جمال العربية

جمال العربية

شاعر في مرآة شاعر:
«المتنبي» كما صوّره «عمر أبو ريشة»

المناسبة هي المهرجان الألفيّ لأبي الطيب المتنبي، والمكان هو مدرّج الجامعة السورية في دمشق، والمشاركون هم كبار شعراء الأمة العربية - من الخليج إلى المحيط - يلتفّون من حول رمز العربية الأول، وأمير بيانها الخالد، ويرسم كلّ منهم بريشة إبداعه، ووعيه بالحضور الشعري الطاغي للمتنبي عبر العصور، لوحةً شعرية فاتنة، تتمايز عن غيرها لغةً وشاعرية ومداخل وأنغامًا.

كان يومًا مشهودًا من عام 1935، وكانت الشعرية السورية - في ذلك الحين - تشهد بدايات التألق والاكتمال لشاعريْن فريدين هما صوت الشعر العربي في سورية خلال النصف الأول من القرن العشرين: بدوي الجبل وعمر أبو ريشة.

ولد عمر أبو ريشة في مَنْبِج بسورية عام 1910، وكان رحيله عام 1990. درس الأدب العربي وشغف بالشعر الإنجليزي. تقول عنه الموسوعة العربية الميسّرة إنه انتسب إلى الجامعة الأمريكية في بيروت وحصل على بكالوريوس العلوم، وذهب إلى مانشيستر ليدرس صناعة النسيج، لكن الشعر الأصيل في وجدانه غلب عليه. عمل مديرًا لدار الكتب في حلب، وانتخب عضوًا في المجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية السوري) عام 1948 وأصبح شاعر سورية الأول، ثم عين ملحقًا ثقافيًّا لسورية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، فسفيرًا لبلاده في البرازيل فالأرجنتين وشيلي ثم سفيرًا للجمهورية العربية المتحدة في الهند فالنمسا. من مؤلفاته: «سميراميس» و«رايات ذي قار» و«الطوفان» و«محكمة الشعراء»، وديواناه: من عمر أبو ريشة ومختارات عمر أبو ريشة، وقد جمع قصائده في ديوان صدر عام 1970 وفيه نُحسّ أننا إزاء شاعر يحب الجمال ويلحّ على النضال.

الجمال والنضال هما الملمحان الأساسيان في شعره. واللغة التي تمزج بين الطابعين البدوي والعصري هي لغته وأسلوبه، والشموخ والعنفوان سمة بارزة وملازمة في حال عشقه وصبواته، وحال وطنياته وقومياته. واستيعابه الواعي العميق لتراث أمته الشعري يجعله في موقف الندّية وجسارة التناول كلما اقتربت أنفاسه الشعرية من أنفاس سابقيه من شعراء الأمة الكبار. لا يلقي بالاً إلى الرقيب الذي تستوقفه في قصائده اتهامات صريحة وشبهات واضحة ومواقف تدفع بالشاعر إلى الجهر بإدانته للحكام العرب، والقادة والساسة الذين لم يكونوا أهلاً لمتطلبات الواقع العربي كفاحًا ونضالاً واستبسالاً ومقاومة، الأمر الذي أدّى إلى حجب كثير من أبيات قصائده النارية في إدانة الخونة والعملاء والمترددين، لكنه عاد إلى نشرها كاملة عندما نشر ديوانه الكامل، بعد أن تغيرت الأوضاع وتغير معها الرقباء.

وعمر أبو ريشة هو الشاعر الذي اعتصرته نكبة فلسطين - كما أطلق عليها - عام 1948، وفجر زلزالها بركان شاعريته العارم وغضبه الجارف، في لون من الإبداع الشعري، رددته جماهير الوطن العربي باعتباره وقودًا وزادًا، وأناشيد توق للحرية والمواجهة والانتصار. ووخزًا عنيفًا لمن تسببوا في النكبة التي كانت الصدمة الأولى والقارعة المباغتة، التي لم تنجح في بعث النخوة والحياة في الأرواح الهامدة والنفوس الميتة:

أمتي، هل لك بين الأُممِ
منبر للسيف أو للقلمِ
أتلقّاكِ وطرْفي مطرقٌ
خجلاً من أمسكِ المنصرمِ
ويكاد الدمع يهمي عابثا
ببقايا كبرياءِ الألمِ
أين دنياك التي أوحت إلى
وَتَرى كلَّ يتيم النغمِ
كم تخطّيْتُ على أصدائهِ
ملعب العزّ ومغنى الشَّممِ
وتهاديت كأني ساحب
مئزري فوق جباه الأنجمِ

وصولاً إلى قوله:

أمتي، كم غُصّةٍ داميةٍ
خنقت نجوى علاكِ في فمي
أيُّ جرحٍ في إبائي راعفٍ
فاته الآسى، فلم يلتئمِ
ألإسرائيل تعلو راية
في حمى المهد وظلِّ الحرمِ!
كيف أغضيت على الذل ولم
تنفضي عنك غبار التُّهمِ
أوما كنتِ إذا البغي اعتدى
موجةً من لهبٍ أو من دمِ
فيم أقدمت، وأحجمْتِ، ولم
يشتفِ الثأر ولم تنتقمي
اسمعي نوْح الحزانى واطربي
وانظري دمع اليتامى وابْسمي
ودعي القادة في أهوائها
تتفانى في خسيس المغنمِ
رُبّ «وامعتصماهُ» انطلقت
ملء أفواه البناتِ اليُتَّمِ
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصمِ

صعودًا إلى ذروة القصيدة شعريًّا وعُروبيًّا:

أمتي، كم صنمٍ مجَّدْتهِ
لم يكن يحمل طُهْرَ الصّنمِ
لا يلام الذئبُ في عُدوانهِ
إن يك الراعي عدوَّ الغنمِِ
فاحْبِسي الشكوى فلولاكِ لما
كان في الحكم عبيد الدرهمِ!

لكن شعاع الأمل ما يزال متمثلاً في الجندي العربي - كبش الفداء - لأمته الجريحة:

أيها الجنديّ يا كبْش الفدا
يا شعاع الأمل المبتسمِ
ما عرفْت البخل بالروح، إذا
طلبْتها غُصصُ المجدِ الظمي
بُوركَ الجرحُ الذي تحملُه
شرفًا تحت ظلالِ العلمِ

هذه الشعرية الجياشة بالإيقاع الهادر، واللغة المجلجلة، وهذا الحسُّ القومي المشبوب، يقابله في الملمح الآخر من شعر أبو ريشة، افتتان رومانسيّ عارم، وعواطف مشبوبة، وخيال منطلق، وصور وألوان اختزنها الشاعر طوال أسفاره وتنقلاته في أثناء عمله الدبلوماسي عبر قارات وأجواء مختلفة، وبشر وثقافات متعددة. وكأنه كان يفتح لمن بعده من شعراء سورية - وبخاصة أنبغهم وأكثرهم طاقة شعرية - نزار قباني، أبواب الجسارة والجرأة في مجاليْ المرأة والوطن، ويمنحهم جناحين محلّقين إلى آفاق لم يبلغها الشعر السوري من قبل. والشاعر يعزف على وتري الكلاسيكية الجديدة والرومانسية الوليدة في جدلية إبداعية بديعة.

وتواتي الشاعر فرصة ذهبية للكشف الأعمق عن معدنه الشعري وبنيانه الأصيل المتكئ على ثقافتين تراثية وعصرية، شرقية وغربية، هي فرصة الاحتفال الألفي بشاعره الأثير: المتنبي، رمز الإباء والشموخ، وحامل لواء الخلود، والقابع بشعره في ضمير الأمة ووجدانها الموّار، زمانًا بعد زمان. عمر أبو ريشة يخاطب في المتنبي شاعر الخلد وشاعر العرب ويستنهض من وراء شعره سيف الدولة من آل حمدان، الرمز المفتقد، والتجسيد الحيّ لفكرة البطولة كما صوّرها خيال المتنبي في شعره. أبو ريشة في مواجهة المتنبي، يملؤه الأسى والخجل، فالعرب حيارى في قبضة عسراء. يدور بعينيه بحثًا عن لمع المنى وحمحمة الخيل ووهج القنا وخفْق اللواء. يبحث عن الميامين ترفرف من فوق هاماتهم أعلام النّصْر. وهو يعترف بأن نشيده للمتنبي هو في جوهره بحّة من تفجّع وعناء، بكائية يزداد عمق مرارتها كلما التمعت من خلالها صور العصر الذي كان المتنبي صوته وإبداعه وكان سيف الدولة الحمداني رمزه وفارسه.

كان أبو ريشة في الخامسة والعشرين حين أبدع قصيدته عن «المتنبي» جاعلاً منها مرآة تنعكس عليها حال أمة وانكسارة تاريخ. وكان المتنبي سنده في هذه الوقفة المطأطئة لعل نسْغًا منه يسري في شرايين الحاضر أو قبسًا من فحولته الشعرية يضيء لشعراء العصر معالم الطريق.

يقول عمر أبو ريشة:

شاخصُ الطرف في رحاب الفضاءِ
فوق طودٍ عالي المناكب ناءِ
يرقب الفجر والندى مالىءٌ بُرْ
ديْهِ والشعر مائجٌ في الهواءِ
شاعر خافقُ الجوانحِ بالحبِّ
بعيد عن عالم الضوضاءِ
تتراءى في وجهه الهادئ الوا
جمِ آيُ الوداعةِ الغرّاءِ
وبعينيْه بارقٌ قذفتْهُ
شعلة الروح مُبّهم اللألاءِ

***

نهض الفجر مثقلاً يتلوّى
فوق صدر الطبيعة الخرساءِ
يتخطىّ الربى وئيدًا ويهمى
بشتيت الأظلال والأنداءِ
وثبة إثر وثبةٍ ذائب الألـ
ـوانِ فيها وجامدُ الأضواءِ
فارتدى الكون بُردةً من جمالٍ
وتهادى بباسم النعماء
وإذا الطير بين كرٍّ وفرٍّ
من غدير لروضةٍ غنّاءِ
صُورٌ أُفرغت على أذن الشَّا
عرِ نجوى عُلويّة الإيحاءِ

***

بلغ المنحنى، فجاز مدى الطَّرْ
فِ، بِحسٍّ مُفَجَّعِ الأنباءِ
مأتم الشمس ضجَّ في كبد الأُفْـ
ـقِ، وأهوى بطعنةٍ نجلاءِ
عصبت أرؤُسَ الروابي الحزانى
بعصابٍ من جامدات الدماءِ
فأطلّت من خدرها غادة الَّليْـ
ـلِ، وتاهت في ميسة الخيلاءِ
وأكبّتْ تحلُّ ذاك العصابَ الـ
أرجوانيٍّ باليد السَّمراءِ
وذؤاباتُ شعرها تترامى
في فسيح الآفاق والأجواءِ
وعيون السّماء ترنو إليها
من شقوق الملاءة السوداءِ
فإذا الكون لُجّةٌ من جلالٍ
فجّرتْها أنامل الظلماءِ
فتطلُّ الأشباح من كُوّة الوهـ
ـمِ، وتعوي مجنونةً في العراءِ
وتموج الأصداء من زفرة الأر
ضِ، بأذن المهابة الصماءِ
صورٌ أفْرغت على أذن الشَّا
عرِ نجوى عُلويّةِ الإيحاءِ

وصولاً إلى قوله:

كم على تربة الزمان من الأوْ
تار ظلّت في نضرةِ وبهاءِ
دفقاتُ التذكارِ تغسلُ عنها
من غبار النسيان كلَّ غشاءِ
أبدًا تُرقصُ الحياةَ، وسمعُ الدّ
هرِ في نشوة من الإصغاءِ
أمنتْ ريشة الغناءِ فما زا
ل صداها ذاك القريب النائي
فكأنّ العزّاف لم ينفضوا الأيْـ
ـدي، ولم يهجعوا بحضْن العفاءِ
بين تلك الأوتار في عالميْها
وترٌ صيغ من سنا الصحراءِ
غمر العُرْبَ سحرهُ الفاتنُ البكْـ
ـر، وناداهمو بخير نداءِ
فيه من غضبة الإباء على الضّيْـ
مِ، وفيه من بسمة العلياءِ
يحبسُ الدمعة التي سكبتْها
في سخاءٍ محاجرُ البؤساءِ
صقلتْهُ أناملُ المتنبي
فإذا الشعر مُستَفزُّ الأداءِ
بدويٌّ لين الحضارة في بُرديْـ
ـه، ناجَى خشونةَ البيداءِ
حضنتْه العلياءُ طفلاً وكهلاً
وغَذتْهُ بأكرم الأثداءِ
فتهادى يختالُ في ظلمة الأر
ضِ، وعيناهُ في ذرى الجوزاءِ
عزة تدفعُ الجبان إلى الثّأْ
ر فيمضي للغارة الشعواءِ
وطموح مُجنّحٌ يترك النَّسْـ
ـر كسيحًا في زحمة الأنواءِ

ثم يقول عمر أبو ريشة:

شاعر الخلدِ قف على قُبة الخُلْـ
ـدِ، وشاهد أئمة الشعراءِ
هتفوا باسْمك المُضمّخِ بالمَجْـ
ـدِ، وكدّوا حناجرًا من ثناءِ
قربوا عهدك البعيد فمرّت
صورٌ منه فاتناتُ الرّواءِ
ذاك سيف الدولات من آل حَمْدا
نَ، منار في السلم والهيجاءِ
مشرق الوجه دافقُ النِّعم الحُمْـ
ـرِ، صليبُ الشكيمةَ العرباءِ
ذاك كافور، ضحكة الهزء في التَّا
ريخ يَنْهَى ومصر في إغضاءِ
صور من بيانك البكر تبقى
نُهبة الطرْف غضّة الإيماءِ
شاعرَ العُرب غُضَّ طرْفَك فالعُرْ
بُ حيارى في قبضةٍ عسراءِ
يخجلُ المجدُ أن يرى الليث شِلْوًا
تحت أنياب حيّةٍ رقطاءِ

 

 

 

فاروق شوشة