الرءوس الحليقة عبدالفتاح عبدالسلام
"حادث مروري... كسر بالساق اليمنى وسجحات في مختلف أنحاء الجسم..." هكذا دون الشرطي
في محضره وهو جالس على مقعد خشبي موضوع بجانب سريري. وأضاف بنبرة قوية وهو يقف: "
إنك تتكلم الألمانية بطلاقة لم نعهدها في الأجانب... حقيقة لا نستطيع تحديد ما إذا
كان الحادث متعمدا أم نتيجة خطأ.. أو إهمال..." وأضاف وهو متجه إلى باب العنبر "
عليك بالحذر.... تجنب الشوارع التي ليس بها رصيف... ". شكرته واستسلمت للصمت من
جديد. شريكي في العنبر رجل عجوز ضخم الجثة، رأسه ملفوف بضمادة وساقه اليسرى معلقة
بحبل مشدود إلى السقف. كان يبدو نائما طوال الوقت، وأحيانا كنت أرى عينيه الصغيرتين
ترمشان إلى السقف أو النافذة وهو يهمهم ويتنحنح. هو قطعا لم يحس بقدومي للعنبر، فلم
أشعر أنه حرك رأسه أو نظر ناحيتي. رغم رقدتي المتعبة فقد تمنيت أن تكون زوجتي
بجانبي تحدثني وأنا أستمع، فقد تعودت على لغتها الصرفة، ويداخلني إحساس غريب بأنني
أصبحت أكثر حوجا لها مما مضى. كان الوقت مساء وجهاز التليفزيون المعلق في ركن
العنبر يبث شريطا ملونا لأخبار العالم بلا صوت. تمنيت ألا يعرض هذا الجهاز الكئيب
أشباحا أهلكتها المجاعة في إفريقيا كما تعودت أن أرى في منزلنا الواقع في ضواحي
هذه المدينة كل يوم. فقد كانت زوجتي عند عرض مثل هذه المشاهد تتجه محتدة وتقفل
الجهاز متعللة بأن هذه المشاهد ستخلق عقدا لا داعي لها لابنتنا الوحيدة والتي أصبحت
يافعة الآن وناضجة أيضا رغم بلوغها الخامسة عشرة. من حسن الحظ أن تليفزيون المستشفى
عرض معارك تدور بالبنادق والمدافع في بلد ما لم اهتم بمعرفته، وعرض أيضا صورا نظيفة
لعرس أميرة بريطانية أو سويدية لست أدرى، وعندما آلمني عنقي من المشاهدة استدرت إلى
الجهة الأخرى المقابلة للحائط وعيناي مفتوحتان. من الغريب أن الصحف لم تتناول
حادثتي كما درجت هذه الأيام. زوجتي علقت على ذلك بأن كثيرين يعتبرونه حادثا عرضيا
يمكن أن يحدث كل يوم ولأي شخص، فالحوادث المرورية تقع على مدار الساعة، إذن من
الواضح أن هناك تعتيما حتى لا تغضب الجماعات المتطرفة وحتى لا تحرج الجهات الأمنية.
وزوجتي غاضبة مني لأنني لم أستطع التعرف على الجناة أو وصفهم للشرطة، فقد قالت " هل
يعقل أن يصدمني شخص بدراجة هوائية ولا أعرف من هو؟ ". زوجتي التي هي من أب ألماني
وأم ألمانية قح ربما لن تسكت على ذلك، سوف تثير الأمر على كل الأصعدة. ففي الساعة
الثانية من بعد ظهر ذلك اليوم رأيت أن أسير على قدمي إلى حيث ألحقنا ابنتنا إيميلي
بالمدرسة الثانوية في حي ويلهيلم البعيد. كنت وحدي بالمنزل صباح ذلك اليوم المطير،
فأنا بلا عمل حتى الآن رغم مرور خمسة أشهر على قدومنا إلى مسقط رأس زوجتي للاستقرار
نهائيا بعد أكثر من خمسة عشر عاما قضيناها معا في بعض بلاد الشرق الأوسط الغنية،
حيث كنت أعمل طبيبا وهي ممرضة، دائما بنفس المستشفى. وعند قدومنا إلى هذا البلد
فوجئنا بأن سوق العمل قد ضاقت وليس هناك أمل قريب بالالتحاق بأحد المستشفيات بهذه
المدينة التي درست بها وأعرفها جيدا وفيها تزوجت. فضلت ذلك اليوم أن أسير على قدمي
لأعود بإيميلي، في استرجع سنين خلت. هذه المدينة الرائعة لا تشيخ أبدا. كنت في ذلك
الزمن البعيد أذرع شوارعها طولا وعرضا، وحدي دائما، متجنبا ركوب الترام. ربما خوفا
من العيون القريبة التي تحدق فن. سرت في شارع الكودام شتراسه، الشارع هو، لم يتغير،
يشقه قضيب الترام إلى نصفين، نفس الترام بلونه الذهبي البراق يسير محدثا أزيزا
مكتوما ورتيبا. وخطوت على الرصيف الخالي من المارة تقريبا وأنا في طريقي إلى
المدرسة. كان هناك ولدان أو ثلاثة يمتطون دراجات هوائية متجهين قبالتي. الشيء
الوحيد الذي أثار انتباهي أن رءوسهم كانت حليقة بصورة مضحكة، لا أدري إن كان صدمني
واحد منهم أو إثنان. كل ما أذكره أنني طرت في الهواء وسقطت على الجانب الترابي
المحاذي للرصيف.... وبعدها أفقت في المستشفى ورائحة المطهرات تملأ أنفي والممرضات
بثيابهن البيضاء النضيدة يرمقنني بهدوء وصمت. لم يسألني أحد، وأدخلوني في نهاية
المطاف إلى هذا العنبر حيث يرقد الرجل العجوز. لا أعلم إن كان المارة أو راكبو
السيارات قد انتبهوا للحادث أم لا ؟، مع أن زوجتي تصر على أنهم بالتأكيد وقفوا
يتفرجون ولم يهتموا بملاحقة الجناة... أو إسعافي في الوقت المناسب. ما حيرني فعلا
أنني طريح نفس المستشفى الذي تدربت فيه شهور، قبل تخرجي، مستشفى " برتز ويلهيلم "
العريق. أين اختفى كل أولئك القوم الذين عرفتهم زمنا هنا ؟، أين ذلك البواب الضخم
الذي لم أعد أتذكر اسمه مع أنه كان يصافحني كل صباح بحرارة ويودعني آخر المساء. كان
مولعا بالملاكمة وكان يظنني أمريكيا ويعتقد أنني أجيد الملاكمة كما أجيد المشي. كان
يزودني بمجلات وقصاصات لمباريات " محمد على كلاي ". والغريب أنني لم أحاول مطلقا أن
أبين له خطأ اعتقاده، بل كنت أتظاهر بالاهتمام مثله بالملاكمة وأخبارها. خطر لي أن
الرجل الراقد على السرير المجاور ربما يكون البواب القديم نفسه، غير أني استبعدت
مثل هذا الاحتمال رغم وجود شبه بين الاثنين. قطع على حبل تفكيري دخول أمرأة عجوز
رقيقة الجسم تشع عيناها الخضراوان من وسط وجه مجعد. اتجهت المرأة إلى سرير الرجل
المصلب وطبعت على جبينه قبلة صامتة، لا بد أنها زوجه. فتحرك الرجل وتنحنح وندت عنه
حشرجة لأول مرة " 000 اللعنة.. لا بد أنهم حقنوني بذلك المنوم 00 ". خطر لي أيضا أن
الصوت هو صوت البواب القديم نفسه.. الصوت الأجش. لاحظت زوجه أنني اتطلع ناحيتهم
فابتسمت وتناولت من كيسها تفاحة حمراء وقدمتها إلي بأدب وهي ساكتة. شكرتها، فبهتت
المرأة من تلفظي بالألمانية ووقفت قبالتي وسألتني " ماذا جرى لك ؟ " فأجبتها
باختصار " حادث "، ولم أشأ الاستطراد، فقد كنت متشوقا لاكتشاف صديقي القديم. فأشارت
إلى زوجها " زوجي أيضا أصيب في حادث... هو يرقد هنا منذ يومين... صدمه سائح أجنبي
وهو نازل من الترام..."، فبادرتها دون وعي "
وهل تعرفتم عليه ؟". فهمست " كلا.. شخص مهذب... لا أعتقد أنه من منطقتك.. نزل من
سيارته بنفسه واتصل بالشرطة.. ". وهنا صاح زوجها العجوز من بين لفافاته ".. اللعنة
على هؤلاء الأغراب.. لا بد من طردهم...". سكتت المرأة ورمقتني بنظرة معتذرة
واستدارت إلى حيث زوجها. جلست إلى جانبه ممسكة بيده وهي تهدهده كطفل صغير. كان
جسمها النحيل يخفي وجهه عني. من حسن الحظ أن التليفزيون الصامت لم يكن ساعتها يعرض
سوى صور جميلة وملونة.