مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

رحلة القلم

لا يستطيع الأديب أو الفنان أن يتذكر الظروف التي مهدت لاختياره مهنته، فهذه تظل من الأسرار الخافية حتى على أصحابها.

أنا كاتب وأديب، وقد نظمت الشعر وكتبت القصة القصيرة والمقال، وتوهمت في مطلع الشباب أني أريد أن أصبح ناقداً أدبياً، ولما استهوتني الفنون التعبيرية توهمت أني أميل إلى أن أصبح ناقداً مسرحياً أو سينمائياً، ولكن التأليف المسرحي اجتذبني إلى دنياه الجميلة ليصبح هو اختياري ومهنتي وهواي.

أنا كانت مسرحي، ولكني أستطيع التصريح بأني دخلت المسرح من باب الممثلين الهواة. ولم أكن أقدر أو أظن وأنا تلميذ صغير في المدرسة الابتدائية أني حين دخلت منصة المسرح من "الكواليس" كنت أدخل المسرح في الواقع من المدخل المناسب لي.

كان المخرج المسرحي الذي اختارني ودربني هو الأستاذ محمد مصطفى سامي الذي أصبح في الأربعينيات من أشهر كتاب السينما وكتاب السيناريو. وقد أسند لي دور العمدة الريفي الذي يزكي التعليم ويلح على شيخ الخفر بمواصلة تعليم أولاده.

فلما أجدت التمثيل، وأجدت النطق باللهجة الريفية التي لم تكن لهجة الخطاب في بيتنا السكندري، أسند إليّ المخرج أيضاً دوراً آخر في مسرحية "مجنون ليلى" للشاعر الكبير أحمد شوقي، وتلقيت بخيلاء طائش ملاحظته وملاحظة المدرسين وزملائي أني أجدت النطق بالفصحى مثل إجادتي النطق باللهجة الريفية برغم أني اسكندري اللهجة والنشأة.

وقد كان تعليق محمد مصطفى سامي علي ذلك قوله وهو يشير إلى "هذا هو الممثل!" فعلمت منه أن إجادة اللهجات وسلامة النطق بها من مواهب التمثيل.

محاولات شعرية

راحت أيام وأتت أيام وأنا في المدرسة الثانوية أمثل في فريق التمثيل بإشراف الكاتب الفنان رشاد حجازي الذي قدم بالمسرح القومي فيما بعد مسرحيات "بنت الجيران" و "حورية من المريخ"، فلماذا كنت آنذاك أكثر اهتماما بمحاولاتي الأولى لنظم الشعر؟ وحين كتبت بعض الأبيات ضمن موضوع الإنشاء سألني الأستاذ أحمد الشرقاوي مدرس اللغة العربية: "من أين جئت بهذه الأبيات؟" فقلت له "أنا نظمتها" فسكت لحظة قم قال: "بارك الله فيك ياولدي" وتطلع إلى زملائي في الفصل وقال : "زميلكم موهوب"، فكانت هذه العبارة القصيرة أكبر جائزة نلتها في صباي.

ذكرت أني كنت أني كنت في فريق التمثيل بالمدرسة، ولم يكن من حظنا أن نمثل شيئا من مسرح الأستاذ رشاد حجازي الذي عرضه المسرح القومي فيما بعد، "بنت الجيران" أو "حورية من المريخ" وإنما كنا نمثل مسرحيات تربوية "كما كانوا يصفونها" مثل "صلاح الدين وملك الإنجليز" أو "عدالة عمر" أو "الوفاء بالوعد" أو "العقوق" وما إليها، وكان زملائي في فريق التمثيل يزاحمون على الأدوار التمثيلية الطويلة أو أدوار البطولة، فلا يبقى لي- من حيائي وضعفي البدني- إلا دور متوسط أو ثانوي، فكنت أنتقم لنفسي بإضافة عدة عبارات

طنانة إلى الدور، أكتبها وأخفي أمرها، ثم أفاجيء بها زملائي يوم التمثيل فأنتزع التصفيق من المشاهدين على غير توقع، وبالخروج عن النص، فأختلس النظر إليهم وهم ينظرون لي فوق المنصة بعجب وحسد وحنق"!".

وبعد الشغب عليّ واتهامي بالخروج عن النص وبالتزيد والإضافة "واختلاس الأضواء" وغير ذلك، أصبح زملائي يسترضونني ويلحون عليّ أن أضيف إلى أدوارهم عبارات طنانة من ذات النوع تنتنزع التصفيق فكنت أفعل على قدر اجتهادي وتأكيداً لكانتي بين زملائي.

أعجب من أني كنت أعيد كتابة بعض مشاهد المسرحيات القديمة ولا يخطر ببالي أني في الوقاع أكتب للمسرح؟

وقد استهوتني كتابة الشعر في المرحلة الجامعية، ونسيت تماما المسرح لأهتم بتأليف قصيدة مهرجان الربيع والقصائد الوجدانية وقصائد الشعر الحديث وقراءتها على زملائي طلبة الأدب أو في مناسبات كلية الآداب.

والشعر هو أصفى الأنواع الأدبية، فكيف لا يستهوي القلب في أول الشباب؟ خاصة ونحن نقرأ في الكلية أشعار المهجر الأمريكي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمه، ونتبادل دواوين علي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، وندرس أشعارت. س إليوت وكوليردج وشكسبير، ثم تصلنا دواوين الشعر الفرنسي وهي ساخنة للشعراء "بول جير الدي" و "إلوار" و "أراجون" فنسهر الليالي قائين.

ولكنني حين قرأت إعلاناً في الجامعة عن مسابقة "محمود تيمور" للقصة القصيرة لطلبة الجامعة قلت: "ولمَ لا؟" ونلت الجائزة الأولى "!" فعجبت من الدنيا ومن نفسي، وارتبكت مقاصدي وحرت في أمري.

وقبل التخرج من الجامعة اجتذبتني الصحافة أيضاً فجربت كتابة النقد وكتابة التقارير الصحفية حول المناسبات الثقافية والأدبية.

ولم لا أكون ناقداً؟ وقد زودتني دراستي بأدوات الناقد ومنهج النقد الأدبي والدرامي؟

ولكن شيئا في النفس كان يخايلني بأضواء المسرح وسحر المسرح وأجوائه الخلابة.

فقبل سنوات كان والدي قد أخذني من يدي- معتزا بتصفيق الجمهور لي في المسرح إثر خروجي عن النص (!)- إلى مسرح "الهمبرا" بالإسكندرية "اسمه الحقيقي مسرح الحمراء باسم قصر أثري بالأندلس" لنشاهد مسرحية نجيب الريحاني "حكاية كل يوم"، فأذهلني تمثيل الفريق، وعلى رأسه الريحاني ذاته، وقلت للوالد" "نجيب الريحاني عندي هو أعظم ممثل في مصر" فقال لي :"ولكنك لم تر يوسف وهبي" وبعد شهر أخذني من يدي لنشاهد مسرحية ليوسف وهبي في نفس المسرح هي "خفايا القاهرة" ولم تبارح ذاكرتي إلى اليوم مواقف المسرحية المثيرة، وأجواؤها المخيفة، وحيلها الفنية الرائعة.

وقد جذبني النجمان الكبيران بعدها لمشاهدة مواسمهما في الإسكندرية بانتظام، ثم السعي لمشاهدة مواسم جورج أبيض ولاعتياد الحضور المنتظم للمسرح في مواسم الفرق الأجنبية التي كانت تنتقل من دار "الأوبرا الملكية" بالقاهرة إلى مسرح "محمد على" بالإسكندرية "هو مسرح سيد درويش اليوم". وقد شاهدت فيه فرق الأورا الإيطالية، والكوميدي فرانسيز وأولدفيك البريطانية، ولا أنسى أبدا مسرحية "مسافر بلا متاع للمؤلف الفرنسي "جان أنوى" في موسم الكوميدي فرانسيز بطولة "جان بيير أومون" وانبهاري بأدائه، أو بأداء جون جليمود في دور الملك لير مسرحية شكسبير الشهيرة في فرقة أولدفيك. "المسرح القومي الملكي البريطاني اليوم".

وقد نشأ جيلي في زمان الأصوات الجميلة والألحان الرائعة لمحمد عبد الوهاب والسنباطي وزكريا وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان. مدرسة كاملة للتذوق والذوق والتربية الجمالية.

يقظة الوعي السياسي

ولكن اسمحوا لي بالعودة إلى سنة 1940 وبدايات الوعي السياسي في سن الطفولة المبكرة، حيث دقت جميع أبواب البيت الصيحات المفزعة لصافرات الإنذار ليعقبها جحيم الانفجارات المدوية وأنا أهرول في صحبة أفراد الأسرة إلى المخبأ المرتجل في الدور الأرضي للعمارة التي نسكنها، واعتدت مشهد تخاطف أفراد الأسرة الصحيفة في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة لنبحث في قلق عن أنباء ضحايا الغارة الليلية وخسائرها.

كانت الصحف والأنباء وقتها ذات أهمية خاصة، وتحتل حيزا خاصاً في حياة الناس، وقد تعذت عليها أحاديث السياسة ومناقشاتها التي تحولت بعد الحرب أيضاً إلى هتافات ومظاهرات وخطب ملتهبة وروح وطنية وقومية متدفقة.

هكذا أصبحت دقات القلوب الشابه للشعر والحب منغمة أيضاً بإيقاع الحركة الوطنية ومشبعة بحب الحرية.

ولكن ما هي الحرية وما جوهرها وما مظهرها، في الاستقلال كما في الشعر الحر والشعر الحديث، كما هي في ذلك "العالم الجديد" الذي كان الحلفاء يعدون به الناس ويصفونه للناس.

وكانت الأحلام أرحب من الواقع الضيق فكانت مصر من جهة وبلاد عربية كثيرة تتململ في ضيق قد اكتسحتها الاضطرابات، وجيل كامل يريد أن يطوي الملف ليفتح ملفا جديدا يعرف أولا يعرف أبعاده، ماذا يهم؟

وقد كانت المدرسة التي نشأنا فيها تحيطنا بثقافة واسعة، وإلى جانب الدروس كنا نتمتع "بالقراءة الحرة" في كتب توزعها الوزارة على التلاميذ من مؤلفات طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وعلي الجارم وفريد أبوحديد ومحمود تيمور، وفي هذه القراءة الحرة نعيش عصرنا ونعتاد قراءة الأدب والاستزادة من الاطلاع.

وقد أعجبت بطه حسين واستعصى علي استيعاب كتب العقاد وسحرني حوار توفيق الحكيم وأسلوبه السهل الجميل في الرواية والمسرحية.

وكانت كتب الحكيم أول كتب الأدب التي اشتريتها بمصروف جيبي، واكتسبت بذلك عادة شراء الكتب وتذاكر المسرح والسفر إلى بلاد الله لمشاهدة المتاحف والمسارح.

ولكن توفيق الحكيم الأديب- المفضل عندي- لم نكن نشاهد أدبه في المسرح (!) وإنما كان في الكتب فقط وطول الأربعينيات والخمسينيات الأول لم يكن له على المسرح إلا مسرحية واحدة هي "الأيدي الناعمة" على المسرح القومي 1954 أخرجها ومثلها يوسف وهبي، ربما لموضوعها السياسي لا لجمالها الدرامي!

نعم، كانوا يقولون: "مسرح الحكيم يصلح للقراءة ولا ينجح في التمثيل لأنه مسرح ذهني (!)".

كان قولهم يغيظني، وربما كان قولهم حافزا لي كي أتحدى ما يقولون، وكي أدحض ما يدعون. وقد تعلمنا في دراسات الأدب الإنجليزي أن المسرح جوهره دائماً فكري وفلسفي، فكان التناقض بين ما تعلمناه وما نقرأه في الصحف عن مسرح توفيق الحكيم يحيرنا ويثيرنا.

كانوا يقولون لنا إن مسرحيات الحكيم "ناعمة" فلا تثير الجمهور أو تعجبه!.

وكنا نقرأ مسرحيات تشيكوف "الناعمة" وحتى مسرحيات "ت س إليوت" الأكثر نعومة ويقال لنا إنها تعرض هنا أو هناك في إنجلترا وأمريكا وفرنسا بنجاح. فنعجب للتناقض بين ما نعلمه وتعلمناه وبين ما يقال لنا عن أدب توفيق الحكيم المسرحي.

وقد كنا نتعلم في الجامعة معالجة الأدب المسرحي بالتحليل والتفسير والتأويل واكتشاف العلاقة بين فن المسرح وبين العصر الذي ازدهر فيه مرامي الكاتب وفكره وفلسفته.

دفاعا عن المسرح الذهني

وأحسست أني أريد أن أكتب للمسرح، ربما دفاعا عن المسرح الذهني والفكري وعن مسرح توفيق الحكيم، ودفعا لدعاوى تبرر مسرح النكات الهزلية أو الفواجع الميلودرامية، وهما عمودا المسرح المتكلف والمصطنع والخاوي والأجوف الذي كان يغلب على حال المسرح في الخمسينيات بالقاهرة.

وقد تعرفت بالصديق العزيز والفنان الرائع حمدي غيث في تلك الحقبة،وكان عائدا من بعثته إلى فرنسا مع نبيل الألفي، وكان على رأس جماعة الفنانين الشبان من خريجي معهد التمثيل الذين كانوا يضيقون بحال المسرح وبالفرص الضيقة أمامهم. ولما شاهدت مسرحيتين آخرهما "مقالب سكابان" موليير و "شاعر الشعب" بانفيل أحببت أسلوبه الحداثي في الإخراج، وتغلبت على حيائي وسلمته مسرحيتي "مأساة إخناتون" التي أشار عليّ صديقي العزيز الراحل "رشدي صالح" بأن أسميها "سقوط فرعون" ليكون الاسم أكثر جاذبية للمشاهدين، ففعلت.

ولما قرأ حمدي غيث مسرحيتي ورآني صاح بي "نحن نبحث عنك منذ سنوات"! قلت له "كنت معك أول أمس"! فال لي: "نعم، ولكنني لم أكن أعرف أنك كاتبنا المسرحي الجديد الذي سيرفرف فننا مع أوراقه لنحلق في الأجواء الرفيعة"! فما كان أروع وقع هذه الكلمات في نفسي!.

وقد تحقق بذلك موعدنا، حمدي غيث ومحمد الطوخي وسميحة أيوب وحسن يوسف ورجاء حسين وسهير البابلي وعبدالله غيث ومحمد الدفراوي وسناء جميل، مع حسين رياض وشفيق نورالدين وحسن البارودي وفاخر فاخر، وكاتب هذه السطور في أول لقاء متوهج لي معهم، ومع الجمهور، لنتبادل مع الجمهور مشاعر الدهشة والاكتشافات في إطار من المسرح "الجديد" 1957 في أول السنوات التي سميناها فيما بعد سنوات "النهضة المسرحية"، وكنت في أول الشباب، وكنت أشعر في أعماق النفس أن الأيام ذاتها كانت تتألق في ريعان شبابها.

وقد أحدثت مسرحية "سقوط فرعون" هزة في المياه الراكدة للمسرح المصري آنذاك، فصحا النائمون ساخطين، وانتبه غير المتوقعين في حال من الغضب، أما الذين توقعوا النهضة للمسرح المصري فقد استقبلوا "سقوط فرعون" بابتهاج وترحيب.

نجحت "سقوط فرعون" في أن تجتذب للنقد المسرحي أقلاماً كثيرة، تراوحت مقاصدها بين التنديد بالنص المسرحي وبين الثناء عليه، وصارت المسرحية من كثرة ما كتب عنها في مجالات النقد والأنباء والكاريكاتير حديثا للمدينة، كما يقولون، نقدها الكثيرون نقدا مرا وأثنى عليها أربعة- فيما أذكر- هم عبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم وصلاح عبد الصبور وإدوار الخراط.

وربما كان كل هذا النقد الذي قارب الخمسين مقالة قد حير الرقابة التي اكتشف للمسرحية أهمية لم تكن في حسبانها وقت إجازتها قبل الإنتاج بالمسرح القومي آنذاك، فأعادت دراسة المسرحية والبحث بين سطورها والتعسف في تأويل معانيها، وحارت في التحاليل الفنية والأدبية المتضاربة والتي تداولتها أنهار المقالات، فقرت الأخذ بالأحوط والأمر بابتسار عرض المسرحية التي لم تكن قد أكملت بعد أكثر من أسبوعين أمام الجمهور.

وقد تعرضت أثر ذلك ومن جرائه لمحنة عمري! وعرفت مرارة الأيام في ظلام القيد، وتعلمت في القيد وبالضد درس الحرية والديمقراطية، وعرفت المعنى الأسود لأخذ الناس بالشبهات وتحطيم الأقلام.

أبو الفضول يظهر

ولكني من خلف أطباق الظلام رأيت ضوء شمعة صغيرة، ورأيت على ضوئها رسماً غامضا اتضح مع التأمل والتفكير ومع الأيام، هو صورة أبي الفضول "حلاق بغداد". وتأملت شخصيته التي صارت تبني نفسها أمامي وتستكمل ملامحها أمام عيني، فإذا هو "ابن البلد" المرح الجاد والمهزار الطيب، وتعزيت بفضوله عما لحق بي بسبب فضولي، وبسبب اقتحامي القضايا السياسية من دون "رخصة"! مثلما اقتحمت المسرح من غير تذكرة أو تصريح من العمد المسرحيين، أمني النفس بالنجاح والتوفيق، وأمني النفس بدعم تيار المسرح الفكري "والذهني" والمسرح "الناعم" والمسرح "الهامس" بديلا عن المسرح الزاعق والمسرح الصاخب، إلى جنب توفيق الحكيم، فإذا أنا في غياهب الظلام وفي غيبة أبعد من غيبة المنفى، وفي قيد واحد أنا وقلمي وحريتي وأيامي!.

كنت أغمض عيني فلا رأي إلا أبا الفضول، وأعرف فيه ما عرفته في نفسي من الغرور والجرأة على ادعاء القدرة على الإصلاح والافتنان بادعاء القدرة على نجدة الآخرين بالنظر في أسرارهم! وهل كنت أتصور له أن يبرأ من خصاله ومن فعاله وهي ذات خصالي وفعالي وقوام شخصيتي؟ وهل كان حاله غير حالي وهو الذي كان عندي مثل صورتي في مرآة أتطلع فيها؟ لذلك لم أتردد، وتبعت صورة "أبي الفضول" بهمة وتابعته وصورت حاله في الكوميديا الأثيرة عندي "حلاق بغداد"، فما إن عرضها المسرح القومي سنة 1963 حتى أقبل عليها الجمهور إقبالاً غير مسبوق وأجمع النقاد وكتاب الأركان والأعمدة الصحفية على تزكيتها والثناء عليها، فنسيت آلامي وأيامي الضائعة، وتأكد لي وللفنانين من رفاقي والنقاد والمشاهدين أن التأليف المسرحي هو مهنتي وقدري وحياتي، وأنني أبدأ مشوارا طويلا في الأدب المسرحي وفي الفن المسرحي بما يعرف القراء مراحله وثمراته.

ولدت في قرية "كفر الصيادين" مركز الزقازيق بمحافظة الشرقية، ونشأت وتعلمت في الإسكندرية في بيت به مكتبة تضم عيون التراث الأدبي العربي، كما تضم بدائع الأدب الإنجليزي ومجموعات كاملة من المجلات الثقافية والأدبية الغربية التي كانت تصدر في النصف الأول من هذا القرن البالغ إلى نهايته.

وتعلمت في فصول دراسية لا يزيد عدد التلاميذ فيها على عشرين تلميذا، في مدارس تهتم اهتماماً خاصة بالهوايات الفنية.

هكذا تلقيت تدريبات التمثيل على يد الكتاب السينمائي المرموق "فيما بعد" محمد مصطفى سامي، وتدريبات العزف على الكمان والعزف على آلة الماندولين على يد الفنان قائد الأوركسترا "فيما بعد" حسين جنيد، وتنمية قدرات الرسم على يد الفنان الكبير المدبع صلاح طاهر.

وأحببت القراءة وأعدتها فى نظام القراءة الحرة التى تكفلها المدرسة.

وقد جاد علي زملائي الفنانيين زملاء يصورون "خيالاتي المسرحية" تصويرا مسرحياً أضفى عليها جمالا خاصا، وجاد زماني علي بجمهور أكرمني بالقبول وبالإقبال، وجهات ثقافية حكومية وغير حكومية أكرمتني بالجوائز والأوسمة وميداليات ودروع التكريم.

مشوار فني غني

وهذا كله حفز مشواري الفني وألهمني كتابة "ثلاثة وعشرين عنواناً مسرحياً وروايتين. غير كتب الدراسات والكتابات النقدية والمقالات والمساهمات الأكاديمية.

وكانت جائزتي أيضاً أن بعضا من مسرحياتي كانت ضمن برنامج الإنتاج للمسارح في كل قطر عربي كما أنتجت في مصر بمسارح الدولة ومسارح الأقاليم والجامعات والهواة ونشرت في عدة طبعات.

ولكن نجاحي لم يكن واحتي وراحتي أو كان يغريني بالاطمئنان. فقد كنت دائماً أعاني القلق من تكرار ما نجحت فيه من أشكال أو أغراض فنية، فلم أكتب مسرحية كوميدية بعد المسرحية الكوميدية، ولم أكتب مسرحية باللغة العامية بعد مسرحية بهذه اللغة أو اللجهة، وإنما كنت أسعى دائماً إلى الجديد والساخن وغير المطروق فتنقلت بين الكوميديا والتراجيديا والميلودراما الشعبية والفارس الساخر، وتنقلت بين لهجات الفصحى ومستوياتها وبين اللجهات العامية ومستوياتها وواصلت المسعى الذي دعا إليه توفيق الحكيم باستنباط اللغة الثالثة للمسرح، واكتشفت من خلال مسعاي لغة التخاطب الفصحى أساسا للحوار المسرحي، واكتشف اللغة كعنصر من عناصر الشخصية المسرحية، واكتشفت اللغة كنبرة تناسب الموقف المسرحي، واكتشفت اللغة كإيقاع ضابط للسياق الدرامي واكتشفت ألوان الجمال فيها واختلاقها كتأثيرات درامية.

وقد كان نصب عيني دائما أن أبني للمسرح "ريبرتوارا" يضاف إلى ريبرتواه، أي برنامجا للإنتاج يضاف إلى خزينة التراث الأدبي المسرحي، ولعلمي أن ريبرتوار أي مسرح يجب أن يكون من التنوع واختلاف الصور والأجواء فقد عمدت إلى المساهمة في بناء إنتاج أدبي مسرحي متنوع الصور والأشكال والأطروحات واللمسات الفنية، والنموذج لهذا أمامي هو شكسبير لاموليير صاحب النوع المسرحي الواحد.

ولأني دخلت ساحة التأليف المسرحي من باب الممثلين، والممثل يدخل حياته الفنية ممسكا بقناعين هما الضاحك والباكي، فقد كتبت مسرحياتي على أوراق عليها الرسم المائي الخفي للقناعين، وكنت صاحب تجربة ومعرفة وهوى للونين وللاتجاهين والنوعين.

وقد كنت دائماً أشعر بضيق المساحة للمشاهدة المسرحية في وسط القاهرة، وأتطلع إلى فن مسرحي قومي بمعنى اتساع قاعدة المشاهدة لذات المسرحيات على مدى العالم العربي كله، واتساعها على مدى أقاليم مصر ومحافظاتها، فساهمت مع من ساهموا في تأسيس المسرح الإقليمي والفرق المسرحية للمحافظات فيما سمي بالإدارة العامة للثقافة الجماهيرية "الهئية العامة لقصور الثقافة حاليا" لتماثل فرقا مسرحية نظيرة في البلاد الأوروبية والأمريكية.

وقد تقلدت وظائف في وزارة الثقافة واختارتني الوزارة للتفرغ للكتابة المسرحية من 1963 إلى 1967، ثم واجهتني أزمة "بيان توفيق الحكيم" في فبراير 1973 فأعادت القيد إلى قلمي، وحاصرتني أشباح محنتي السابقة فاخترت السفر إلى الجزائر ثم إلى بريطانيا حتى منتصف الثمانينيات، وعدت في ظروف جديدة ودنيا متجددة لأساهم في إقالة المسرح من عثراته بالدراسات وبالمقال ومن موقع المقرر للجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، وبالإبداع، فقدمت للمسرح بضعة عناوين جديدة لاقت النجاح والإقبال من المشاهدين. وأنا في قمة العمر لا أعرف إلا ماورائي وأجهل ما أمامي، ومع ذلك لا أحب النظر إلى الخلف قدر ما أتمنى رؤية ما هو أمامي وكشف خفايا أيامنا المقبلة في دورة القرن بعد سنتين.

أتطلع إلى "العالم الجديد" كما يسمونه وأتمنى أن يخلي السبيل للإبداع في الفكر والعلم والفن ليرسم خطى الأجيال القادمة إلى سعادة المستقبل، وأن يتحرر الإنسان في كل مكان من التخلف الحضاري والظلم السياسي والتلوث البيئ، وأن ترتفع رايات الحرية والمساواة في الدنيا كلها.

 

ألفريد فرج

 
  




ألفريد فرج