون مستفسرين وقد أدركوا ما يرمي إليه, يبتسمون بخبث, ثم يتعهّدون بالتزام الهدوء مقابل إعادة النور, لقد أصبحت هذه وسيلته الوحيدة لإيقاف تداعي البيت.

خرج إلى الشارع ووقف على الرصيف يلفّه إحساس بالندم, لكن لم تستطع ضوضاء الحي أن تخرجه من غربته, أغنية رديئة تنبعث من مسجل في دكان البقالة القريب تزيد من توتره.

يحس بدفء أكفهم الصغيرة التي لاتزال ساخنة في راحة يده, وهو يصطحبهم لشراء الحلوى, العفاريت صارت لهم وحشة.

يلوذ بغرفته من جديد, تتيه نظراته على الجدران والكتب المتناثرة, في كل مكان, على السرير وفوق الطاولة وعلى الأريكة, أدوات الشاي الفارغة إلا من أعقاب السجائر, سمات الخواء والفراغ توسم المشهد, جلس إلى الطاولة محاولاً الكتابة, وأحسّ بأنه تخاصم وكل هذه الأوراق والسطور في ليال مضت.

اقتربت القطة تتمسّح به يغريها صمته, أبعدها برفق فوقفـت تنـظر إليه وكأنه غريب عن المكـان, لا تجد تفـسيراً لما هو فيه, فـقفزت بجانبه على الأريكة جاعلة مسافة بينهما.

بدا له كل شيء باهتاً وهو يجلس وحيداً, صامتاً مضطرب الروح, تناول كوباً من الماء محاولاً كتم الضجيج المروع في أعماقه, راودته رغبة في الصراخ, في الوقت الذي ركضت فيه القطة مسرعة باتجاه باب الغرفة نحو قط متسكع اقتحم المكان, ماءت بلهفة ولطافة بينما اقترب منها الآخر وهو يتمطى, دنت منه تتشمم أنفه بغية التعرف به, استدار موليا وهو يدور بغرور فتبعته مستجيبة لرفقته.

كان ممدداً على سريره يحلق ذاهلاً في سقف الغرفة الذي بدا قبيحا أجرد من كل مألوف..!

فجأة أحسّ أن دفقة قوية من الضوء دهمت النافذة وانتشرت في الغرفة وسمع غير مصدق أصوات صرخاتهم ووقع أقدامهم الصغيرة تصعد السلم, وصيحاتهم الحارّة تناديه لتطمئن على وجوده في المنزل, اتسعت عيناه وبدأ يتسرّب إلى أعماقه دفء لذيذ, وابتسم من قلبه وهو ينظر إلى السقف الذي بدأت تسري فيه الروح.

 

تركي رمضان