إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

هل فعلا العالم قرية صغيرة؟

مما لاشك فيه أن مصطلح «القرية الصغيرة» الذي يُطلق على العالم اليوم، يهدهدنا ويشعرنا بالأمان، لما تحمله هاته الكلمة «قرية» من معاني البراءة والحميمية والفطرة والدفء والألفة، بعيدا عن كل أجواء التوتر والتشنج والبرودة والاستهلاك وإرادة التسلط التي تسود العالم، لكن هل فعلا العالم قرية صغيرة؟

يظل هذا الإطلاق ملغوما، يستدرجنا بذكاء للتيه في حالة تخبط وعماء، ربما نعيش في عالم تنعدم فيه الحدود، مدجج بثورة معلوماتية هائلة، يجعل المسافة بين أقصى الأرض وأدناها مجرد رمشة عين، ونستأنس فيه بالخفة كرد فعل على تحجر وثقل العالم كما يرى إيتالوكالفينو، ربما نعيش في عالم «ليبيرالي» منفتح يسمح بسرعة انتقال المعرفة والأفكاروالسلع والمعلومات والقيم والمكتسبات الإنسانية، لكن في الحقيقة، هو إطار زخرفي يختزن زمنا آخر «إمبرياليا»، يخضعنا نحن العرب لكل أشكال التبعية والاستلاب والهجانة.

تبدو المراسلة عبر «الإيميل» مع شخص يعيش في أمريكا أمرا ممتعا، يجعلنا نتوهم أننا نعيش والآخر زمنا واحدا، زمن العولمة والحداثة وما بعدها، زمن العقلانية والديمقراطية والحرية، نتلذذ بهذا الزمن المشترك الذي يجمعنا، لكننا نستفيق على الحقيقة المرة، في عراء تام من منظومة قيمنا الخاصة، مثقلين بغلواء حنقنا من واقع عربي يتوهم مسايرته لعالم متغير، نتفيأ ظلال الماضي والتراث أحيانا، نتقوقع وننعزل أحيانا أخرى، نناصب العداء للآخر ونعلق أخطاءنا على شجرته، ننفتح أحيانا عليه من دون أية مناعة او مصل مضاد، لكن لا بد من الوعي بأننا نستظل زمنا ليس لنا ونرتع في عالم أثخنته الأوهام والتلفيقات والشعارات، مهووس بحداثة زاعقة معوقة، عالم تم فيه «أمركة» كل القيم، و لامكان فيه لحوار الحضارات ولا المثاقفة، وأي حوار هذا في ظل أحادية القطب وانعدام التكافؤ والرغبة في الإلغاء لتعزيز الذات الأمريكية، عالم غربي مازال نادما على فقدان بعض أطرافه في حركات تحرر وطنية، ليستعيدها من جديد في عملية استعمار جديد، عالم ليس «عصر أحلام ولا عصر معجزات بل عصر حسابات دولية وضرورات اقتصادية وخطوات سياسية» كما يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري.

لكن ماذا عن زمننا العربي المفقود، هل سنظل نبكي عليه كما بكينا «الأندلس» طوال العقود الماضية، وكما نبكي اليوم «القدس»، هل سنظل أسرى زمن الآخر، متوهمين أنه زمننا؟

لا بد من المقاومة لصنع زمننا العربي الخاص بنا، والتحلي بالجرأة لمواجهة الذات العربية ومصارحتها بماهيتها، ولننظر إلى أنفسنا في المرآة، كي نبصر عن قرب كل شروخها وتصدعاتها، ولابأس من الانفتاح على الآخر مع الوعي بشروط واقعنا وشروط تفاعلنا مع الآخر، والوعي بأننا نعيش زمنا ليس لنا، بل صنعه لنا الآخر واستدرجنا إليه بدهاء ميكيافيلي، ونحن غير مؤهلين بعد للانخراط فيه، وما زلنا نعيش مرحلة ما قبل الحداثة، بأنظمتها الاستبدادية، بسجونها، وبكل قمع للحريات، وتفاوت صارخ في توزيع الثروات، وقهر وإذلال لكرامة الإنسان، بلا ديمقراطيتها بشكل يخلق الهوة بين الشعوب والأنظمة ويسمح بغزو الإمبراطوريات العالمية للشعوب المغلوبة على أمرها. إنه يلزمنا الوقت الكثير كي نعيش الحداثة بحذافيرها، ولا نتشدق بها فقط في المؤتمرات والندوات.

 

 

 

إكرام عبدي