اللغة حياة

اللغة حياة

بعض المصحّحين يضيعون الجهات

في كتابين من كتب الأخطاء الشائعة رأيان متناقضان: يوجب الأوّل استعمال اسم الجهة مجرّداً إذا قُصد به قُطر بعينه، فيقال، مثلاً: شمال إفريقيّة، واتحاد جنوب إفريقيّة، ويوجب، عند تحديد الجهة بصورة مطلقة، إدخال ياء النسبة على اسم تلك الجهة فيقال، مثلاً: شماليّ آسيا أو كندا.

المقصود بالقطر بعينه، على الأرجح، ما يكون علَماً من البلدان، مركّباً تركيباً إضافيّاً، من اسم جهة من الجهات واسم منطقة جغرافيّة، ولا نجد علاقة بين العَلَميّة ووجوب النسبة أو التجرّد منها، ولا نلفي فرقاً بين علميّة البلد وعلميّة القارّة. أمّا الرأي الثاني فيقضي، خلافاً للأوّل، بترك النسبة كليّة، كيلا نعدل عن الموصوف إلى الصفة، ويوجب أن نقول، مثلاً: تقع يافا جنوبَ حيفا، لا جنوبيّها. وفي الإشارتين خطأ، فضلاً عن إرباكهما للمستعمل.

لكن ماذا تقول مصادر اللغة؟ في «كتاب» سيبويه: «ومثلُ ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال شرقيُّ الدار وغربيُّ الدار، تجعله ظرفاً وغير ظرف»، أي تنصبه على الظرفيّة أو تجعله وصفاً، وقد استشهد سيبويه لذلك قولَ جرير: «عِنْدَ الصَفاةِ التي شَرْقِيَّ حَوْرانا»، وقول بعضهم: «دارُه شرقيَّ المسجد» (حرّك المحقّقون شرقيّ الثانية بالضمّ، لكنّهم حرّكوها في موضع آخر من «الكتاب» بالفتح، وهو ما اخترناه). وجاءت أسماء الجهات في «الكتاب» كلّها منسوبة إذا كانت مضافة إلى أسماء المواضع، وغير منسوبة إذا كانت خلاف ذلك، نحو: منازلُهم يميناً أو يساراً أو شمالاً.

وماذا في الاستعمال؟ لقد استوت عند العرب النسبة والتجرّد منها في تعيين الجهات المضافة إلى المواضع أو إلى ما يكون بمثابة المواضع، فممّا استُعملت فيه النسبة قول النبيّ في المسيح بن مريم: «يَنْـزلُ عندَ المنارةِ البيضاء شرقيَّ دمشق»، وقول أبي دؤاد الإياديّ: «تنفي الحَصى صُعُداً شرقيَّ مَنْسِمها»، وقول جرير الذي سبق ذكره، وممّا استُعمل مجرّداً قول كُثيِّر عَزّة: «ومَرَّ فأَرْوى يَنْبُعاً وجَنوبَهُ»، وقول الخطيب البغداديّ: «طبّق شرقَ الأرضِ وغربَها ذكرُه»، علماً أنّهم قد يستعملون المشرق والمغرب بمعنى الشرق والغرب.

فالأسلوبان، أي النسبة والتجرّد منها، متساويان في الصحّة، وقد يُجمعان معاً، كما في قول شاعر من بني قُرَيع، ذكره الجاحظ في «الحيوان»، وهو: «لقد طُفْتُ شَرْقيَّ البلادِ وغربَها».

أمّا الجهات المركّبة، فهي إمّا صفات مركّبة من متعدّد، ومثالها قول ياقوت الحمويّ في كلامه على أقسام الأرض الأربعة: «وهذا الرُبع شَرقيٌّ شماليٌّ»، أو اسم مركّب تركيباً إضافيّا، كتعريف ياقوت نفسه لدَرْعة بأنّها «مدينة صغيرة بالمَغْرب من جنوبِ الغرب». ولم نجد، في ما نعرفه، جهة مركّبة مضافة إلى اسم موضع أو شبهه، لعلّ ذلك لتحاشي الثقل. لكنّ معاصرينا استعملوا تلك الإضافة وحاروا فيها، فقالوا مثلاً: جنوب شرق آسيا، أو جنوب شرقيّ آسيا، أو جنوبيّ شرقيّ آسيا، ونحن نفضّل أن يقال: الجنوب الشرقيّ من آسيا.

وأما الجهات غير المضافة الدالّة على ظروف فإنّها لا تُنسب، ومن ذلك قول ابن المقفّع: «وتذهبُ بي شرقاً وغرباً» وقوله: «ونظر يميناً وشمالاً»، وقول الجاحظ: «أخذ هذا شرقاً، وهذا غرباً، ولم يلتقيا».

ومن البديهيّات أنّ المنسوب إليه أسبق من المنسوب، فأسماء الجهات المجرّدة هي الأصل، والمنسوب إليها كالمشتقّ منها. وهذا يسمح بالاعتقاد أنّ الأسماء الدالّة على الجهات حين لم تلزم معنىً واحداً، بل اكتسبت معاني متعدّدة، بعضها على صلة بالجهات، وبعضها مستقلّ عنها، كـ «الشمال» الذي يعني الجهة العليا من الأرض، ويعني الريح التي تهبّ من تلك الجهة، ويعني اليد اليُسرى، الخ. والجَنوب الذي يعني: الجهة الدنيا من الأرض، والريحَ الآتية من تلك الجهة، وحين آنس المستعمِل التباس المعاني، وتقدُّمَ بعضها، ولاسيّما معنى الريح، على معنى الجهة، آثر التفريق بين الأشياء وتخصيص الجهات المضافة إلى مواضع أو الواصفة لها بالمنسوب، وبصورة خاصّة في النصوص الجغرافيّة.

وتدلّ الشواهد السابقة أنّ أسماء الجهات المعْربة والمنسوبات إليها لا تأتي ظروفاً منصوبة فحسب، بل هي ككل الأسماء العربيّة، قد تأتي مرفوعة أيضاً كما في بعض الشواهد والأمثلة السابقة، وكما في قول ياقوت الحمويّ: «السَرَطانُ، وله إرمينية الصغرى وشرقيُّ خُراسان، الخ..»، وقد تأتي مجرورة، كما في قول الطبريّ: «وخرج قابيل مِن قُدّام الله عزّ وجل، من شرقيّ عَدَنِ الجنّة»، وقول ابن عبد ربه: «مِنى قرية بشرقيِّ مكّة» وقول الخطيب البغداديّ: «من لَدُنْ تخوم المَوْصِل (...) إلى ساحل البحر ببلاد عَبّادان من شرقيِّ دجلة».. إلخ. وهناك استعمالان لافتان في تعيين الجهات: الأوّل هو القِبْليّ، بمعنى الجَنوبيّ، وهو منسوب إلى القِبْلة، وينبغي أن يكون خاصّاً بالمواضع والبلاد التي تقع شماليّ المسجد الحرام، ومنه قول ابن عبد ربه: «في آخر مَسْقَفه القِبْليّ مِمّا يلي الصَحن»، يعني صحن المسجد النبويّ، وكقول الخطيب البغداديّ: «وللمدينة أربعة أبواب: شرقيٌّ وغربيٌّ وقِبْليٌّ وشماليٌّ». ولا ندري إن كان سكان جنوبيّ المسجد الحرام، والجنوب الغربيّ أو الشرقيّ منه، يستعملون خلاف ذلك، فيجعلون القِبْليّ هو الشماليّ.

والاستعمال الثاني هو البَحْريّ، وقد أورده ياقوت في حديث منسوب إلى الصحابيّ أَنَس بن مالِك، وفيه: «لمّا حَشَرَ اللهُ الخلائقَ إلى بابِل، بَعَثَ إليهم ريحاً شرقيّةً وغربيّةً وقِبْليّةً وبحريّةً»، وسياق الكلام يفيد أنّ البحريّة هي الشماليّة، وهو استعمال نادر لم نظفر بما يؤيّده، لكنّنا نعلم أنّ أهل مصر يستعملون اليوم مصطلح «الوَجْه القِبْليّ» لصعيد مصر، وهو في جزئها الجنوبيّ، و«الوجه البَحْريّ» لدلتا النيل، أو أدنى مصر، وهي في جزئها الشماليّ، ربّما لأنّ البحر المتوسّط هو حدّ مصر الشماليّ. وغنيّ عن التوضيح أنّ القِبليّ والبحريّ لا يأتيان إلاّ منسوبين. تبقى الاتجاهات النسبيّة المتّصلة بيدَي المتكلّم أو المخاطب أو الغائب: اليمين والشمال أو اليسار، وتكون ظروفاً منصوبة أو مجرورة بالحرف، كقول الحديث النبويّ: «فَعَاثَ يميناً، وعاثَ شمالاً» وقوله: «فجعل الكعبةَ عن يساره وعرفةَ عن يمينه»، وقول أحدهم: «إذا دخلتِ جهنّم فخذي على شمالكِ»، وكذلك الاتجاهات المتّصلة بموقعِ الكائن الموجود في المكان: قُدّام وخلف وتحت وفوق وقبالة.. إلخ. وهذه أيضاً ظروف، وهي في غنى عن التمثيل لوضوح استعمالها.

والخطأ الشائع الذي كان ينبغي للمتشددّين ملاحظته هو قولهم مثلاً: شماليّ إفريقيّة أو شمالها، ومعناه عندهم المنطقة الشماليّة من إفريقيّة، والحقيقة أنّه يعني ما يجاور إفريقيّة من جهة الشمال، وهو البحر المتوسّط، وصواب القول هو: إفريقيّة الشماليّة، خلافاً لرأي من أومأنا إليه في أوّل هذه المقالة.

 

 

مصطفى الجوزو